العالم على أبواب فجرعصر ما بعد أمريكي..
هل تعاني الإمبراطورية الأمريكية من الانحدار نفسه الذي عانت منه سابقتها البريطانية؟
هكذا يتساءل المؤرّخ إيريك هوبسباوم؟
ترجمة قاسيون
إنّ أفول «وال ستريت»، رمز السيطرة المالية للولايات المتحدة، وبالمقابل، الصعود الاقتصادي والمالي للصين، التي استطاعت استخدام التقسيم الدوليّ للعمل للمباشرة في تنميّةٍ مستقلّة، وحركات اليسار القويّة في أميركا اللاتينية، أو بروز الدبلوماسية الهندية، كلّها عوامل تشهد، كلٌّ منها بطريقةٍ مختلفة، على انقلابٍ في العلاقات الدولية. فمكان عالمٍ أحاديّ القطب كانت السيطرة فيه للغرب، تولد جغرافيا سياسية جديدة تمتاز بتعّدد الأقطاب.. وتتمثل بدول ذات نفوذ في الدرجة الأولى.
بعض الأخبار المجمَّعة خلال صيف العام 2008، حتى قبل وصول الإعصار الذي يدمّر الكوكب المالي: تخطّى عدد رواد الأنترنت في الصين عددهم في أميركا، ولم تعد الولايات المتحدة تمثّل سوى 25 في المئة من نسبة استخدام الشبكة، مقابل أكثر من النصف منذ عشرة أعوام؛ وقد باءت المحاولات لإعادة إحياء دورة الدوحة للمفاوضات التجارية الدولية بالفشل، خصوصاً بسبب رفض الهند والصين التضحية بمزارعيهما الذين سبق إفقارهم على مذبح التبادل الحرّ؛ ثمّ دافعت روسيا، خلال الأزمة الجورجية، عن مصالحها القوميّة في القوقاز، بالرغم من احتجاجات واشنطـن المتذبذبة.
تشهد هذه الوقائع المتفرّقة، بين سواها، على إعادة تشكيلٍ للعلاقات الدولية: من خلال نهاية الهيمنة الحصريّة للغرب التي فرضت نفسها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولا يمكن للتداعي الحالي للنظام المالي سوى تسريع حركة الانكفاء الغربي هذه. وفي 30 أيلول/سبتمبر، وضعت الأسبوعية الألمانية Der Spiegel عنواناً صغيراً، «أميركا تخسر دورها الاقتصادي المهيمن»، تحت العنوان الكبير: «نهاية التعجرف». ولسخرية التاريخ، جاء هذا الفاصل بعد أقلّ من عقدين على انهيار «المعسكر الاشتراكي» بقيادة الاتحاد السوفييتي، والانتصار الظاهري لمبادئ الاقتصاد الليبرالي.
نهاية الهيمنة الغربية
هنالك دائماً مجازفة في التنبّؤ. ففي العام 1983، وقبل عامين على دخول السيّد ميخائيل غورباتشيف إلى الكرملين، كان جان فرانسوا ريفيل يتوقّع نهاية عهد الديموقراطيات، العاجزة عن محاربة «أخطر أعدائها الخارجيّين، الشيوعية، وهي البديل الحالي والنموذج المكتمل للتوتاليتاريّة». وبعد بضعة أعوام، أعلن فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» مع الانتصار الحصريّ للنموذج الأميركي الغربي... ثمّ بعد حرب الخليج الأولى (1990-1991)، تراءى للعديد من المراقبين فجرٌ أمريكيٌ للقرن الواحد والعشرين.
بعدها بخمس عشرة سنة، ظهر توافقٌ جديد، أقرب إلى الواقع على ما يبدو: نحن ندخل في «عالم ما بعد الولايات المتحدة». بحسب ما يعترف به الكتاب الأبيض للدفاع والأمن القومي Livre Blanc sur la défense et la sécurité nationale الذي اعتمدته الحكومة الفرنسية في حزيران/يونيو 2008، «لم يعد العالم الغربي، أي أوروبا وأميركا بشكل أساسي، يستحوذ بمفرده على المبادرة الاقتصادية والإستراتيجية كما كان عليه الأمر في العام 1994».
فهل سيكون العالم متعدّد الأقطاب؟ لا شكّ على الإطلاق أنّ الولايات المتحدة ستبقى، لأعوامٍ طويلة مقِبلة، هي القوة المهيمنة، وليس فقط على المستوى العسكريّ، إلاّ أنّه عليها أن تأخذ بعين الاعتبار بروز مراكز نفوذٍ في بكين ونيودلهي، في برازيليا وموسكو. ويؤكّد تداعي مفاوضات منظّمة التجارة العالمية، والطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة النووية الإيرانية، إضافةً إلى فصول المفاوضات مع كوريا الشمالية، أنّ الولايات المتحدة، بالرغم من تحالفها مع الاتحاد الأوروبي، لم تعُد قادرةً على فرض وجهة نظرها، وهي بحاجة إلى شركاءٍ آخرين لحلّ الأزمات.
يمكننا أن نضيف إلى تلك القوى الجديدة سلسلةً كاملةً من الفعّاليات يتحدّث عنها، في وصفه لـ«عالمٍ غير قطبي»، السيّد ريتشارد هاس، وهو مسؤولٌ سابقٌ رفيع المستوى في إدارة بوش (الأب)، ثم في وزارة الخارجية، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية (نيويورك)، فهو يعدّد عشوائياً كلاًّ من الوكالة الدولية للطاقة، ومنظمة شانغهاي للتعاون، ومنظمة الصحة العالمية والمنظّمات الإقليمية؛ كما المدن كشانغهاى أو ساو باولو، وكذلك وسائل الإعلام الفضائية، من قناة الجزيرة إلى CNN، وأيضاً الميليشيات، من حزب الله إلى حركة طالبان، وكارتيلات المخدّرات، والمنظمات غير الحكومية... ليخلص إلى التالي: «يشهد العالم اليوم أكثر فأكثر على سلطةٍ موزَّعة بدلاً من تمركزٍ للسلطة».
مهما كان، تطالب الدول، التي تمّ التنبؤ بانهيارها تحت الضربات القاسية للعولمة، بموقعٍ بارزٍ لها، إذ تؤكّد كلٌّ من الصين، والهند، وروسيا والبرازيل على طموحاتها، وتدين نظاماً دولياً كان يهمّشها.. وتدافع دولٌ أخرى، من إيران وصولاً إلى جنوب إفريقيا، مروراً بدول جنوب أميركا، وإندونيسيا، مع طموحاتها المحدودة أكثر، عن مصالحها «الأنانيّة» بتصميم.
لا تحرّك أيٌّ من هذه الدول أيديولوجيا شاملة، كما كانت الحال بالنسبة للاتحاد السوفييتي، ولا تشكّل أيٌّ منها نموذجاً بديلاً، فقد وافقت جميعها، نوعاً ما، على اقتصاد السوق، لكن لا تفكّر أيٌّ منها بالتساهل إزاء مصالحها الوطنية، فكلّ واحدةٍ تحارب أولاً من أجل التحكّم بمواردها الأولية الطبيعيّة التي باتت أكثر ندرةً وكلفة - وفي المرتبة الأولى، النفط والغاز-، ومن أجل حماية قدرتها على إطعام شعبها من الإنتاج الزراعي غير الكافي الذي يهدّده التسخّن الحراري. وهم ثانياً يحمون مصالحهم الجيوسياسية المرتكِزة على رؤية سياسيّة وتاريخٍ طويلٍ جداً: تايوان والتيبيت للصين؛ كشمير للهند وباكستان؛ كوسوفو لصربيا؛ كردستان لتركيا. هذه النزاعات ليست ذائبة وسط عولمةٍ سعيدة، بل على العكس، إنها تُحرّك أكثر من أيّ وقتٍ مضى جماهير واسعة، وهي لن تخمد قريباً.
تكفي نظرة خاطفة إلى خريطة العالم لتُظهِر بأنّ غالبية تلك النزاعات تتوسّع حول «قوسٍ من الأزمات» يمتدّ، بحسب «الكتاب الأبيض»، من الأطلسي وصولاً إلى المحيط الهندي. ويحذّر محرروه من «الخطر الجديد لتشابك النزاعات (الذي) يرتسم بين الشرقيْن الأوسط والأدنى، ومنطقة باكستان وأفغانستان. ويؤدّي وجود برامج، سرّية عموماً، للأسلحة النووية، الكيميائية أو البيولوجية إلى تفاقم هذا الخطر؛ في حين تحصل دول تلك المناطق، وبأعدادٍ كبيرة، علناً أم سرّاً، على قدرات عسكريّة تعتمد على وسائل إطلاق جويّة وعلى صواريخ. هناك خطرٌ في أن يمتدّ تزعزع العراق، المنقسِم إلى طوائف متخاصمة، إلى الشرق الأوسط برمّته. فانعدام الاستقرار في هذا القوس الجغرافي قد يؤثّر، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، على مصالحنا. إنّ الدول الأوروبية متواجدة عسكرياً بصفات مختلفة، في تشاد، وفي فلسطين، وفي لبنان، وفي العراق وأفغانستان. وفي هذه الظروف، قد تكون أوروبا وفرنسا مدعّوتيْن إلى التدخّل أكثر في المستقبل في مجمل المنطقة، للمساعدة على الوقاية ومعالجة الأزمات».
قوسٌ من الأزمات من الأطلسي إلى المحيط الهندي
ويتطابق هذا التحليل مع ذلك لغالبيّة الاستراتيجيّين الأميركيّين، والذي لخّصه السيّد ويليام بيرنز، المسؤول الكبير في وزارة الخارجية، كالتالي: «منذ عشرة أعوام، كانت أوروبا هي محور السياسة الخارجية الأميركية. (...) ولكن، من الآن فصاعداً، كلّ شيء قد تغيّر. (...) إذ يحتلّ الشرق الأوسط بالنسبة للرئيس (جورج و.) بوش، ولوزيرة الخارجية (كوندوليزا) رايس، وسيحتلّ بالنسبة لخلفائهم، المكان الذي كانت تحتلّه أوروبا لدى مختلف الإدارات خلال القرن العشرين». إن كون هذه المنطقة تحتوي على القسم الأكبر من احتياطات النفط في العالم، في الوقت الذي يبقى فيه سعر البرميل مرتفعاً جداً - بالرغم من انخفاضه مؤخراً- يساهم في زيادة الطابع الاستراتيجي لـ«الشرق الأوسط الكبير».
يفسّر هذا التمركز الذي لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لجيوشٍ غربيةٍ في المنطقة، من العراق وصولاً إلى تشاد، ومن أفغانستان وصولاً إلى لبنان. فعبر إدراجها كافة تلك المعارك ضمن إطار «حربها ضدّ الإرهاب»، ساهمت الولايات المتحدة في إنشاء «أُمميّة للمقاومة»، أمميّة مركّبة في غالبيّة الأحيان، منقسِمة ولا شيء يجمعها في العمق سوى معارضة الهيمنة الأميركية.
تتّضح هذه المقاومة أيضاً في المجال الحاسم للاقتصاد. فعلى عكس الأزمات السابقة (الآسيويّة، الروسيّة، إلخ.)، تؤكّد العاصفة المالية الحالية على تهميش المنظّمات الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ففي بداية الألفيّة، قرّرت العديد من الدول - روسيا، تايلاند، الأرجنتين، البرازيل، صربيا، إندونيسيا، وغيرها- تسديد ديونها لصندوق النقد الدولي سلفاً، للتحرّر من الشروط المفروضة من هذه المنظمات الدولية.
فهل سيتمّ استبدال «توافق واشنطن» بـ«توافق بكين»؟ ويتلخّص هذا الأخير، بحسب مخترعه عالم الاقتصاد جوشوا كوبر رامو، بثلاث نظريّات تحدّد الطريقة التي يمكن لبلدٍ جنوبيّ، من خلالها، التموضع على الساحة العالمية: التشديد على الإبداع؛ وضرورة عدم الاكتفاء بأخذ نموّ الناتج المحلّي الإجمالي فقط بعين الاعتبار، إنّما أيضاً نوعيّة الحياة ونوع من المساواة يتفادى الفوضى؛ وأخيراً، الأهمّية المخصَّصة للاستقلال والحكم الذاتي في القرارات وعدم إفساح المجال أمام آخرين (خاصّة القوى الغربية) بفرض وجهات نظرهم.
آثار أمنيّة للتسخّن الحراري للكرة الأرضية
لقد أثار هذا المفهوم العديد من السجالات والانتقادات، مثلاً حول معرفة ما إذا كانت الصين تقدّم في الواقع «نموذجاً جديداً»، في حين يتفاقم فيها انعدام المساواة، وكونها وافقت على الاندراج في نطاق العولمة. لكنّه يسمح بفهم أنّ دول الجنوب، كما لم يسبق أن حدث لها منذ نزع الاستعمار، قادرةٌ على إتّباع سياسات مستقلّة، وإيجاد شركاء لها - سواء على صعيد الدول أو الشركات- لا تصطفّ لجهة رؤية واشنطن. علاقات جديدة تُحاك كما أثبتت ذلك قمم الصين-أفريقيا أو اجتماع وزراء الشؤون الخارجية لدول البرازيل وروسيا والهند والصين، في 26 أيلول/سبتمبر في نيويورك. أصبح هنالك دولٌ قادرةٌ على تقرير خططٍ إنمائيّة دون الخضوع لقيود «تسوية واشنطن» الصارمة.
تحوّل أساسي آخر طال الهندسة الجيوسياسية للعالم. ففي 17 نيسان/أبريل 2007، عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اجتماعاً مخصًّصاً للتداعيات السياسية والأمنية للتسخّن الحراري للكرة الأرضيّة. فقد بات التفكير الإستراتيجي يتضمّن هذا البعد، سواء في الولايات المتحدة، وفرنسا أو أستراليا. ودون الدخول في التفاصيل، ستؤثّر الظروف المناخية القاسية على المواسم الغذائية وستسهّل انتشار الأوبئة، ولن يؤدّي ارتفاع مستوى البحار والأنهار فقط إلى خلق ملايين اللاجئين البيئيّين - 150 مليوناً في العام 2050 بحسب بعض التقديرات-، لكنّه سيعيد إحياء الصراع حول قسمة الأراضي، واختفاء بعض الجزر، منها المرجانيّة، ما سيؤثّر على مجمل المناطق الاقتصادية البحريّة الحصريّة. أمّا بالنسبة إلى الارتفاع الكبير لأسعار المواد الغذائية، فهو سيهدّد استقرار العديد من الدول.
من الآن فصاعداً، مع تأكّد بروز سبل نموّ اقتصادي مختلفة، ومع تعدّدية الأقطاب، لم تعد السيطرة الاقتصادية للغرب وحدها هي المشكّك بها، إنّما أيضاً حقّها في تحديد الخير من الشر، ووضع القانون الدولي، والتدخّل في شؤون العالم، باسم الأخلاق أو المساعدات الإنسانية. هكذا يوضّح الوزير الفرنسي السابق للشؤون الخارجية، هوبير فيدرين، بأنّ الغرب قد خسر «احتكار التاريخ» واحتكار «الرواية الكبيرة». لقد كان تاريخ العالم، الذي اختُرِعَ منذ قرنيْن، يتلخّص بتاريخ ارتقاء أوروبا وهيمنتها. ويمكن اعتبار التوجّه نحو تعدّدية قطبية بمثابة فرصة للتقدّم نحو عالمية كونيّة حقيقية. لكنّه يثير أيضاً أحياناً المخاوف الأوروبية: هل سيزداد العالم خطورةً، هل ستُهاجَم «قيمُنا» من كل صوب، من الصين وروسيا والإسلام؛ وهل يجب خوض حربٍ صليبيّة جديدة، تحت غطاء منظّمة حلف شمال الأطلسي، ضدّ البرابرة الذين يحاولون «تدميرنا». قد تتحوّل هذه الرؤية، في حال لم نتنبّه لها، إلى نبوءة تحقّق ذاتها بذاتها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 386