ضريبة «الناتو» باتت باهظة.. هل يعيد أعضاؤها التفكير؟
سيان غاب سيان غاب

ضريبة «الناتو» باتت باهظة.. هل يعيد أعضاؤها التفكير؟

نتيجة للصراع الجاري على المستوى الدولي، تواجه بلدان أوروبية عدة ضرورة الانسحاب من تلك التحالفات غير الموثوقة التي كانت شريكة فيها، كحلف «شمال الأطلسي» مثلاً، فما هي الأسباب التاريخية لنشأة «الناتو»، وما هي طبيعة الذعر الغربي حول الاستعداد الذي تبديه دول عدة للانسحاب منه؟

 إعداد: رنا مقداد

تأسست منظمة «حلف شمال الأطلسي» في عام 1949 لمواجهة تهديدات نوعية. وكانت نهاية الحرب العالمية الثانية قد شكلت «فراغاً» في أوروبا الوسطى والشرقية والاتحاد السوفيتي. مما أتاح الفرصة للاتحاد السوفييتي لتوسيع نفوذه نحو بولندا والمجر وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا- والتي تشكل أساس أوروبا الشرقية- واستخدامها كمنطقة نفوذ لحماية الأراضي الروسية من الهجمات الغربية المتوقعة. 

في عام 1949، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، ودول أخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي، خطة لتنظيم الدفاع المشترك عن أوروبا الغربية ضد «الغزو السوفيتي المحتمل». لكن، لم يحدث أي غزو سوفيتي. والآن، لم يعد الاتحاد السوفييتي موجوداً. بالتالي، فإن حلف «الناتو» نفسه لم يعد لديه صلة بهذه الأسباب، ولم يعد يخدم أي هدف من تلك الأهداف. ولم يعد هناك أية حاجة مفهومة ومبررة بالنسبة لواشنطن لبناء القواعد العسكرية في أوروبا الغربية. 

فناء الناتو ضرورة عالمية

هناك البعض في الولايات المتحدة الأمريكية يسأل: «لماذا نذهب إلى الحرب دفاعاً عن هذه البلدان كلها؟ لماذا لا ينبغي أن ننظر بالدفاع عن أنفسنا؟»- أسئلة جيدة. لماذا ينبغي أن ينظر إلى تركيا باعتبارها جزء أساسي من دفاع الغرب ضد التهديد الذي لم يعد موجوداً؟ أعتقد أن تركيا ستفعل شيئاً جيداً للغاية إذا انسحبت من حلف شمال الأطلسي.

وأعتقد أنه أمر جيد انسحاب بريطانيا والولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي الذي لم يعد يملك أي سبب للوجود. فهو منذ 25 عاماً يواصل وجوده مع اختفاء أسبابه. فما يقرره الأتراك بأنفسهم مثلاً هو عمل سيادي وخاص، يجب أن يقرروا مصير بلدهم ومصيرهم بأيديهم، وليس للغرباء أن يتدخلوا. فإذا أرادت تركيا مثلاً أن تصبح أكثر أوراسية وأقل أوروبية فهذا هو شأنها.

في عام 1815، في نهاية الحرب التي أعقبت الثورة الفرنسية، قامت القوى المحافظة في أوروبا (النمسا-المجر، الإمبراطورية الروسية، بروسيا، فرنسا الملكية) بإنشاء تحالف يسمى بـ«التحالف المقدس». وكانت هذه المنظمة تتشكل من الملكيات المحافظة للغاية، والتي كانت تهدف إلى الوقوف معاً للحفاظ على نفسها واستمرارها في حالة عجزها عن الاستمرار من تلقاء نفسها. 

يمكننا أن نعتبر حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي النظراء الحديثين لهذا «التحالف المقدس». السبب الذي جعل العالم الغربي بأكمله في أزمة نتيجة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأن هذا الخروج كان هجوماً على النظير الحديث للتحالف المقدس.

الآن، هناك عضو واحد يترك، كما سيترك أعضاء آخرون أيضاً. بريطانيا غادرت الاتحاد الأوروبي، وتركيا قد تترك حلف شمال الأطلسي. قد تكون هاتان الحقيقتان مرتبطتان. ومن الممكن أن الهولنديين سيغادرون قريباً جداً. وفي الوقت نفسه، تعتبر بلدان أوروبا الشرقية شبه منفصلة عن المؤسسات الأوروبية التي تعتبر الهيكل الكامل لحكم العولمة الذي يتعرض لهجوم متزايد. قد يفسر هذا سبب القلق لدى عدد كبير من الناس في واشنطن وعواصم أوروبا الغربية، لأن تركيا لم تعد عضواً موثوقاً به في منظمة حلف شمال الأطلسي كما كانت في الماضي.

كثيرون من الناس يصرون على أن هذه التغيرات جميعها سوف تجلب حرباً عالمية أخرى، لكنني لا أعتقد ذلك. ما أراه هو الرفض العالمي للطبقة الحاكمة، والطبقة الحاكمة تنعدم الثقة بها في الدول الغربية كلها. الشعوب في العالم كله تنهض وتقول: «كفى، نحن نريد التغيير..!».

ماذا في الحسابات التركية؟

من غير الممكن أن تكون تركيا عضواً في «منظمة شنغهاي للتعاون» مثلاً و«منظمة حلف شمال الأطلسي» في الوقت ذاته. إذ تنظر المنظمتان إلى بعضهما من منظار العداوة. أما التقارب التركي مع روسيا وإيران والصين فقد يشير إلى وجود القطيعة مع الولايات المتحدة كاحتمال قائم في حسابات الإدارة التركية. هذه هي ثوابت جيوسياسية. إلا أن تركيا لم  تعلن بعد عن استعدادها للانسحاب من حلف شمال الأطلسي. كيف يمكن تفسير هذا؟ هل «الناتو» هو الضامن لأمن تركيا إلى حد ما؟

بادئ ذي بدء، دعونا نتذكر أن انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في عام 1952 كان بناءً على الأطروحات الإقليمية التي كان يطرحها الاتحاد السوفيتي. من عام 1945 إلى عام 1953، اقترح الاتحاد السوفيتي إنشاء قاعدة في منطقة مضيق البحر الأسود، وذلك بهدف تحريك حدوده في منطقة القوقاز إلى خط الحدود الروسية العثمانية لعام 1878. روسيا ليس لديها حالياً أية مطالبات في مضيق البوسفور والدردنيل، وليست هناك حدوداً مشتركة بين البلدين في جنوب القوقاز. 

وكذلك الأمر لم يعد الاتحاد السوفيتي موجوداً، وهكذا، فإن العوامل التي تسببت في انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي لم تعد ذات أهمية. وعلاوة على ذلك، فإن التحالف المنبثق بين روسيا والصين يزيل «التهديد العسكري الروسي» المفترض من جدول الأعمال، من حيث المبدأ.

ماذا قدم «الناتو» لتركيا؟

وفقاً للبند الخامس من «معاهدة واشنطن»، فإن تركيا ستكون مدعومة من الدول الأعضاء الأخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي في حالة أي عدوان خارجي عليها، غير أنه في الممارسة العملية، تتم دراسة تدابير الاستجابة المتعلقة بالبند 5 وفقاً لـ«تقدير» الدول الأعضاء. وهذا يعني أنه يمكن أن يقتصر الدعم على مجرد مذكرة دبلوماسية دون تقديم أية مساعدة حقيقية، وهذا ما تدركه تركيا جيداً.

ولم يمارس حلف شمال الأطلسي متطلبات البند 5 في حالات اشتباك تركيا مع الدول الأخرى، على الرغم من محاولات الجانب التركي بتفعيل هذه المادة من خلال البدء ببعض العمليات. والمثال الكلاسيكي على هذا هو رد حلف الناتو حول الصراع الذي جرى بين تركيا وروسيا الذي اندلع عام 2015. وفي عام 2010، خلال فترة الصراع بين تركيا والكيان الصهيوني، عندما استولت قوات الكيان على السفينة التركية «مرمرة» وقتلوا المواطنين الأتراك، إلا أن الناتو لم يفعل شيئاً لحماية السفينة، أو حتى لدعم تركيا. وما يجب على تركيا أن تعلمه في هذا السياق، أن دول الحلف ليست لا تريد أن تقدم الدعم لها، بل إن المركز الغربي قد وصل في أزمته إلى تلك المرحلة التي يبدو خلالها عاجزاً عن الإمساك بزمام المبادرة. فلو كانت حادثة التوتر بين روسيا وتركيا قد جرت في النصف الثاني من القرن الماضي، هل كانت الولايات المتحدة، أو حتى حلف الناتو سيقف متفرجاً؟ ما نود قوله هو أن المسألة ليست مسألة يريد أم لا يريد.. بل مسألة يستطيع أم لا يستطيع..!

لدى الولايات المتحدة سبعون قنبلة نووية تكتيكية من نوع «B61-12» مخزنة في قاعدة «إنجرليك» الجوية في تركيا جنوب البلاد، بالقرب من الحدود مع سورية. وهناك من عشرة إلى عشرين قنبلة منها معدة للاستخدام من سلاح الجو التركي، ويمكن اعتبارها عاملاً إضافياً في «أمن البلاد». 

الخروج.. خيار استراتيجي وحيد

نظراً لوجود قنابل الولايات المتحدة، فإن تركيا ستكون هدفاً افتراضياً للأسلحة النووية الروسية، وتركيا ليس لديها طائرات بعيدة المدى، ولا يمكنها استخدام هذه القنابل النووية إلا بموافقة منظمة حلف شمال الأطلسي، وفقط على مقربة من حدودها. ومن الصعب أن نتخيل تركيا قادرة على مواجهة التهديدات المفترضة المنبثقة من الشرق الأوسط باستخدام الأسلحة التقليدية فقط.

النزاع الإقليمي بين اليونان وتركيا في بحر إيجة، ودعم تركيا لشمال قبرص شكَّل عاملاً تقليدياً لسوء العلاقات بين تركيا ودول «الناتو» الأوروبية التي لا تنظر لأنقرة كحليف موضع ترحيب. وأكثر من ذلك، هناك أدلة متزايدة على تورط «الناتو» ومن خلفه الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب مؤخراً، حيث كان أعضاء سلاح الجو التركي من أنشط المشاركين. إذ يعتبر سلاح الجو الهيكل الأكثر دمجاً في حلف شمال الأطلسي. وقد تم استخدام قاعدة «إنجرليك» التي سبق ذكرها من قبل مؤيدي محاولة الانقلاب لتوجيه ضربات جوية ضد السلطات الرافضة للانقلاب. 

وكانت أهم ثلاثة  أفواج برية شاركت في الانقلاب هي جزء من فيلق الرد التركي التابع للناتو. الجنرال الأمريكي، جون كامبل، القائد السابق لجماعات منظمة حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، اتهم من قبل وسائل الإعلام التركية بأنه من المنظمين الرئيسيين للانقلاب. وقد نشرت صور لسفير الولايات المتحدة في تركيا، جون باس، مع ضابط تركي قبل الانقلاب الفاشل بيوم واحد. وأخيراً، فقد طلب موظف تركي رفيع المستوى يعمل لدى حلف شمال الأطلسي، هو الأميرال مصطفى اوغورلو، والذي كان يعمل في الولايات المتحدة واتهم بالضلوع في المؤامرة، الحصول على اللجوء السياسي فيها.

وهكذا، أظهر حلف شمال الأطلسي أنه ليس مجرد تهديد خارجي لتركيا، ولكن أيضا يهدد أمنها الداخلي. تعني عضوية البلاد في منظمة حلف شمال الأطلسي أن التسلل إلى القوات المسلحة التركية من قبل وكلاء الولايات المتحدة سوف يستمر. وهذا يعني أن خطر تكرار الانقلاب لا يزال موجوداً. ونحن هنا لا نتحدث عن الحالة التركية كحالة فريدة، بل نوردها كنموذج عن التهديدات التي تواجه الدول المنضوية تحت لواء حلف الناتو، الذي لم يعد يمثّل في الحقيقة سوى أداة أمريكية رفيعة المستوى، للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الحليفة للولايات المتحدة بشكل مباشر، ومن خلال أجهزتها العسكرية الأكثر حساسية.

في الواقع، ليس هناك أية مزايا حقيقية بالنسبة للأتراك تقدمها عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي. خروج تركيا من الناتو لن يؤدي إلى أية مساوئ خطيرة. ولكن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي ستؤدي إلى فقدان السيطرة من قبل تركيا على سيادتها وخاصة على قواتها المسلحة، كما أظهرت الأحداث الأخيرة. لا يمكن للناتو ضمان أمن الجمهورية التركية، وعلى العكس من ذلك، فأعضاء هذه المنظمة والدولة الرئيسية فيها، الولايات المتحدة، يدعمون ألد أعداء تركيا.

هل تشكّل روسيا تهديداً لأوروبا؟

تاريخ سياسة الأمن الروسية هو تاريخ حافل بالمساهمات ومحاولات بناء الأمن الشامل حقاً. وإذا نظرنا إلى الوراء في التاريخ، سوف نرى أن جهود روسيا تتفق مع التغلب على تراث الحرب الباردة. إذ جرى سحب قوات الاتحاد السوفييتي السابق جميعها من الدول الأوروبية ودول البلطيق الشرقية. وكانت روسيا في المقدمة بمحاولات خلق نظام جديد لمراقبة الأسلحة، وتمكنت من الاتفاق على معاهدة القوات التقليدية في أوروبا. 

وفي عام 1999، تم التوقيع على اتفاق «التكيف»، وصادقت عليه روسيا في عام 2004، لكن دول حلف شمال الأطلسي فشلت في التصديق عليه تحت ذريعة مصطنعة، وبالتالي فقد دمرت قاعدة مادية هامة للأمن الأوروبي. 

ينبغي أن ننظر إلى العمليات العسكرية الجارية اليوم في ضوء المصالح الجيوسياسية لبعض البلدان. ومثل هذا التحليل يقودنا إلى فهم حقيقة أنه تم استخدام الأزمة في أوكرانيا كذريعة لتغيير جذري في سياسة الناتو وللحشد العسكري. ففي ظل الظروف الأمنية الحالية، الناتو يشعر بعدم الارتياح دون وجود خصم رئيسي. 

تاريخياً، أدت العمليات العسكرية للناتو بعد الحرب الباردة إلى نتائج سلبية. في البلقان وفي ليبيا كانت كارثية. وقامت دول حلف شمال الاطلسي بالمشاركة في تدمير مؤسسات الدولة العراقية. ما نراه اليوم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو صنيعة الناتو، وما نراه الآن هو مساحات واسعة من الأراضي غير الخاضعة للرقابة حيث تتواجد أنواع مختلفة من الإرهابيين والمتطرفين، وهذا أيضاً نتيجة لتدخلات «الناتو»

تم نشر قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان لمدة 12 عاماً، لكن النتائج تثير الكثير من الأسئلة، وهناك مخاوف جدية حول القدرة على ضمان الاستقرار هناك. ومن الواضح أن هناك اتجاهاً سلبياً (يتزايد عدد الأقاليم التي تسيطر عليها طالبان، ويتعزز نفوذ تنظيم «داعش»). 

وبالنسبة لروسيا فهذا خطر أمني واضح، لأن الإرهابيين والمتطرفين المتسللين إلى المحافظات الشمالية من أفغانستان، يخلقون تهديداً مباشراً لتحالف منظمة معاهدة الأمن الجماعي. حتى قبل الأزمة في أوكرانيا، شكك خبراء غربيون بقدرة حلف الناتو على البقاء وثيق الصلة في الوضع الأمني الحديث. واليوم نرى أن «صورة العدو» يتم استخدامها في حل المشكلات الجيوسياسية الأخرى (عودة حلف شمال الاطلسي إلى مركز السياسة العالمية، في محاولة لإثبات أنه ليس هناك أي وسيلة لضمان أمن الآخرين إلا من خلال تعزيز الروابط عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة)، ولذلك، هناك حاجة إلى خصم كبير، وهذا ما يفسر الدعاية الغربية ضد روسيا، التي تشكل خصماً حقيقياً للهيمنة الأمريكية، لكن ليس للشعوب الأوروبية والشعب الأمريكي.

عندما يقول أحد ما أن روسيا زادت من قوتها العسكرية، فأولاً وقبل كل شيء، هي تفعل ذلك على أرضها، بالتعاون بعض الأحيان مع حلفائها. هل قيادة حلف شمال الأطلسي غبية لدرجة الاعتقاد أن كل شيء يقومون به حالياً على الجناح الشرقي (من استعراض القوة الجوية على طول الحدود الروسية، وكذلك المدمرات البحرية المزودة بصواريخ كروز على بعد عشرات الكيلومترات من المرافق البحرية الروسية الرئيسية) سيبقى دون رد عسكري؟