د. غالب أبو مصلح لقاسيون: الانهيار المرتقب للإمبريالية الأمريكية يبشر بفجر عربي جديد
·الدكتور غالب أبو مصلح، الولايات المتحدة تتجه اقتصادياً نحو الانهيار، وعسكرياً نحو الأفق المسدود بمعنى استحالة التوسع العسكري اللانهائي، ما هي المخارج المحتملة أمامها؟
الانهيار لا يعني انهياراً شاملاً في الولايات المتحدة ولكن يعني إلى حد بعيد الانطواء إلى الداخل، وضعفاً متنامياً بفقدان الامبريالية الأمريكية قدرتها على الهيمنة والسيطرة والعدوان.
ويعني أن أسلوب الحياة الأمريكية يجب أن يتغير، إذ أن هذا الأسلوب اعتمد على الهيمنة الأمريكية أولاً وبشكل خاص، والنهب الذي تمارسه أمريكا على الصعيد العالمي وخاصة على صعيد بلدان العالم الثالث، وعلى توفر الخامات بكميات كبيرة ورخيصة وخاصة النفط. فنمو قدرات دول ومراكز اقتصادية كبرى أخرى في العالم مثل أوروبا، علماً بأن نمو أوروبا في الماضي ثم الصين والهند سيضغط على هذه المواد الخام وعلى النفط بشكل خاص من ناحية الطلب حتى تدفع أسعار هذه الخامات إلى الارتفاع المتنامي مما يحرم الحياة الأمريكية من هذا البذخ.
· هل هذا يعني أن المواطن الأمريكي ينبغي أن يعتاد على نمط استهلاكي أقل؟
نعم على نمط أقل بكثير ما سيحدث هزة ضخمة في داخل الولايات المتحدة لأنه من الصعب على شعب من الشعوب أن يتعوّد على نمط استهلاك أقل مما كان يستهلكه في الماضي.
· ولكن هذا سيهدد بنية المجتمع وبالتالي بنية الدولة الأمريكية؟
ممكن جداً أن يهدد النظام الأمريكي، ولا شك هو يهدد بنية هذا المجتمع. إذ أنه سيخلق تناقضات جديدة في قلب النظام الأمريكي مما سيدفعه إلى متغيرات عديدة. اعتقد أن هذا النظام الإمبريالي الجديد، أي هذه الرأسمالية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة والتي يمثلها نظام الليبرالية الجديدة التي أسقطت كل المفاهيم الحمائية للدولة، وعادت إلى ليبرالية القرن التاسع عشر، الليبرالية المتوحشة، هي من يخلق الآن تناقضات ستزداد حدة. فعلى سبيل المثال: الفروقات الطبقية في الولايات المتحدة آخذة في النمو منذ عام 1980 عندما استلم المحافظون الجدد السلطة. والفروقات في المداخيل بين الفئات الأكثر فقراً والأكثر غنى تزداد بشكل مطّرد، ومن سنة 1975 أو 1980 حتى 2006 لم يرتفع دخل الطبقات الشعبية إلا بشكل محدود جداً وهناك بعض الطبقات انخفض دخلها الحقيقي.
وبالتالي فإن التحليل الذي طرحه ماركس في البيان الشيوعي في توصيف هذا النظام الرأسمالي الليبرالي الحالي يصبح أكثر صحة من أي وقت مضى من عمر الرأسمالية، ما يعني أن التناقضات الحادة ستعود إلى هذه المجتمعات التي خففت منها وأبطأتها إلى حد بعيد الكينيزية بعد الحرب العالمية الثانية والتي وضعت نموذجاً لتخفيف التناقضات الموصوفة بالبسماركية.
وللتذكير فإن بسمارك بنى دولة الرفاه وأعطى للطبقات العاملة الكثير من حقوقها والضمانات. ولكن تأتي الليبرالية الجديدة الآن لتزيل هذه الحقوق والضمانات وتدفع برواتب القوى العاملة إلى الانخفاض المطلق أو النسبي مما سيعيد ثورية الطبقات العاملة أي البروليتاريا بالمعنى الأوسع للكلمة، ويهدد هذا النمط الذي دخل بالفعل في أزمته.
· وما هي الآفاق الزمنية لحجم المديونية الأمريكية في مسارها التصاعدي وصولاً إلى ذروة ما قبل الانهيار المحتمل، وقد ورد في المادة التي نشرتها تعداد لحجوم مديونية الولايات المتحدة التي تحولت من أكبر دولة دائنة لأكبر دولة مدينة في العالم؟
من الصعب تحديد ذروة ما قبل الانهيار ولكن هناك عامل أساسي ضاغط في الولايات المتحدة على الصعيد الاجتماعي وهو ما يسمى بـBaby Boomer أي ذاك الانفجار السكاني الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية.
الأجيال الكبيرة ستبدأ بالتقاعد التدريجي من الآن وخلال سنوات محدودة وسيبلغ حجم الإنفاق على هؤلاء المتقاعدين الجدد 50 تريليون دولار تقريباً (50 ألف مليار دولار) وليس لدى الولايات المتحدة أية مخصصات لمجابهة هذه الأزمة التي تنتظر الوصول إليها دون استعداد وهي لا تستطيع أن تخفض الميزانية الحالية، إذ أن 80% منها مخصص للإنفاق الجاري الذي لا يمكن المساس به إطلاقاً مثلما لا يمكن المساس بالإنفاق العسكري الذي يتصاعد بشكل سريع، فكلما اشتدت أزمة الإمبريالية كلما ارتفع الإنفاق العسكري لتعوض قوى الذراع العسكري عن انخفاض القدرات الاقتصادية الامبريالية.
ويرتفع الآن هذا الدين الخارجي بمعدل تريليون دولار سنوياً وهو ما يعادل تقريباً العجز في الحساب الجاري الحقيقي في أمريكا.
منذ هذه السنة بدأت ظواهر جديدة تشير إلى أن دول العالم باتت غير مستعدة لأن تموّل هذا الإنفاق الأمريكي الكبير، إذ أن البنوك المركزية في اليابان والصين وهونغ كونغ خفضت من شرائها لسندات الدين الأمريكية. ومن هنا بدأت تظهر الأزمة على الدولار وهذه السنة انخفض سعر صرف الدولار بنسب عديدة ويتوقع أن ينخفض بنسب أعلى، هي بداية الأزمة. وهناك توقعات بأن يحدث في الولايات المتحدة من الآن وخلال أشهر أو سنوات قليلة انهيار كبير مثل الانهيار الذي حصل عام 1930 وسيشكل هذا الانهيار كارثة على الولايات المتحدة، وإذا حصل كما يتوقع العديد من الخبراء فقد يفضي إلى تفشي البطالة بنسب عالية وإلى انهيار الناتج المحلي الأمريكي القائم وإلى إفلاسات عديدة على صعيد رجال الأعمال والبنوك والمؤسسات الصناعية الكبيرة، ويدخل أمريكا سريعاً في أزمة خانقة مصيرية.
· وماذا عن تصريحات وزير الخزانة الأمريكي مؤخراً بخصوص حجم الدين الأمريكي الحالي؟
الدين العام الأمريكي للقطاع العام والخاص يبلغ حوالي 40 تريليون دولار هو يزداد بنسب كبيرة سنوياً.
الازدهار الاقتصادي الذي حدث في الولايات المتحدة سابقاً عُدَّ أكبر مرحلة نمو دون عقبات. السبب الأساسي في هذا النمو الاقتصادي الوهمي هو تمويل الإنفاق عبر الاستدانة عبر تشكيل فقاعات مالية في البورصة ثم في السوق العقاري الذي مكن المستهلك الأمريكي من أن يدفع الرهونات على المنازل ومن ثم يحصل على قيمة يستطيع أن يستهلكها ومن هنا انخفض معدل الادخار العام في الولايات المتحدة إلى الحدود السلبية وهو أمر خطير على المدى المتوسط والطويل. وهذا يعني أن الإنفاق يزيد كثيراً عن الادخار بل إن اهتلاك الموجودات الأمريكية هو أعلى بكثير من التوظيف، وبالتالي هناك إفقار مستمر ومتمادٍ للقدرات الإنتاجية وللموجودات على الصعيد الاقتصادي.
هناك مؤشرات عديدة جداً تدل على أن المجتمع الأمريكي يغوص في مأزق بنيوي، وما إذا كان هذا مأزق الولايات المتحدة أم مأزق الرأسمالية كنظام ككل فهذا يحتاج إلى بحث منفصل.
· د. غالب.. الاقتصاد وعلاقته بالسياسة والعسكرة، كيف يتجلى هذا الموضوع على المنطقة العربية ببلدانها وبؤرها المختلفة؟
على المدى القصير يعني هذا ازدياد الامبريالية الأمريكية شراسة، ولكنه على المدى المتوسط والطويل يعني انهيار هذه الإمبراطورية وبالتالي قدرة المنطقة العربية على التحرر من هيمنتها التي كانت هي العامل الأساسي في إفقار العرب وتخلفهم منذ منتصف الخمسينات وإلى الآن. إن انهيار الإمبريالية الأمريكية سيدفع مجدداً الطموحات الاستعمارية لدى بعض الدول الأوروبية، ويظهر هذا الآن في أوربا التي تحلم أن تحل محل الولايات المتحدة المنهارة. كما أن الهزيمة المؤكدة للإمبريالية في العراق ستحدث هزات عديدة على المنطقة العربية من الصعب تخيل مدى تأثيرها الإيجابي.
وإن سعي بعض النظم العربية لتعديل وتلطيف حجم ارتباطها بالمركز الإمبريالي الأمريكي ليس دافعه فقط توقع انهيار الإمبريالية الأمريكية بل التخوف من غضب الشعوب العربية التي تزداد إيماناً وتصميماً على النضال ضد هذه الإمبريالية وضد استلحاق هذه الدول بالمركز الإمبريالي الأمريكي أو غيره. ومن هنا هناك توقع بانهيار بعض هذه الأنظمة التابعة. فعندما تخرج أمريكا من العراق، اعتقد أن النظام الأردني سيصبح غير قادر على الاستمرار وكذلك النظام المصري الذي اعتقد أنه سيتعرض لتغييرات كبيرة.
وبالمثل بدأت تظهر تداعيات هزيمة إسرائيل في حرب تموز، وسيكون لهذا تداعيات على المدى المتوسط أكبر بكثير مما نقدر الآن إذ أن إسرائيل هي القاعدة الأمريكية في العالم والقبضة الحديدية الأمريكية في المنطقة. ولكن انهيار الإمبريالية الأمريكية، إذا أحسنا التصرف والعمل، يبشر بفجر عربي جديد.
· د. غالب أبو مصلح من لبنان شكراً جزيلاً لك.