كارل مولر – ترجمة قاسيون كارل مولر – ترجمة قاسيون

المضاربون الكــبار يلعبون بأسعار الغذاء العالمي...

جرى تقديم الفيلم الوثائقي: «قمح أيلول» لأول مرة في العام 1980. وهو يظهر ضمن ما يظهره إلى أية درجة يحدد المضاربون في بورصة القمح الأمريكية سعر هذا المنتج الغذائي. تتلخص مهمتهم في تحقيق أعلى ربح ممكن، لا في تأمين المنتجات الغذائية الضرورية بأفضل الأسعار. حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً.

أما الفيلم الوثائقي «كابوس داروين»، فعمره أربعة أعوام. وهو يظهر كيف دفعت تنزانيا، التي كانت غنية بالأسماك، إلى الفقر والتسول دون رادع، وكان الاتحاد الأوروبي من بين المسؤولين عن هذا الوضع. نشاهد في الفيلم كيف تنقل الثروة الجديدة من الأسماك التي تتمتع بها البلاد ـ حيث فرضت تربية نوع محدد من أسماك نهر النيل وهي زراعة وحيدة دمرت أنواع الأسماك الأخرى كافة ـ إلى بلدان الغرب الغنية. كما نرى كيف أصبح البلد، لقاء ذلك، منصةً متحركة لتسليح الحروب في إفريقيا.

ما هي خلفيات ووقائع الزيادات الهائلة في أسعار السلع الغذائية في العامين المنصرمين؟ هل سيتفاقم وضع 850 مليون إنسان، يعانون أصلاً من سوء التغذية؟ هل يجري تهديد ملايين أخرى من البشر بالمجاعة؟

كانت الوزيرة الألمانية لشؤون مساعدات التنمية، هايدماري فيسزوريك زول، واضحةً أشد الوضوح: «حين ترتفع أسعار المنتجات الغذائية بنسبة 1 %، تصبح تغذية 16 مليون شخص إضافي عرضةً للخطر».

ثورات جائعي العالم

كانت هنالك خطة لتنفيذ إضرابٍ عام في مصر احتجاجاً على الزيادات الكبيرة في سعر الخبز (35 بالمائة خلال عام). غير أنّ الشرطة خنقت التظاهرات في مهدها، ونتج عن ذلك قتلى وجرحى بين المتظاهرين.

في هذا البلد، الذي يعتبر ثاني أقرب حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يعيش 30 مليون نسمة حالة بؤس. في أحياء القاهرة الفقيرة، يقف الناس في طوابير لعدة ساعات من أجل الحصول على بضعة أرغفة من الخبز. لم يعد الفقراء يستطيعون شراء اللحم؛ وسعداء من يتمكنون من الحصول على بعض عظام الدجاج. لم ينعكس النمو الاقتصادي الذي بلغ 7 % في الفترة الأخيرة على الفقراء. وبعد أن كانت مصر مصدراً أساسياً للقمح، أخذت تستورد السلع الغذائية، وهنالك بضعة احتكارات تمسك بأعنّة هذا السوق وتملي الأسعار.

أما في هاييتي الواقعة في منطقة الكاريبي، فقد قتل ثلاثة أشخاص أثناء المظاهرات ضد ارتفاع أسعار السلع الغذائية على يد جنود الأمم المتحدة الذين يسيطرون على البلد لصالح الحكومة الأمريكية. لم تضعف الاحتجاجات، وقد أدت إلى استقالة الحكومة.

في هذا البلد، يتوجب على 80 % من السكان العيش بأقل من دولارين يومياً. وقد ارتفعت أسعار الرز والفاصولياء والفواكه والحليب المكثف بنسبة 50 % خلال عام، بل ارتفع سعر المعكرونة بنسبة 100 %. لم تعد عائلاتٌ عديدة قادرة على التزود بالغذاء. أدت التجارة بالتبادل الحر مع الولايات المتحدة إلى إغراق البلد بالرز بأسعار بخسة؛ للوهلة الأولى، بدت النتائج حسنة بالنسبة لسكان المدن، لكنّ زارعي الرز اضطروا للتخلي عن زراعتهم واللجوء إلى المدينة. الآن وقد حلّق سعر الرز عالياً، لم يعد هنالك أحد ليزرعه.

الارتفاع الحاد للسلع الغذائية

وفق تقرير أصدرته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، كان سعر القمح، أحد أهم المنتجات الغذائية مع الماء، أعلى في كانون الثاني 2008 من سعره قبل عام بنسبة 83 %. وقد ارتفع سعر الرز، وهو الغذاء الأساسي في إفريقيا وآسيا، بنسبة زادت خلال بضعة أشهر عن 40 % في البلدان الإفريقية التي أصبح يتوجب عليها استيراد الرز. نشر البنك الدولي أرقاماً توضح أنّ «أسعار تصدير الرز التايلندي قد ارتفعت هذا العام بين كانون الثاني وآذار من 365 دولاراً للطن إلى 562 دولاراً».

كان مؤشر أسعار المنتجات الغذائية، وفق حسابات الفاو، في شهر آذار أعلى بنسبة 57 % منه قبل عام. بل إنه بلغ 220 % مقارنةً بوسطي الأعوام 1998-2000.

ما يعتبر مؤلماً بالنسبة لدخلٍ متوسط في البلدان الغربية، لا بل منذراً بالخطر بالنسبة للفقراء الذين يتزايد عددهم في هذه البلدان، هو بالنسبة للبلدان النامية تهديد وجودي، في حين أنّ هذه البلدان تعاني من المجاعات بانتظام. لقد انتشرت ثورات الجوع في كل مكان تقريباً في الأسابيع الأخيرة.. في المكسيك والإمارات العربية المتحدة واليمن وإندونيسيا وباكستان والهند وبنغلادش وأوزبكستان وغينيا وغينيا بيساو والمغرب والسنغال وموريتانيا وبوركينا فاسو والكاميرون وموزامبيق وساحل العاج.

مشاريع مساعدة السكان الذين يعانون الجوع عرضة للخطر

أعلن برنامج الغذاء العالمي يوم العشرين من آذار عن حاجةٍ ملحة لـ500 مليون دولار إضافية بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار السلع الغذائية، ووجه في نهاية شهر آذار طلباً للمساعدة إلى جميع حكومات الأمم المتحدة. إذا لم يتم جمع هذا المبلغ، سيتوجب حينذاك إجراء اقتطاع من المساعدات الموجهة لتأمين السلع الغذائية. منذ حزيران 2007، ازدادت نفقات شراء الأغذية بنسبة 55 %.

مخزونات الحبوب في أدنى مستوياتها منذ الثمانينات، وذلك بسبب إنقاص المساحات القابلة للزراعة في العديد من البلدان، ولأنّ الحاجة إلى الحبوب قد ارتفعت بشدة بسبب إنتاج اللحوم. وها هي المخزونات تتبخر أمام أعيننا.

في أواخر شهر شباط، أعلنت مؤسسة كاريتاس الدولية أنّ زيادة أسعار السلع الغذائية تعرّض مشاريعها للمساعدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للخطر. وبفعل هذا التطور في الأسواق العالمية، لم يعد ممكناً في كثير من الأحيان تأمين تمويل لمطاعم المدارس والمساعدة الغذائية للاجئين والغذاء الإضافي لمرضى الإيدز. وقد أطلق رئيس كاريتاس الدولية صرخة تحذير: «أصبحت الحبوب موضوع مضاربة، والبؤساء هم الذين يدفعون الثمن».

أسباب ارتفاع الأسعار

في العدد الثاني/ 2008 من المجلة النمساوية « Südwind Magazin»، قدمت رؤيةً أولية:

• انخفاض أسعار السلع الغذائية منذ سنوات وتصنيع الزراعة وسياسة تصدير المنتجات الغذائية في البلدان الصناعية دمّرت زراعة صغار الفلاحين في البلدان الصناعية، وأكثر من ذلك في البلدان النامية. ونتج عن ذلك أنّ تلك البلدان، التي كانت حينذاك تصدر المنتجات الغذائية، أصبحت اليوم مرغمة على الاستيراد، في حين أنها تزرع منتجات غذائية تحت ضغطٍ دولي. لكنّها عموماً زراعات أحادية للتصدير لا علاقة لها بحاجة السكان الأصليين. هذه البلدان مضطرة لدفع أسعار «السوق» التي تفرضها الصناعة الغذائية.

• ازدياد استهلاك اللحوم، حتى في البلدان الناشئة، أدى إلى طلبٍ كبير على الأعلاف، إذ أصبحت هنالك حاجة لكميات كبيرة، حتى بالنسبة لكيلوغرام واحد من اللحوم، وبالتالي نقص العلف في أماكن أخرى.

• إنتاج ما يدعى بالوقود الحيوي في كل أنحاء العالم، «ما يدعى» لأنّ هذا الوقود يسبب أضراراً للبيئة أكثر مما يقدم لها فوائد ـ قد عدّل الإنتاج الزراعي وحوّله بطريقة أساسية. في الولايات المتحدة، جرى تحويل 20 %من الأراضي القابلة للزراعة في العام 2007 لإنتاج الكحول الإيتيلي. وقد أبرم الاقتصاد الألماني سلسلة من العقود التجارية للاستثمار في سوق الكحول الإيتيلي المتوسع هذا وللاستفادة منه. هذه الطريقة في استخدام المنتجات الغذائية تتعرض لانتقادٍ متزايد. وقد نشرت مؤخراً كاريتاس الدولية باللغة الألمانية كتاباً بعنوان: «مستودع مليء ـ صحون فارغة. ثمن الوقود الحيوي: الجوع والطرد وتدمير البيئة».

• إنّ الزيادة الكبيرة في سعر النفط قد رفعت أسعار نقل المنتجات الغذائية. ويتمتع ذلك بأهمية كبيرة نظراً للنقل المتواصل لهذه المنتجات في «السوق العالمي». في الحقيقة، تتعرض البلدان النامية لعواقب مزدوجة: بسبب الزيادات الكبيرة في أسعار المنتجات الغذائية من جانب، والطاقة من جانبٍ آخر.

• ارتفعت بشدة أسعار السماد الكيميائي المشتق من المنتجات النفطية وأصبحت أسعارها تقارب ضعف أسعارها في العام 2005.

فوائد كبيرة للمضاربين

لم تتوقف المجلة السويدية بعد أمام المضاربين على أسعار السلع الغذائية سعياً للربح. لقد أدت الأزمة المالية العالمية إلى تحويل مبالغ طائلة من أموال المضاربة. أصبح الاستثمار هائلاً، ليس في أسواق المال والطاقة وحسب، بل كذلك في أسواق المنتجات الغذائية. في الحادي عشر من نيسان، عبّرت الصحيفة السويسرية الألمانية « NeueZürcher Zeitung» عن هذا الموضوع كمايلي: «منذ أن أصبح الاتجار بأوراق قيم الضمان يفتقر للسيولة، هرع المستثمرون و(التجار) المصرفيون إلى أسواق المواد الأولية. وهم يتدخلون بصورة متزايدة في تحركات أسعار السلع الزراعية الحساسة على المستوى الاجتماعي مثل متلاعبين بالأسواق، ينتظرون المضاربة». أما المجلة السويسرية الأسبوعية Wochenzeitung، فقد نشرت في 3 نيسان أنّ المصرف الهولندي ABM Amro قد نشر إعلاناتٍ في الصحف عن «منتجاته المالية المهيكلة» في القطاع الزراعي: «الاستثمار جيد لأسباب مختلفة: أراضي القمح الزراعية التي تبور، زيادة عدد سكان العالم، تغير العادات الغذائية في البلدان الناشئة، إضافةً إلى الطلب المتزايد على الوقود الحيوي». إذاً: إنها شروط (ممتازة) من أجل زيادة الأسعار والأرباح ـ على حساب البشرية.

التلاعب بالسجال الدولي

اقترح رئيس شركة نستله، بيتر برابيك، حلاً يتمثل في نشر زراعة المنتجات المعدلة جينياً في أرجاء الكرة الأرضية كافة؛ كذلك فعل رئيس الوزراء البريطاني براون ـ وبوش قبله. ما يجري السكوت عنه هو أنّ هذا الإجراء سوف يضع الحاجات الغذائية العالمية في أيدي شركة مونسانتو الأمريكية متعددة القومية. كذلك، يجري تجنب الحديث عن الأضرار الصحية الخطيرة التي يمكن أن تتسبب بها هذه المنتجات المعدلة جينياً.

يبدو أنّ روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي الذي سماه الرئيس الأمريكي، قلقٌ هو أيضاً بسبب هذه الزيادات العالمية في الأسعار الغذائية ويتوقع استمرار هذه الزيادات في السنوات القادمة. وهو يعتقد بأنّ هنالك احتمالاً في زيادةٍ كبيرة في الفقر. لكن: زوليك يطالب بحل، هو توسيع «التبادل الحر» للمنتجات الغذائية ـ وهو اقتراحٌ سبق للعالم أن عانى من نتائجه الكارثية. فضلاً عن ذلك، يريد البنك الدولي أن يبسط نفوذه على البلدان النامية من خلال قروضه، مركّزاً على المنتجات الزراعية. في معظم البلدان، أصبح الناس يعرفون ما يعنيه الارتباط بمعلف البنك الدولي.

لا تعرف زيادات الأسعار حدوداً، فقد وصلت حتى إلى روسيا والصين. منذ شهر كانون الأول الماضي، أعلنت وكالة الأنباء الروسية ريا نوفوستي أنّ أسعار السلع الغذائية للعام 2007 قد ارتفعت بنحو

14 %. وفي الصين، ازداد سعر لحم الخنزير، وهي سلعة تستخدم على نطاق واسع، بنسبة

56 %. وقد ارتفع مجمل أسعار السلع الغذائية في الصين بنسبة 18 %.

التضامن بدل النزاعات حول المياه والغذاء

ما العمل؟ قبل كل شيء، الحرص على ألا تنساق الشعوب ضد بعضها في نزاعاتٍ وحروب، ولاسيما من أجل النفط والمياه والأغذية. الحقّ في التغذية يشمل سكان العالم أجمع ولا يمكن التضحية بحقٍ إنساني لصالح الربح ورغبة البعض في السلطة. الاحتجاجات مبررة تماماً. إنّ تقديم معارضةٍ حقيقية غير ممكن إلا عبر تضامن بشري يضم البلدان في جميع القارات كافة.

■ ملاحظة:

بلغت النفقات العسكرية في العالم للعام 2007 أكثر من ألف مليار دولار، وهو ما يمثل 2000 مرة 500 مليون دولار. إلى هذا الحد من الجنون وصل عالمنا. وهذه الألفا مرة 500 مليون دولار هي اغتصابٌ تمارسه الحكومات والبرلمانات.

■ 28 نيسان 2008 عن

«آفاق وسجالات»، العدد 16.

آخر تعديل على الثلاثاء, 06 أيلول/سبتمبر 2016 23:31