الإعلام السّعودي.. صراع الأسرة الحاكمة من أجل البقاء والسَّيطرة
عندما سارت قوات صدام حسين عبر الحدود إلى الكويت عام 1991، أبقت الرياض السكان السعوديين في «الظلام» لمدة ثلاثة أيام، قبل أن تدرك أن معظم السعوديين توجهوا إلى CNN لكشف ماذا كان يحصل مع جيرانهم في الخليج. كانت هذه اليقظة المباغتة بداية نقطة تحول رئيسية في استراتيجية المملكة الإعلامية، التي كانت محصورة حتى بداية التسعينيات على مالكي الصحف.
خلال السبعة عشر عاماً الماضية استخدمت المؤسسات السعودية جيوبها العميقة من أجل التأثير على عقول وإعلام المنطقة، متأثرة من طريقة عدم الدفع أو من الإعلام المهدد الذي يدير تقارير سلبية عن المملكة، لتصبح واحدة من أكثر مالكي الإعلام تأثيراً في الشرق الأوسط.
وكنتيجة لحرب الخليج عام 1991، قررت شخصيات مقربة من العائلة الملكية تدويل حضور المملكة الإعلامي، مطلقة مركز إذاعة الشرق الأوسط (MBC) في لندن بدعم من والد زوجة الملك السعودي في ذلك الوقت وليد إبراهيم.
قفزة الإعلام النفطي
قال أسعد أبو خليل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا الحكومية، ستانيسلوس، ومؤلف «المعركة من أجل المملكة العربية السعودية»: «في العهد السعودي الأول كان هناك ميل لشراء أشخاص. وقبل عام 1990 كان هناك تنافس بين مالكي الإعلام العربي؛ ليبيا والعراق والإمارات العربية المتحدة والسعودية، وكان هؤلاء هم المتنافسين الرئيسيين. ومنذ ذلك الوقت من العدل أن نقول إن الإعلام أتى مفتوحاً بشكل كلي للسعودية، وإن تعدد «المخارج الإعلامية» يعكس تعدد الأمراء «الذين يملكون هذه المخارج».
أذعنت شبكة الراديو والتلفزيون العربية (ART) لقناة MBC، التي أسسها السعودي صالح عبد الله كامل عام 1993 مع منظومة من التسلية والموسيقى والرياضة. وأتى بعد ART عام 1994 مؤسسة الاتصالات أوربت التي كان مقرها في ذلك الوقت روما (والمقر الحالي لشبكة أوربت التي تدفع لكل وجهة نظر في البحرين) والتابعة لمجموعة موارد السعودية التي أدارت قناة التلفزيون العربية BBC منذ عام 1994 حتى عام 1996 عندما تم قطع إذاعتها على الهواء بشكل مفاجئ. وفي العام نفسه أزالت أوربت منع إعلان قناة التلفزيون العربية BBC(الذي كان من المقرر أن تبدأ حالاً والممولة من جباة الضرائب البريطانيين)، اشترى كامل الذي يملك قناة ARTم49 % من قناة الفضائية اللبنانية المسجلة في جزر كيمان القناة الفضائية اللبنانية، (LBC انترناشونال) النسخة العربية لقناة مؤسسة الإذاعة اللبنانية التلفزيونية.
وفي عام 2000، باع كامل حصصه لثالث أغنى رجل في العالم الآن الأمير السعودي الوليد بن طلال بمبلغ 100 مليون دولار. وابن طلال هو روبرت مردوخ الملكية الإعلامية في الشرق الأوسط، إضافة إلى شركاته القابضة في المملكة، التي تملك أكبر مجموعة موسيقية في الشرق الأوسط (روتانا)، ست قنوات تلفزيونية موسيقية: (روتانا كليب، روتانا موسيقى، روتانا الخليجية، روتانا سينما، روتانا طرب، روتانا زمان)، وحصة في الصحف اللبنانية؛ النهار والديار، إضافة إلى حصته في LBC إنترناشونال (وبالمناسبة يعد بن طلال ثالث أكبر مالك أسهم في مجموعة مردوخ للأنباء ، بأسهم تقدر بـ 5.46 %).
ويعدّ الأمير خالد بن سلطان أيضاً مالك أسهم في LBC ومالك الصحيفة العربية «الحياة». وبسبب منصبه كمساعد وزير الدفاع للعلاقات العسكرية، يعدّ دور بن سلطان مالك أسهم بارزاًَ، كما يمكن اعتباره ممثل دولة، وبالتالي قادر على القيام ببعض الضغط على LBC لإرضاء ميول المؤسسات السعودية. والمخرج السياسي الآخر الوحيد الذي تملك الحكومة السعودية فيه حصة مباشرة، فيما عدا الصحف والمخارج الإعلامية المحلية التي تخضع للقوانين الصارمة ضمن السعودية هي قناة MBC الفضائية شاملة شبكة الأخبار «العربية»، وقد تأسست هذه القناة عام 2003 لمواجهة قناة «الجزيرة» القطرية، التي تكرهها الرياض منذ أن بثت على الهواء عام 1996، بتأثير تقاريرها التحقيقية عن الفساد في العديد من الدول العربية ومن خلال بث تصريحات أسامة بن لادن عبر الفيديو. وتم النظر إلى الجزيرة على أنها مثيرة للجدل، حتى أن المملكة العربية السعودية منعت الرجال من مراقبة التلفاز في المقاهي لمنع المناقشات العامة لما كان يعرض فيها.
وعلى الرغم من أن التأثير السعودي على عمل صحف المنطقة (خاصة المنشورات العربية) لكنها لا تزال عالية، إلا أن فعالية كبت الصحافة المطبوعة ليست كما ينبغي أن تكون. وكأي مكان آخر في العالم، يتوجه الشرق الأوسط نحو أخبار التلفزيون أكثر من التقاط صحيفة.
قال أبو خليل: «الصحف مهمة فقط بقدر ما يقرأ المفكرون والصحافيون والسياسيون. إذا ذهبت إلى الدول العربية وسألت عن كتّاب عواميد في (صحيفة) لن يعرفوا من هم، ولكنّهم سيعرفون مراسل التلفزيون».
القضيّة الكبيرة
إن استيلاء المملكة العربية السعودية على إعلام المنطقة يعكس ما يحصل عالميا،ً حيث تقوم مجموعة من الشركات متعددة الجنسيات بالسيطرة المتزايدة على الإعلام. ويتجاوز هذا حدود التسلية إلى تغطية الأخبار. وبالنسبة للسعودية، إن ضغطاً كهذا يعد هاماً في عهد كان فيه الإعلام نافذاً بشكل متزايد، لأن ضربة الرياض الاقتصادية والسياسية ـ وإحياء الأسرة الملكية ـ يعتمد على محافظة المملكة على موقعها كلاعب بارز في سياسات القوة في المنطقة. وللمحافظة على ميزان القوة هذا ـ الذي أقامه في المنطقة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ضد صعود إيران واللاعبين غير الحكوميين ـ يجب سحق الأخبار المفيدة، التي يمكن أن تكون رديئة عن المملكة. إن طريقة السعودية في وضع الإعلام تحت سيطرتها والعقوبات القاسية لأولئك الذين لا يصورون رأياً وردياً عن العائلة الملكية والمملكة ينعكس في دول مجلس التعاون الخليجي الذي يملك قوانين إعلام صارمة مشابهة للحفاظ على قواعد السلطة الملكية.
يمكن اعتبار قطر، إلى حد ما، استثناء مع «الجزيرة»، ولكن عندما يتعلق الأمر بتطبيق القناة الإظهار نفسه للأخطاء الحكومية والقضايا الاجتماعية في الدوحة كما فعلت في مكان آخر من المنطقة، تقصر أو تختصر قناة «الجزيرة».
على الرغم من أن معظم الملكية الإعلامية السعودية تدور حول التسلية كما أشار مدير التحرير في ميديل إيست جورنال برودكاستيرز في بيروت حبيب بطاح: «MBC وأوربت وروتانا ـ كل هذه الشركات تملك حصة سعودية كبيرة، وليست بالحقيقة حول المملكة العربية السعودية، ولكنها تستهوي الجمهور العربي». وربما تعدّ هذه هي النقطة التي تبين قدرة مالكي الأسهم السعوديين ـ الذين يرتبطون بشكل كبير مع العائلة الملكية ـ على التحكم بما يبث وما يمكن بثه للجمهور العربي حتى ولو كان تسلية فقط. وكما لاحظ مروان كريدي من الجامعة الأمريكية: «يعد تلفزيون التسلية مساهماً فعالاً في تصور ما يفعل ويبحث العامة العرب في المجالين السياسي والاجتماعي».
إن حقيقة أن معظم القنوات في المنطقة لا ترفض الفائدة يشير أيضاً إلى بعض الدوافع وراء الحصول على مخارج إعلامية. قال هيو مايلس مؤلف «الجزيرة: كيف تتحدى أنباء التلفزيون العربي العالم»: «يتم تأسيس القنوات لأسباب متعددة، ولكن السبب الوحيد الذي لا يمكن تأسيسها من أجله هو الحصول على المال. القناة هي طريقة اقتصادية للتأثير على الناس. إنها حول ضبط المقالات، وبالنسبة للسعوديين كيف يتولون المسؤولية». إن قوانين الإعلام المحلية الصارمة السعودية أبقت غطاء على أي نقد للنخبة الحاكمة السعودية في البلد، واستخدمت المملكة شبكات الملكية والتأثير غير الرسمي بأفضل قدرتها في أي مكان آخر.
ووفقاً لسعيد أبو الريش، مؤلف كتاب «النهوض والفساد والسقوط الآتي لآل سعود»، فإن العديد من الصحفيين الأجانب والعرب كانوا على قائمة الأشخاص الذين ستدفع لهم الأجور في الرياض في السبعينات والثمانينات والتسعينات لإنتاج تعليقات ومواد إيجابية ولمحاربة التغطية التي تجري ضد أجندة المملكة العربية السعودية. وكما يلاحظ، بدأ هذا بالتغير في التسعينيات ـ على الرغم من أن الممارسة لا تزال تجري ـ عند حصول السعوديين على الشبكات كاملة. إن ملكية إعلامية مركزة كهذه إضافة إلى جيوب السعوديين العميقة والتأثير السياسي والاقتصادي الواسع الانتشار يؤثر على الصحفيين العرب والمخارج التي لا تمتثل لأوامر المملكة العربية السعودية.
قال أبو خليل لـ «المجتمع والإعلام العربي»: «من المحرم الآن في الثقافة العربية انتقاد السعودية. وحتى إعلام حزب الله (اللبناني) حريص، وفي قطر بدأ انتقاد الإعلام بالانخفاض، لقد كان هذا موضوعاً حساساً جداً.... عندما يلتقي أمير قطر ملك المملكة العربية السعودية يتلقى على الدوام شكاوى عن قناة الجزيرة».
يظهر التأثير السعودي بشكل خاص في إعلام لبنان المستقل الذي يتصرف كبركة تطويع للعديد من صحافيي ومحرري وكادر المنطقة، ويعني أن الصحافيين لن يقوموا بقصص يمكن أن تعرض مجرى حياتهم المستقبلية للإخفاق، وخاصة إذا تطلعوا للعمل من أجل الشبكات السعودية والخليجية التي تدفع مبالغ عالية. وقال أبو خليل: «كصحافي اليوم لا يمكنك انتقاد سعودي .. أين ستعمل»؟.
وعلى حد سواء، ينفق تقريباً نسبة 40 إلى
70 % من إعلان المنطقة في المملكة العربية السعودية (وتختلف التقديرات)، ولن تعرض الشبكات ومحطات التلفاز والإصدارات تدفق أموالهم للخطر من خلال مضايقة سوق إعلانهم الأولي في أكبر اقتصاد في المنطقة. واكتشفت «الجزيرة» أن هذا سبب لهم خسارة. تم انتقاد «الجزيرة» بعنف لخصخصتها عام 2001، ولكن وفقاً لمايلس فإن محاولات القناة لرفع عائدات الإعلان الكافية باءت بالإخفاق من خلال الضغط السعودي على الشركات الكبرى لسحب الإعلانات من «الجزيرة» أو مواجهة مشكلات الإعلان ضمن المملكة. وقال: «لقد كلف السعوديون القنوات عشرات الملايين في الفوائد». إن الحكم على حقيقة أن القناة لا تزال ممولة من الدولة ونقص الإعلان على قناة «الجزيرة» اليوم ـ الذي ينحصر بشكل كبير على الشركات القطرية التي تدار حكومياً ـ نجحت الرياض في أهدافها، مع ارتفاع عائدات قناة «العربية» من الإعلان.
الأخبار ليست جيّدة على الدوام!
إن معرفة كيف يؤثر التأثير السعودي على تغطية الأخبار وجد في مقالة لإيان ريتشاردسون الذي كلف بتأسيس قسم أنباء التلفزيون العربي BBC خلال العامين الذي بثت فيه القناة في أوربت: وخلال الحياة القصيرة للتلفزيون العربي BBC، كان هناك العديد من «اجتماعات الاتصال» الغاضبة مع أوربت، وتبين أن ضمانات استقلال الافتتاحيات هي نكتة فظة، محجوبة فقط بشكل مجرد بواسطة ستار من الدخان الخفيف حول إخفاق الـ BBC المزعوم في مراقبة «درجات التأثر الثقافية»ـ الشيفرة السعودية لأي شيء، وليس كما تحب وتشتهي العائلة الملكية. وعندما اتضح لأوربت ومواردها أنها خلقت وحشاً غير معد للامتثال للأوامر السعودية كان هذا مجرد مسألة وقت قبل أن يكون هناك تجزيء نهائي للطرق. وكما لوحظ مسبقاً، نتج هذا التقسيم للطرق في«تعليب» القنوات بشكل كامل.
كتبت مقالة ريتشاردسون قبل عقد، ولكن إدراكه العميق «لاستقلال الافتتاحية» كان واضحاً بسهولة أوائل حزيران من هذا العام، عندما أعلنت صحيفة الغارديان في لندن عن قصة دفع الطيران البريطاني BAE ووزارة الدفاع البريطانية حوالي 2 مليار دولار لأمير المملكة العربية السعودية بندر بن سلطان لضمان صفقة أسلحة تقدر بمبلغ 40 مليار دولار من أجل أنظمة BAE التي تعود إلى عام 1985. وقد سببت القصة فضيحة في بريطانيا، وحصلت على تغطية في الإعلام الدولي ولكن تلقت تغطية ضئيلة نسبياً في الشرق الأوسط. لم تذكر القصة نهائياً من قبل قناة «العربية»، مع التغطية المحصورة بشكل كبير على المخارج غير المتأثرة بالسعوديين وهي «الجزيرة» والصحيفة الناطقة باللغة العربية في لندن وهي «القدس العربي». وقال بطاح: «لقد كانت قصة ضخمة ويجب تغطيتها بشكل كبير لتأثيرها سياسياً واقتصادياً على المنطقة كاملة. ويبدو أن التغطية القليلة ظلم حقيقي للجمهور».
ووفقاً لأندرو هاموند من رويترز، المثال الآخر عن وضع المملكة العربية السعودية لأجندة الإعلام هو أن «الإعلام العربي وافق بشكل كبير على حملة الإعلام السعودي ضد إيران بخصوص تأثيرها المتزايد في العالم العربي».
ويرى أبو خليل أيضاً أن السعودية ـ قناة «العربية» بشكل خاص ـ لعبت دوراً فعالاً في تحريك الفتنة بين السنة والشيعة، التي تفاقمت من خلال الاحتلال في العراق، والانقسامات الطائفية في لبنان والحاجة للسعودية وللحلفاء الغربيين لمحاربة تأثير إيران المتزايد في الشرق الأوسط والتي يطلق عليها بعض المعلقين والسياسيين «الهلال الشيعي».
آثار سلبيّة عميقة
وفي النهاية، للتأثير السعودي على الإعلام أثر سلبي على الأخلاق الصحفية والتقارير التحقيقية والتغطية المتوازنة وتزويد معلومات وافرة للعامة العرب عن القضايا المهمة في المنطقة. علاوة على ذلك، مع النقد والقصص المدركة بشكل عميق الذي يتجاوز الحدود بالنسبة لبعض الصحافيين العرب، تكمن المشكلة في عدم قدرة الصحافيين غير العرب تولي المهمة بسبب قوانين «الفيزا» الشاقة والنفاد المحدود للمصادر، وخاصة القصص التي تتعلق بشكل مباشر بالدولة التي من المعروف أنها سرية في إيصال المعلومات.
وكما لخص أبو الريش في كتابه «آل سعود»: «إن القدرة على التأثير على الصحافة الغربية تأتي في قائمة السيطرة الكلية على الإعلام الداخلي السعودي واستبعاد المعارضة ضمن الإعلام العربي. وإن الأثر الموحد ينتج صورة خاطئة تتجاهل وتحرف إساءات آل سعود. ومن المتوقع أن يستيقظ العالم على بلد مشتعل ويتساءل لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد دون معرفة أي شخص عنها؟».
■ باول كوشرين:
محرر مشارك في «المجتمع والإعلام العربي»، وصحفي مستكتب في بيروت. يكتب لصحيفة الإنديبيندنت يوم الأحد، فرانكفورتر أليجمين زايتنغ، ستريت تايمز وجينس. حاصل على ماجستير في دراسات الشرق الأوسط من الجامعة الأمريكية في بيروت، وعلى ليسانس في السياسات الدولية والتاريخ الدولي من جامعة كيلي، إنجلترا.