أسئلة وأجوبة بصدد الأزمة المالية العالمية الحالية الاقتصاد الأمريكي.. الاندفاع السريع نحو الهاوية
وجهت الأسئلة صحيفة «توركيش ديلي نيوز» في إستنبول تركيا.
الإجابات للدكتور ترامبلاي.
• السؤال الأول:
ما الذي أطلق أزمة القروض العقارية في الولايات المتحدة؟ هل تستطيع مقارنتها بالأزمات القديمة مثل أزمة الثمانينات؟
هنالك أربعة عوامل مترابطة مسؤولة عن توليد الأزمة المالية الراهنة (القروض العقارية) التي تؤثر اليوم على الولايات المتحدة.
أولاً: السياسة النقدية. بعد انفجار فقاعة الإنترنت (دوت دوم بالإنكليزية) في العام 2001، التي أدت إلى انحسارٍ دام من آذار إلى تشرين الثاني 2001، خفضت الخزينة، التي كان يترأسها في ذلك الحين آلان غرينسبان، تدريجياً نسبة الفائدة الدلالية من 6.5 بالمائة حينذاك إلى 1 بالمائة في العام 2004، أي النسبة الأخفض منذ العام 1958. ومن المعترف به الآن أنّ هذا الخفض كان مفرطاً وأنّه لم يكن على الخزينة خفض نسبها إلى ما دون 2 بالمائة وأنه كان ينبغي رفعها مجدداً في العام 2002. وبالفعل، من العام 2002 إلى العام 2004، انتهج المصرف المركزي الأمريكي سياسة نقدية مفرطة في توسعها. وبما أنّ آلان غرينسبان أصبح اليوم الرئيس الأسبق للخزينة، فهو يشرح سياسته حينذاك مؤكداً بأنه كان يخشى من مجيء فترة انكماش اقتصادي، لكنّ القليل من الاقتصاديين كانوا يوافقونه على رأيه. بين العامين 2002 و2004، لم تكن الخزينة الأمريكية تحتاج للاحتفاظ بنسب فائدة قصيرة الأجل منخفضة إلى هذا الحد ولفترةٍ طويلة كهذه، لاسيما وأنّ إدارة بوش قد خفضت الضرائب ورفعت نفقاتها العسكرية لغزو العراق عسكرياً.
ثانياً: القفزة العقارية. لقد غذى الانخفاض غير الطبيعي لنسب الفائدة في الولايات المتحدة وكذلك في كل مجال بسبب التداخل بين المال وأسواق رؤوس الأموال، غذى قفزةً عقارية عبر العالم لم تكن قابلةً للحياة على مجال طويل، إذ إنها استندت إلى المضاربة. وبالفعل، بقيت معدلات الرهن العقاري في الولايات المتحدة منخفضة، حتى بعد بدء الخزينة برفع نسبة الفائدة الدلالية من 1 بالمائة منتصف العام 2004 إلى 5.25 بالمائة في حزيران 2006. ودفع ذلك الأمر الأمريكيين إلى اقتراض مبالغ ضخمة من الخارج. بل إنّ العجز الجاري للولايات المتحدة بلغ 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2006. وكانت الصين واليابان والبلدان المنتجة للنفط المشترين الرئيسيين لسندات الخزينة والديون الأمريكية.
ثالثاً: قواعد مصرفية جديدة. نظراً للارتفاع المستمر في قيمة المنازل، جعلت مؤسسات الإقراض قواعد الإقراض لديها أكثر مرونةً لأنّ قيمة المنازل المرهونة لصالح هذه الديون كانت تتزايد باستمرار. بدأت المصارف والمقرضون الرهنيون الآخرون بتسهيل أوضاع المقترضين العقاريين ممن لديهم رصيد مشكوك فيه، عبر توسيع سوق القروض الرهنية أمام مشتري المنازل أولئك الذين لم يكونوا سيتمكنون في أوقات أخرى من تقديم ضمانات كافية. منحت قروض لشراء منازل بطريقة غير معتادة لمقترضين لم يتوجب عليهم تبرير مصادر دخلهم. كانت بعض القروض تسمى «ادفع الفائدة فقط» بتسديدات رهنية عقارية تبلغ 5 بالمائة أو أقل. كان بعض القروض الأخرى قروضاً ذات نسب فائدة متغيرة، بنسب فائدة ضئيلة في السنة الأولى أو السنتين الأوليين، ثم ترتفع هذه النسب بشدة. في العام 2006، كان نحو ربع القروض الرهنية في الولايات المتحدة قروضاً عقارية ونحو 20 بالمائة منها قروضاً ذات فائدة متبدلة.
رابعاً: المنتجات المالية الجديدة. مع الزيادة الكبيرة في الطلب على القروض الرهنية، لجأت المصارف الكبيرة إلى بعض المنتجات المالية الابتكارية بهدف توفير رأسمالها. فبدأت بتجميع هذه القروض بطريقة أكثر جاذبية وتجزئتها على شكل صكوك جديدة خارجية، وبذلك نقلت مخاطر القرض إلى شاري هذه الصكوك. هكذا نشأت فئة جديدة من الصكوك، كثيراً ما تدعوها وكالات الترميز (AAA الأسعار الأكثر أماناً)، أمكن صناديق مشتركة وشركات تأمين وصناديق تقاعدية وغيرها من المستثمرين شراءها.
يجري تقديم صناديق الاستثمار المتخصصة هذه بأسماء مختلفة مثل الصكوك المستندة إلى ديون إلزامية أو صكوك مستندة إلى موجودات. كانت لها ميزات الأوراق التجارية. سوق الأوراق التجارية هذا هو الذي يتعرض للاهتزاز في الولايات المتحدة وخارجها وهو في مركز الأزمة المالية الحالية. في ذروة الأزمة صيف العام 2007، كان سوق الأوراق التجارية في الولايات المتحدة يقدر بنحو 1170 مليار دولار، وقد انخفضت هذه القيمة حالياً 900 مليار دولار وماتزال تنخفض، في حين تحتسب المصارف قروضاً مشكوكة. (ملاحظة: يمكن لعملية عدم التحديد «1» المالية الحالية أن تدوم عدة سنوات).
مثلت أزمة التوفير والقروض مطلع الثمانينات ضربةً خطيرة للاقتصاد الأمريكي هي أيضاً. فقد أفلس أكثر من مائة مؤسسة توفير وإقراض مالية وقدرت الخسائر بنحو 150 مليار دولار. فضلاً عن ذلك، ساهمت الأزمة في حصول انكماش العام 1990-1991. الأزمة المالية هذه المرة هي على الأقل بالسوء نفسه، إن لم تكن أسوأ، إذ إنّ نزاهة مجمل القطاع المصرفي الأمريكي في الميزان وموضوع تساؤل. لم يعرف حتى الآن تماماً مدى خسائر الأزمة الحالية، لكنّ الجميع يتفقون على القول إنّها ستكون كبيرة جداً.
(مثال آخر من التسعينات هو الإفلاس الذي كاد يعانيه في أيلول 1998 صندوق التحوط المدعو «LTCM إدارة رأس المال طويلة الأجل». وقد اضطرت الخزينة الفيدرالية للتدخل بذعر وتقديم سيولة لتجنب التصفية الإجبارية لهذا الفاعل المالي الهام، بالعواقب السلبية على أسعار السندات المالية وما كانت ستؤدي إليه من ارتفاع نسب الفائدة، وذلك في الوقت نفسه الذي كانت آسيا تعاني فيه من أزمة مالية. ملاحظة: صناديق التحوط هي بصورة أساسية هيئات مضاربة خاصة خاطرت مالياً في نسب الفائدة، في سوق العملات والمنتجات المشتقة وكذلك في الأسواق المالية عموماً).
• السؤال الثاني:
كيف سيتأثر المواطن الأمريكي المتوسط؟
بما أنّ ملكية منزل هي جزءٌ كبير من القيمة الصافية للأمريكي المتوسط، فإنّ انخفاض أسعار العقارات والمصادرات الناتجة عن العجز عن تسديد القروض العقارية سوف ترغمه على خفض نفقات الاستهلاك في الأشهر القادمة عبر تأثيرٍ سلبي على الثروة. كما سيكون لخسارة الوظائف والموارد في البناء وفي الصناعة المالية تأثير سلبي على نفقات الاستهلاك. وفوق كل شيء، ربما يضطر الأمريكي المتوسط إلى إنقاص دينه الكلي. إذا ما جمعت الديون العقارية والديون الاستهلاكية معاً، فإنها تمثل نحو 125 بالمائة من الدخل المتوافر. تاريخياً، هذه مستويات شديدة الارتفاع.
• السؤال الثالث:
كيف تقيم سياسات الخزينة بعد هذه الاضطرابات؟ ما رأيك في التشاؤم المتعلق بالتضخم؟
مثلما كتبت في موقعي يوم 21 أيلول الماضي، أعتقد أنّ الخزينة التي يترأسها الآن بن برنانك قد فقدت صوابها حين أعلنت خفض نسب الفائدة بطريقةٍ أكبر مما خططت له، خفضاً بمقدار نصف نقطة في نسبتها الدلالية ومعدل الحسم، وذلك في حين أنها كانت قد اقتطعت نصف نقطة من معدل حسمها في السابع عشر من آب 2007. الهدف كان مساعدة مصارف الولايات المتحدة الكبيرة التي تواجه مصاعب كبيرة في الإقراض وتسهيل تعويم مصارفها الفرعية وفاعلين آخرين، مثل صناديق التحوط، المتورطة في أزمة القروض العقارية. بذلك، تتبع الخزينة الفيدرالية برئاسة بن برنانك على نحوٍ ما نصائح «والتر باجهوت» الذي يروج لإنقاصٍ حاد للنسب في وضع الأزمة المالية. تتمثل المشكلة الوحيدة في أنّ قاعدة «باجهوت» توصي المصرف المركزي بالإقراض السخي في فترة حرجة من تقشف الإقراض... لكن بنسبة فائدة مرتفعة. حين تقرض الخزينة لمقرضين يعانون مصاعب بنسب تفضيلية منخفضة، فهي تتصرف كما لو أنها «حكومتهم»، أي أنها تمول عمليات الإقراض المجازفة مع فرض ضرائب على أولئك الذين لديهم دولارات أمريكية. لا يقتصر الأمر على محاولة جعلهم أكثر «سيولة»، بل كذلك أكثر «قدرةً على الدفع» وإنقاص خطر الإفلاس.
عبر تصرف الخزينة الأمريكية بزعامة «بن برنانك» على هذا النحو، ولاسيما عبر سياستها القاضية بالتخلي عن الدولار في أسواق التبادل الخارجية، تزرع بذور تضخمٍ مستقبلي. سوف يصعب سحب كل هذه الأموال الجديدة التي حقنت في النظام المالي، ومن المتوقع أن تبدأ الضغوطات التضخمية في الظهور في غضون بضع سنوات عقب التباطؤ الاقتصادي المرتقب. لاسيما وأنّ دورة كوندراتييف، وهي دورة طويلة متوسطة من التضخم وزوال التضخم والانكماش الاقتصادي تدوم 54 عاماً هي على وشك اتباع مسارها في العام 2010-11. ومن المتوقع أن تبدأ حقبة تضخم جديدة فور ذلك.
• السؤال الرابع:
يقال إنّه حين تسعل الولايات المتحدة، فبقية العالم يصاب بالإنفلونزا. ما الذي سيجري حين تصاب الولايات المتحدة بإنفلونزا قوية كهذه؟
وما هي الآفاق بالنسبة للأسواق الناشئة مثل تركيا، التي تعتمد على الصادرات والتي شهدت تدفقاً كبيراً لرؤوس الأموال الأجنبية في السنوات الخمس المنصرمة؟
يمثل الاقتصاد الأمريكي نحو ربع الاقتصاد العالمي، لذا فمن المنطقي توقع أن يكون لتباطؤ الاقتصاد الأمريكي عواقب على الاقتصادات الأخرى. اليوم، ما تزال أوروبا وآسيا في ذروة تقدمهما. لكنّ انخفاض الدولار الأمريكي والزيادة المتزامنة لقيمة اليورو ومعظم العملات الأخرى، بالتضافر مع زيادة أسعار النفط، سيكون لها تأثير سلبي على هذه الاقتصادات. في الواقع، ربما يستغرق الأمر مدةً تصل إلى سنتين قبل أن يكون لعملة أفرط في تقييمها تأثير على الاقتصاد الحقيقي.
يتمثل الخطر بالنسبة لتركيا في أنها متشابكة مع عملة أفرط في تقييمها في حين أنها تنتهج استراتيجية نمو اقتصادي تدعمه الصادرات. وبالفعل، في السنوات الأخيرة، ارتفعت قيمة الليرة التركية الجديدة مقابل الدولار الأمريكي بل حتى مقابل اليورو، وكان لذلك تأثيرات مفيدة في مجال مكافحة التضخم، لكنّه ربما يؤذي النمو المستقبلي. كانت الأرجنتين أواخر التسعينات أقرب الأمثلة إلى هذا الوضع، فقد اضطرت للتخلي عن ثبات سعر صرف عملتها بالنسبة للدولار الأمريكي).
• السؤال الخامس:
هل تتوقع اختلافاً في المقاربة بين اقتصاد البلدان الأنغلوساكسونية وبين اقتصاد بلدان أوروبا القارية التي يفلت معظمها من العواقب السلبية لهذا الوضع؟
كما تعلم، جرى تعويم بعض المصارف الأوروبية بعد تعرضها لخسائر فادحة في عملياتها المتعلقة بالأوراق التجارية. نتيجةً لذلك، حقن مصرف إنكلترا والمصرف المركزي الأوروبي مبالغ طائلة من المال الجديد في قطاعهما المصرفي. في الولايات المتحدة، لدى الخزينة الفيدرالية مهمة مزدوجة، تتمثل في السيطرة على التضخم وفي تسهيل النمو الاقتصادي. في أوروبا، تتمثل مهمة المصرف المركزي الأوروبي في السيطرة على التضخم. هذا لا يعني عدم وجود ضغوط سياسية تهدف إلى التخلي عن مكافحة التضخم، بهدف تنشيط النمو، مثلما توضح جيداً حملة السيد «ساركوزي» على سياسات السيد «تريشيه». لكن في المجمل، يبدو أنّ الممارسات المصرفية غير المسؤولة أقل شيوعاً في أوروبا منها في الولايات المتحدة، وكذلك من المفترض أن تكون التأثيرات السلبية أقل شيوعاً في أوروبا منها في الولايات المتحدة.
إذا ما جمعت الديون العقارية والديون الاستهلاكية معاً، فإنها تمثل نحو 125 بالمائة من الدخل الأمريكي.
• السؤال السادس:
ما هو الدرس الواجب استخلاصه من هذه الأزمة وما هي أشكال الحيطة الواجب اتباعها؟
كان واضحاً وجود نقص في الهمّة وفي المراقبة من جانب المصارف المركزية وهيئات التنظيم الأخرى، ولاسيما في الولايات المتحدة. وقد قال الرئيس السابق للخزينة (1951-1970) «ويليام ماكتشسني مارتن» إنّ عمل الخزينة الفيدرالية هو الرحيل بكأس الشراب في اللحظة التي يصبح فيها الاحتفال مشوقاً». في حين انطلقت أزمة القروض العقارية حقاً، يبدو أنّ خزينة «غرينسبان» بقيت قريبة من إدارة بوش وأهدافها السياسية أكثر مما ينبغي، وأنها لم تدرك كفايةً الخطر الذي خلقته قواعد الإدارة المالية الجديدة على صحة النظام المالي والاقتصاد في مجمله. كان على الخزينة أن ترحل بكأس الشراب النقدي في العام 2003-2004، لكنها لم تفعل. لا نعلم بعد مدى الأضرار التي تعرض لها الاقتصاد الحقيقي، وأتمنى أن يكون لا يزال ممكناً السيطرة عليها وألا تنتشر.
• السؤال السابع:
هل تتوقع انحساراً في الولايات المتحدة؟
لا يتوقع رئيس الخزينة «بن برنانك» ووزير الخزينة الأمريكية «هنري بولسون» انحساراً في الولايات المتحدة في العام 2008. أما أنا، فأعتقد أن التباطؤ الاقتصادي حتمي في هذا العام. أتمنى ألا يتجسد أسوأ سيناريو. لكنني أتوقع مع ذلك انحساراً خفيفاً في الولايات المتحدة في العام 2008، سيعقبه انحسار أشد في العام 2010-2011 (أي في قعر دورة العشر سنوات).
• السؤال الثامن:
كيف سيكون تأثير ذلك على الدولار؟
الدولار ينخفض منذ عدة سنوات وقد بلغ مستوياتٍ قياسية لكل الأزمنة بضعف قيمته مقابل اليورو. في العام 2000، كان اليورو يعادل أقل من 83 سنتا في حين أنّه يبلغ الآن نحو 1.5 دولار. أعتقد أنّ الطور الحالي لانخفاض الدولار سيتوقف قريباً. وباستثناء حصول صدمات جيوسياسية كبيرة، ربما يقفز الدولار مجدداً في الأشهر القادمة. حالياً، يجري بيعه أكثر مما ينبغي.
على المدى الطويل، دخلنا حقبةً سيكون فيها الطلب على الطاقة وعلى الموارد الطبيعية قوياً بالمقارنة مع القدرات الإنتاجية. وأتوقع أن يرفع ذلك قيمة عملات البلدان التي تستند اقتصاداتها على المواد الأولية مثل كندا وأستراليا والبلدان الناشئة عموماً.
• السؤال التاسع:
كيف تتوقع التأثير على أسعار النفط؟
أسعار النفط هي انعكاس لانخفاض الدولار الأمريكي. وبسعر 100 دولار للبرميل، فإنّ سعر النفط هو إما قريب من ذروة، أو أنه سيكون سبب حربٍ على إيران يتمناها الثنائي بوش ـ تشيني وستؤدي إلى اضطرابات خطيرة في نقل النفط عبر مضيق هرمز. إذا حصل نزاع بين الولايات المتحدة وإيران، ربما يزداد سعر النفط زيادةً كبيرة ثم يهبط بسبب انحسارٍ عالمي. وإذا لم يحدث نزاعٌ كبير مع إيران ولا أي اضطراب في التزود بالنفط، من المتوقع منطقياً أن ينخفض مجدداً المستوى المرتفع للأسعار الحالية.