كريستيان سالمون كريستيان سالمون

ساحر البيت الأبيض.. همٌّ دائم في خلق مشهد استعراضي

تقوم «استراتيجية شهرزاد» التي اعتمدها رئيس الولايات المتحدة على «اختراع القصص الأسطوريّة» للدفع نحو نسيان سياساتٍ تمّت إدانتها. ويحتاج الرئيس إلى هذه الأساطير لشدّة ما انخفضت شعبيّته... ولكنّه، عندما يقوم رئيس دولةٍ في مكانٍ آخر وبعد انتخابه بمدّة قصيرة باستعادة سجناء فرنسيين تمّ إيقافهم في تشاد، ثمّ عندما يجهد، دائماً أمام الكاميرات، لإطلاق سراح سيّدة رهينة في كولومبيا، أفلا يزايد هذا الآخر قليلاً في تقمّص دور البطل الأسطوري؟

في مقالٍ في صحيفة «نيويورك تايمز» صدر قبل أيامٍ من الانتخابات الرئاسية عام 2004، كشف رون سوسكايند، كاتب الافتتاحيات السابق في «وول ستريت جورنال» بين 1993 و2000، وصاحب عدة تحقيقات حول السياسات الإعلامية للبيت الأبيض منذ العام 2000، عن تفاصيل محادثةٍ له مع أحد مستشاري جورج والكر بوش، خلال صيف العام 2002: «قال لي أن الأشخاص أمثالي ينتمون إلى «ما نسمّيه جماعة الواقع» the reality-based community أنتم تعتقدون بأن الحلول تنبثق عن تحليلاتكم الصائبة للواقع الخاضع للمعاينة». فوافقته وتمتمت شيئاً ما حول مبادئ الأنوار والفلسفة التجريبية. فقاطعني قائلاً: «لم يعُد العالم يسير حقيقةً بهذه الطريقة. وأضاف: «لقد أصبحنا إمبراطوريةً اليوم، وعندما نتصرّف، فنحن نخلق واقعنا الخاص. وفي حين تدرسون أنتم هذا الواقع بصورة صائبة، كما تتمنّون، نتصرّف نحن مجدّداً ونخلق وقائع جديدة يمكن لكم دراستها بدورها، وهكذا دواليك... نحن نصنع التاريخ (...) وأنتم، جميعاً، لا يبقى أمامكم سوى دراسة ما نُقدِم عليه». 

تكرار غير منقطع

كان لمقال سوسكايند وقعه بعد أن اعتبرته «نيويورك تايمز» سبقاً صحفياً على المستوى الثقافي. فاستولى كتّاب الافتتاحيات والمدوّنات الإلكترونية على عبارة «جماعة الواقع» التي انتشرت على الشبكة، حيث أحصاها محرّك البحث «غوغل» تتكرّر، في تموز/يوليو 2007، أكثر من مليون مرة؛ كما أفردت لها موسوعة «ويكيبيديا» الإلكترونيّة صفحةً خاصة. وبحسب جاي روزن، أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك، فإن «العديد من اليساريين قد تبنّوا هذه العبارة بتسمية أنفسهم على صفحاتهم الالكترونية الخاصة «أعضاءً محترمين في جماعة الواقع»، في حين سخر اليمين من الأمر بالقول: «إنهم يبنون على الواقع؟ فليكن!».

هذا الكلام عن مجتمع الواقع تفوّه به على الأرجح كارل روف، قبل أشهرٍ من حرب العراق، ليس فقط تهكمياً مُمِِضّاً وجديراً بالمكيافيلي الخبير بالتواصل الإعلامي، بل يبدو خارجاً من خشبة مسرحٍ أكثر منه من مكتبٍ في البيت الأبيض. فهو لا يكتفي بإعادة إطلاق المعضلات القديمة التي كانت تشغل السياسات الخارجية منذ زمنٍ بعيد، والتي تواجه فيها البراغماتيون والمثاليون، الواقعيون والأخلاقيون، أنصار السلم وأنصار الحرب؛ أو في العام 2002 بالذات، المدافعون عن القانون الدولي ودعاة اللجوء إلى القوة، بل إنّه يُبرِز مفهوماً جديداً للعلاقات بين السياسة والواقع. إذ لا يكتفي مسؤولو أقوى دولةٍ في العالم بإدارة ظهورهم لسياسة الواقع (الريال بوليتيك) بل يتجاهلون الواقعيّة بحدّ ذاتها، ليتحوّلوا مبتدعين لواقعهم الخاص، وأسياداً للمظاهر، ودعاةً لما يمكن تسميته «سياسة الواقع الخياليّة». 

 ديزني لنجدة البنتاغون

أعطى الاجتياح الأميركي للعراق، في آذار/مارس 2003، مثالاً مشهوداً على إرادة البيت الأبيض في «خلق واقعه الخاص». فبهذه المناسبة، حرصت دوائر وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، على عدم تكرار أخطاء حرب الخليج الأولى عام 1991، فبذلت جهداً خاصاً لتحسين استراتجيتها الإعلامية. فإضافةً إلى الصحافيين الخمسمئة الذين «حُمِّلوا» ضمن وحدات الجيش الأميركي، والذين طال الحديث عنهم، اعتنت الإدارة جيّداً بتجهيز قاعة الصحافة التابعة للقيادة العامة للقوات الأميركية في قطر: مستودع تخزين أعيد تحويله -بكلفة مليون دولار فقط لا غير!- إلى استوديو تلفزيوني حديث جداً، مع منصّة وشاشات «بلازما» وجميع التجهيزات الإلكترونية القادرة على البث المباشر لأفلام فيديو حول المعارك، وخرائط جغرافية ولوحات متحرّكة ورسوم بيانية...

وصلت وحدها كلفة المسرح الذي كان يتوجّه منه الناطق الرسمي باسم الجيش الأميركي، الجنرال تومي فرانكس، إلى الصحافيين، إلى 200 ألف دولار؛ وقام بتنفيذه مهندس ديكور عمل سابقاً مع شركتَي ديزني و«أم. جي. أم» السينمائيتين، كما في البرنامج التلفزيوني «صباح الخير أميركا». وكان البيت الأبيض قد كلّفه، منذ 2001، تصميم خلفية الديكورات التي سيظهر أمامها الرئيس؛ وهذا الخيار لم يكن مفاجئاً بسبب العلاقات المعروفة بين البنتاغون وهوليوود. وفي المقابل، كان مستغرباً قرار وزارة الدفاع اللجوء، من أجل هذه الأعمال، لخدمات ديفيد بلين، وهو... ساحرٌ معروفٌ جداً في الولايات المتحدة بفضل برنامجه التلفزيوني وألعاب الخفّة التي تسمح له بالتحرّر من القوانين الفيزيائية، مثل الارتفاع في الهواء أو البقاء مسجوناً لأيامٍ في قفص دون طعام - والتمرينان لا يتعارضان. وفي كتابٍ أصدره عام 2002 من يسمّي نفسه «مايكل جوردان السحر»، يعتبر هذا الساحر نفسه وريثاً لجان أوجين روبير هودان، الساحر الفرنسي الأسطوري الذي كان قد وافق في القرن التاسع عشر على الذهاب إلى الجزائر لحساب الحكومة، من أجل مساعدتها على قمع التمرّد، ليبرهن على أن سحره يتفوّق على سحر المتمرّدين. ولا نعرف إذا كان البنتاغون ينتظر منه مهمّة مماثلة، لكن استدعاءه وإرساله إلى قطر يوحي بأن مهارته في الشعوذة قد استُعمِلت من أجل بعض الخدع أو المؤثِّرات الخاصة... 

منبر بكلفة 200 ألف دولار

أمّا السيّد سكوت سفورزا، المنتج السابق في محطة ABC التلفزيونية، والذي عمل في جهاز الدعاية الجمهوري، فقد ابتكر العديد من الخلفيات التي ألقى من أمامها جورج بوش أهمّ تصريحاته خلال عهدَيه في الرئاسة. وهو الذي اشرف في أول أيار/مايو 2003 على إخراج خطاب بوش فوق حاملة الطائرات «أبراهام لنكولن»، أمام يافطةٍ خُطّ عليها «نفّذت المهمة»: «المعارك الكبرى في العراق انتهت. لقد انتصرت الولايات المتحدة وحلفائها في حرب العراق».

لكن الإخراج لم يتوقّف هنا. فالرئيس قد حطّ على حاملة الطائرات من على متن طائرة حربيّة أطلق عليها للمناسبة اسم «سلاح البحرية رقم 1» Navy 1 وكُتِبَ عليها «جورج بوش، القائد العام». وقد شوهِدَ الرئيس مرتدياً زيّ الطيّارين يخرج من قمرة القيادة وخوذته بيده، كأنّه عائدٌ من إنتاجٍ جديدٍ مذهلٍ لإحدى مهمّات «توب غانّ» Top Gun، وهو فيلمٌ أنتجه جيري بروكايمر المعتاد على العمليات المشتركة بين وزارة الدفاع وهوليوود، وكان هذا مسؤولاً عن برنامجٍ من وحي تلفزيون الواقع حول الحرب في أفغانستان، بعنوان «ملامح من خطّ النار»، Profiles from the Front Line. ولم يخطئ معلّق «فوكس نيوز»، كما ينقل فرانك ريتش، عندما أسرع إلى التهنئة بالقول: «هذا عظيم وكأنّنا في المسرح». أمّا ديفيد برودر، من الـ«واشنطن بوست» فقد سُحر بما أسماه «الوقفة الجسدية» للرئيس. ولا بدّ أن سفورزا قد أتقن ضبط الصورة بحيث أخفى في الأفق مدينة سان دييغو، على بعد ستين كيلومتراً، إذ كان المشهد يفترض أن حاملة الطائرات كانت مبحِرة في أعالي البحار ضمن منطقة المعارك. 

بوش الخطيب الممثل

لكن أوضح ضبطٍ لصورة الرئيس وهو يلقي خطاباً جاء في 15 آب/أغسطس 2002، عندما كان رئيس الولايات المتحدة يتحدّث بأبّهة عن «الأمن القومي» أمام الجرف الصخري الشهير لجبل «رشمور»، حيث نُحتت وجوه جورج واشنطن ووليم جفرسون وفرانلكين روزفلت وأبراهام لينكولن. وقد وضعت الكاميرات التي كانت تنقل الخطاب في زاوية تسمح بتصوير جورج والكر بوش جانبياً كي يتطابق وجهه مع وجوه أسلافه الخالدين...

ثمّ استخدم الأسلوب نفسه بمناسبة الخطاب الذي ألقاه بوش في الذكرى الأولى لاعتداءات 11 أيلول/سبتمبر 2001، من أجل تحضير الرأي العام الأميركي لاجتياح العراق، تمجيداً «للمعركة الكبرى التي تتحدّى قوتنا؛ وأكثر من ذلك، تصميمنا». فقد استأجر سفورزا ثلاث عوّامات لإيصال الفريق الرئاسي إلى أسفل تمثال الحريّة الذي اختار إضاءته من الأسفل إلى الأعلى بواسطة مصابيح جبّارة. واختار زاوية التصوير بحيث يكون التمثال مرئياً في الخلفية أثناء إلقاء الخطاب. ويورد فرانك ريش حول ذلك رأي أحد الاختصاصيين، السيد مايكل ديفر، الذي أشرف عام 1980 على إخراج خطاب الترشيح الذي ألقاه رونالد ريغان، مع تمثال الحريّة في خلفية الديكور، والذي قال: «هم يفهمون معنى الصورة أكثر من كلّ من سبقهم. لقد أدركوا أن ما هو ظاهرٌ حول الرأس أكثر أهميةً مما هو داخل الرأس». 

حكواتي الشعب الأمريكي

ما يظهر حول الرأس هو تحديداً ما يحوّل الصورة إلى أسطورة: «نفذّت المهمة»، الآباء المؤسّسون، تمثال الحريّة... هكذا تندرج الصورة في الزمن لتصبح «حكاية». لكن المطلوب منها أيضاً أن تثير لدى المشاهد هذا الحوار بين لحظتين من التاريخ: ما هو ممثّلٌ في الصورة واللحظة الحقيقية لالتقاط الحدث. رجع الصدى هذا هو الذي يسبّب الانفعال المطلوب. والواقع أنّه ما من مناسبة أكثر حساسيةً للأميركيين، في العام 2002، من خطابٍ حول الحرب بمناسبة الذكرى الأولى لـ11 أيلول/سبتمبر. أضِف إلى ذلك أن العطلة الصيفية كانت قد انتهت للتوّ، والشعب مستعدّ للتركيز على مواضيعٍ ذات أهمية قصوى.

وبحسب أحد أساتذة جامعة كولورادو، إيرا شرنوس، فقد طبّق كارل روف، طوال عهدَي جورج بوش، ما يصفها بـ«استراتجية شهرزاد»: «عندما تحكمك السياسة بالإعدام، ابدأ بسرد الحكايات - حكايات مذهلة وساحرة وآسرة بحيث ينسى الملك (والمقصود هنا المواطنين الأميركيين الذين يحكمون أميركا نظرياً) حكمه بالإعدام. هكذا يتلاعب (روف) بشعور الخوف الأمني لدى الأميركيين الذين يشعرون بأن حياتهم تفلت من أيديهم». وما نجح به تماماً في عام 2004 مع إعادة انتخاب السيد بوش، كان إبعاد انتباه الناخبين عن محصّلة الحرب بواسطة التركيز على الأساطير الجماعية الكبرى في المخيّلة الأميركيّة. ويوضح شرنوس بأن «كارل روف قد راهن على تنويم الناخبين بواسطة قصص بأسلوب جون واين، مع «رجال أشاوس حقيقيين» يحاربون الشيطان عند الحدود - على كل حال، تنويم عدد كاف من الأميركيين تفادياً لحكم الإعدام الذي كان يمكن للناخبين أن ينزلوه بحزب قادنا إلى الكارثة في العراق (...). وما انفك روف يبتدع الحكايات حول الأخيار والأشرار لصالح المرشّحين الجمهوريين (إلى عضوية الكونغرس)؛ وهو يجهد لتحويل كل عملية انتخابية إلى مسرح أخلاقيّ، نزاعٌ تتواجه فيه الصرامة الأخلاقية عند الجمهورييين مع الارتباك الأخلاقي عند الديمقراطيين (...). خدعة كبيرة هي استراتجية شهرزاد هذه، المبنيّة على التوهم بأن مجرّد حكايات أخلاقية يمكن أن تمنحنا شعوراً بالأمان، بصرف النظر عمّا يحدث في العالم. حيث يريد روف لكل صوت يعطى للجمهوريين أن يكون موقفاً رمزياً. في آب/أغسطس 2007، أرفق هذا الأخير، بعد أن أرغمه أعضاء الكونغرس الديمقراطيين على الاستقالة، قراره باعتراف مساو لتوقيع في أسفل أعماله الكاملة: «أنا موبي ديك، وهم يطاردونني»!.

■ عن «لوموند ديبلوماتيك»