لجون بيركنز لجون بيركنز

من مقدمة كتاب «التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية» لجون بيركنز(*) الإمبراطوريات مصيرها الانهيار.. وأميركا تسرع في هذا الاتجاه!!

بدأ جون بيركنز التحضير لكتابة «التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية» عندما انتهى من كتابة «اعترافات رجل اقتصادي مأجور» في عام 2004، انطلاقاً من يقينه «أن الناس يرغبون في معرفة ما يجري حقيقة في عالم اليوم، ويرغب الجميع من قراءة ما بين سطور التقارير الإخبارية، وسماع الحقائق التي تحرفها التصريحات الرسمية» للمسؤولين الأمريكيين، لمصلحة أفراد يتحكمون بالرساميل والحكومات والإعلام، الذين يشكلون بمجموعهم حكم تحالف أثرياء المال والشركات.

الكاتب والكتاب.. والتهديد بالاغتيال!
يقول بيركنز:

من أجل إنجاز الكتاب، اتصلت برجال اقتصاد مأجورين وعملاء ـ مرتزقة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي إيه الذين مارسوا التأثير والتزلف والرشوة وأحياناً الاغتيال ـ وسألتهم أن أضمّن قصصهم في كتابي. انتشر النبأ بسرعة: أنا نفسي تعرضت إلى الرشوة والتهديد، مما دعاني إلى التوقف عن الكتابة. قررت بعد أحداث 11 أيلول، عندما أخذت عهداً على نفسي السير قدماً في الكتاب، ألا أخبر أحداً هذه المرة قبل أن تكون مخطوطة الكتاب قد صدرت. عندها ستصبح وثيقة ضمان لحياتي؛ لقد أدرك العملاء أنه إذا حدث أي مكروه لي سيرتفع مبيع الكتاب كالصاروخ في السماء.
تكشف القصص، التي يشارك في روايتها رجال اقتصاد مأجورون وعملاء وصحفيون ومتطوعو فرق السلام، ومدراء تنفيذيون في الشركات والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومسؤولو الحكومة، جاؤوا إلي باعترافاتهم الشخصية، الحقائق الكامنة وراء الأحداث التي تُشكل العالم الذي سيرثه أولادنا. لقد أكدوا الاستنتاج الذي لا مهرب منه: يجب أن نعمل شيئاً ما، يجب أن نتغيّر.
لن تجدوا الكآبة والتشاؤم في هذه الصفحات. أنا أؤكد لكم ذلك. أنا متفائل. أعرف أن مشاكلنا خطيرة، لكنها بالرغم من ذلك، فهي من صنع الإنسان. نحن لسنا مهددين بنيزك سيضرب كوكبنا، ونار الشمس لم تنطفئ بعد. نحن في مقدورنا حل هذه المشكلات، لأننا نحن الذين خلقناها. ونستطيع أن نسلط الضوء على الأمكنة المظلمة في ماضينا من أجل أن نضيء المستقبل لنختبره ونغيره.
أعتقد أنكم عندما تنهون قراءة «التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية»، ستشعرون بثقة مطلقة بأننا سنفعل الشيء الصحيح، وستحددون خطة عملكم. معاً سنتقاسم الموارد التي يزودنا بها اقتصاد اليوم، لكي نؤسس مجتمعاتنا الإنسانية التي تعكس مبادئنا السامية.
 
البنك الدولي.. والرأسمالية العالمية
في مساء أحد الأيام، وقبل الشروع في جولتي لترويج نشر كتابي «اعترافات» بعدة أشهر، وجدت نفسي محاضراً في صالة لبيع الكتب في واشنطن. وقبل أن تقدمني المرأة للحضور. ذكرت لي بأنها تتوقع حضور عدد من أعضاء البنك الدولي.
أنشئ البنك الدولي عام 1994 في مدينة بريتون وودز، في ولاية نيوهامشر، التي نشأتُ فيها. كان البنك مسؤولاً عن إعادة بناء بلدان قد دمرتها الحرب. وفجأة تغيرت مهمة البنك وأصبحت مرادفة لإثبات تفوق النظام الرأسمالي على ذلك الذي في الاتحاد السوفييتي. وللمضي قدماً في لعب هذا الدور، سعى موظفوه لإقامة العلاقات الوطيدة مع مناصري الرأسمالية الرئيسيين، الشركات المتعددة الجنسيات، مما فتح الباب لي ولأمثالي من رجال الاقتصاد المأجورين لتعظيم التريليونات من الدولارات الوهمية. وجهنا الأموال من البنك والمنظمات المماثلة له إلى خطط بدت أنها تخدم الفقراء، بينما هي تخدم أولاً قلة من الناس الأثرياء. ومن أكثر هذه الخطط شيوعاً، كان أن نعين بلداً نامياً ما، يزخر بالموارد الطبيعية التي تشتهيها شركاتنا (كالنفط مثلاً)، نرتب له قرضاً ضخماً. ثم نوجه معظم أمواله إلى شركاتنا العاملة في الهندسة والبناء ـ والقليل الباقي منه ندفع به إلى بعض متعاونين معنا في هذا البلد النامي. وهكذا برزت إلى الوجود مشاريع البنية التحتية، مثل توليد الطاقة من النباتات، والمطارات، والمناطق الصناعية؛ ومع ذلك، فإنها نادراً ما خدمت الفقراء، الذين لم يكن لديهم شبكات في مناطقهم حتى يتم ربطها بالشبكات الكهربائية الرئيسية، ولم يسافروا أبداً حتى يستخدموا المطارات، وحتى أنهم يفتقرون إلى المهارات التي تتطلبها المناطق الصناعية.
وفي لحظة معينة عدنا - نحن رجال الاقتصاد المأجورين - إلى البلدان المُدِينة لنا، لنطالبهم بتسديد تلك الديون بأية طريقة وبأي ثمن: نفط رخيص، أصوات بلدانهم في الأمم المتحدة وعلى قضايا حيوية وهامة بالنسبة لنا، أو إرسال جنودٍ لدعم جنودنا في بعض الأماكن من العالم، كالعراق مثلاً.
وفي كلماتي، كنت غالباً ما أجد أنه من الضروري تذكير الحضور بنقطة هامة تبدو لي واضحة، لكن يُساء فهمها من الكثيرين: أن البنك الدولي، في الحقيقة، هو ليس بنكاً دولياً على الإطلاق؛ بل هو بنك أمريكي. كما هو نسيبه الأقرب، صندوق النقد الدولي. ومن مدراء البنك الأربعة والعشرين هناك ثمانية مدراء يمثلون ثماني بلدان محددة هي: الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، السعودية، الصين وروسيا. أما بقية البلدان الأعضاء الـ184 فيشارك في تمثيلها ستة عشر مديراً. أما بالنسبة للأصوات؛ فتتحكم الولايات المتحدة تقريباً بـ16% في البنك الدولي وبـ 17% من الأصوات في صندوق النقد الدولي. وتأتي اليابان بعدها مباشرة بنسبة 8% في البنك و6% في الصندوق. يليهما كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بنسبة 5%. وتملك الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» على القرارات المهمة، ويقوم رئيسها بتعيين أمريكي رئيساً للبنك الدولي.
 
معكم.. لكننا خائفون!

عند انتهاء كلمتي، دُعيت إلى التوجه نحو الطاولة التي سأوقع كتابي عليها. كان الصف طويلاً وممتداً بين رفوف المكتبة. قلت لنفسي سيكون مساء آخر طويل. والأمر الذي لفت نظري ولم أتوقعه، هو ذلك العدد الكبير من الرجال والنساء الذين يرتدون ثياباً رسمية، والذين قدموا لي بطاقاتهم الشخصية التي تشير إلى مناصبهم العالية التي يشغلونها في سفارات أجنبية وفي البنك الدولي. وكان من بين الحضور عدد من السفراء؛ سألني اثنان منهما أن أوقع لهما نسخاً لرئيسي بلديهما بالإضافة إليهما أيضاً.
كان أربعة رجال في آخر الصف: يرتدي اثنان منهما بدلة مع ربطة عنق، والاثنان الآخران كانا أصغر سناً ويرتدي كل منهما بنطال جينز أزرق وقميصاً رياضياً. قدم لي الرجلان الأكبر سناً بطاقة عملهما في البنك الدولي. قال أحد الشابين: «لقد سمح والدانا أن نقول لك هذا: لقد تابعنا مراقبتنا لهما، وهما يذهبان كل صباح إلى عملهما في البنك وهما يرتديان...».. وأشارا إليهما «كما الآن.. لكن عندما احتشد المحتجون هنا في واشنطن للتظاهر ضد البنك، انضم والدانا إليهم. شاهدناهما يذهبان وهما متخفيان بثياب قديمة وقبعات كرة سلة ونظارات شمسية ليدعما أولئك الناس، لأنهما يعتقدان أنهما وأنت على حق».
صافحني كلاً من الرجلين الأكبر سناً بقوة. وقال أحدهما: «نريد المزيد من مطلقي صفارات الإنذار مثلك».
أضاف الرجل الآخر: «اكتب كتاباً آخر، ضمنه مزيداً من التفاصيل التي عرضتها الليلة، حول ما حدث للبلدان التي عملت فيها. تحدث عن الأضرار التي سببها أناس مثلنا باسم التقدم والتطور. افضح هذه الإمبراطورية. أوضح الحقيقة التي تكمن وراء أمكنة مثل إندونيسيا حيث تُظهر الإحصائيات على أن الأمور فيها هي في أحسن حال، بينما في الواقع هي في أسوأ الأحوال. أعطنا أيضاً، أملاً، وقدم لأولادنا بدائل، وارسم لهم طريقاً كي يؤدوا عملاً أفضل».
وعدتهم أن أكتب كتاباً كهذا.
 
حقاً إنها إمبراطورية
قبل أن نصل إلى النص الرئيسي لذلك الكتاب، أود أن أدقق في كلمة الإمبراطورية التي استخدمها الرجل الآخر، والتي تم تناولها في الصحافة وقاعات الدراسة وفي الحانات المحلية في السنوات القليلة الأخيرة. ماذا تعني كلمة إمبراطورية بالضبط؟ هل أمريكا تستحق حقاً مثل هذا الوصف ـ الوصف الذي يُذّكر بتاريخ طويل من الوحشية والعنف وحكم استبدادي يخدم مصالحه فقط؟

الإمبراطورية: دولة قومية تهيمن على دول ذات قوميات أخرى، وتتمتع بواحدة أو أكثر من الخصائص التالية:

1- تستغل الموارد الطبيعية من الأراضي التي تهيمن عليها.

2- تستهلك كميات كبيرة من الموارد الطبيعية بطريقة لا تتناسب مع عدد سكانها قياساً بهؤلاء من سكان الأمم الأخرى.

3- تمتلك جيشاً كبيراً يفرض سياساتها عندما تفشل الإجراءات الناعمة الأخرى:

4- تنشر لغتها، أدبها، فنها وأوجه ثقافتها الأخرى من خلال مجال نفوذها؛

5- تفرض الضرائب ليس على مواطنيها فقط، بل على شعوب البلدان الأخرى .

6- تفرض عملتها على الأراضي التي تحت هيمنتها.

لقد تمت صياغة هذا التعريف في اللقاءات التي أجريتها مع طلاب عدد من الجامعات أثناء جولتي للتعريف بكتابي «اعترافات» وذلك في عامي 2005 و2006. وقد وصل الطلاب، تقريباً ودون استثناء إلى الاستنتاج التالي: تُبدي الولايات المتحدة حقيقة تمتعها بكل صفات الإمبراطورية العالمية. ولنستعرض هذه الصفات:
الصفة الأولى والثانية: تمثل الولايات المتحدة أقل من 5% من عدد سكان العالم؛ لكنها تستهلك أكثر من 25% من موارده. ويتم ذلك إلى حد كبير عبر استغلال البلدان الأخرى وخاصة البلدان النامية.
الصفـــة الثالثــة: تملك الولايات المتحدة أكبر جيش في العالم وهو أكثر الجيوش تطوراً. ومع أن هذه الإمبراطورية قد بُنيت من خلال الاقتصاد ـ عن طريق رجال الاقتصاد المأجورين ـ لكن يدرك قادة العالم أنه في حال فشل الإجراءات اللينة الأخرى، عندها سيتدخل جيش الولايات المتحدة، كما حصل في العراق مؤخراً.
الصفـــة الرابعــة: تهيمن كل من اللغة الإنكليزية والثقافة الأمريكية على العالم.
الصفة الخامسة والسادسة: ومع أن الولايات المتحدة لا تفرض ضرائب مباشرة على البلدان الأخرى، ولم تقم هذه البلدان باستبدال عملاتها المحلية بالدولار، لكن حكم تحالف أثرياء المال والشركات يفرض ضرائبه العالمية بمكر وحذاقة، فالدولار، هو في الواقع العملة العالمية المستخدمة في التجارة بين دول العالم. وقد بدأت هذه العملية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما عُدَّل مقياس الذهب: أي أصبح تحويل الدولار وقفاً على الحكومات وليس الأفراد. وخلال أعوام الخمسينيات والستينيات، تراكمت ديون الولايات المتحدة بسبب تمويل الاستهلاك الأمريكي المتزايد، والحربين الكورية والفيتنامية، والترويج لمجتمع لندن جونسون العظيم. فعندما حاول رجال الأعمال الأجانب شراء سلع وخدمات من الولايات المتحدة مقابل ديونهم لها، وجدوا بأن التضخم قد خفض من قيمة دولاراتهم في الواقع، لقد دفعوا ضريبة غير مباشرة. عندها طالبت حكوماتهم تسديد الديون ذهباً، فرفضت إدارة نيكسون ذلك، وقامت في 15 آب عام 1975 بالتخلي نهائياً عن مقياس الذهب. كما سارعت واشنطن إلى إقناع العالم بالاستمرار في قبول الدولار كمقياس للعملة. واستناداً إلى قضية غسيل الأموال السعودية، التي ساعدت شخصياً في إخراجها للوجود، تعهد البيت الملكي السعودي ببيع النفط بالدولار الأمريكي فقط. ولأن السعودية تتحكم بأسواق البترول، أجبرت بقية دول أوبيك أن تتعهد بذلك. وببقاء النفط المورد الأهم من الموارد الطبيعية، تبقى هيمنة الدولار كمقياس عالمي للعملة ـ وستستمر الضريبة غير المباشرة.
 
حكام مطلقون
انبثقت صفة سابعة من خلال نقاشاتي مع الطلاب: الإمبراطورية يحكمها إمبراطور أو ملك، الذي يفرض سيطرته على حكومة بلاده والإعلام فيها، ولم يتم انتخابه من شعبه، ولا يخضع لإرادته، ومدة حكمه لا يحددها القانون.
يبدو للوهلة الأولى أن هذه الصفة تُخرج الولايات المتحدة من دائرة الإمبراطوريات، لكن رغم المظهر الخادع، فإن الولايات المتحدة هي إمبراطورية يحكمها مجموعة من الأشخاص الذين يتصرفون كما يتصرف الملوك. يديرون شركاتنا ومن خلالها حكوماتنا. يتناوبون على تبديل مواقعهم الوظيفية، عبر «الباب الدوار» ذهاباً وإياباً من الشركات إلى الحكومة وبالعكس، من الحكومة إلى الشركات. ولأنهم يمولون الحملات الانتخابية السياسية ووسائل الإعلام، فإنهم يتحكمون بالمسؤولين الحكوميين المنتخبين وبالمعلومات المقدمة إلينا. هؤلاء الأشخاص من الرجال والنساء، الذين يطلق عليهم تسمية «حكم تحالف أثرياء المال والشركات» هم أصحاب القرار، بغض النظر عن الذي يحكم البيت الأبيض أو الكونغرس سواء كان الجمهوريون أو الديمقراطيون. وهم لا يخضعون لإرادة الشعب ومدة حكمهم لا يحددها قانون.
لقد بنيت هذه الإمبراطورية الحديثة بغفلة عن أعين الناس. ومعظم مواطنيها لا يعرفون بوجودها. ومع ذلك فإن هؤلاء الذين تستغلهم، هم في معظمهم يعانون من الفقر المدقع، حيث يموت كل يوم 24000 شخص من الجوع أو من أمراض يُسببها الجوع، ويعيش أكثر من نصف سكان العالم على أقل من دولارين في اليوم ـ لا تكفي غالباً لتأمين الحاجات الأساسية للحياة، ويتلقون اليوم المبلغ نفسه الذي كانوا يتلقونه منذ 30 عاماً تقريباً، مقاساً بالقيمة الشرائية الحقيقية. ويجب على الملايين أن يدفعوا ثمناً باهظاً من أجل أن نعيش نحن حياة رغدة. وبينما أصبحنا مدركين للأضرار البيئية التي تسببها طرق حياتنا الاستهلاكية، فإن غالبيتنا إما غافلون أو ناكرون تكاليف المعاناة الإنسانية. إلا أن أولادنا لن يكون لديهم خيار إلا أن يتحملوا مسؤوليتهم عن عدم التوازن الاجتماعي والبيئي الذي نحن خلقناه.
وفي عملية بناء هذه الإمبراطورية، تخلينا نحن في الولايات المتحدة عن معظم معتقداتنا الأساسية، هذه المعتقدات التي حددت في الماضي ما هو الجوهر الحقيقي لأن تكون أمريكياً.
لقد حرمنا أنفسنا وأولئك الذين استعمرناهم من الحقوق التي صاغتها وثيقة إعلان استقلالنا بوضوح شديد. لقد صادرنا مبادئ المساواة العالمية والعدالة والازدهار.
 
النداء الأخير قبل الانهيار
يُعلِّم التاريخ بأن الإمبراطوريات لا تدوم؛ إما أن تنهار أو تُسقط. تتالى الحروب وإمبراطورية أخرى تملأ الفراغ، ويبعث الماضي برسالة ملحة: يجب علينا أن نتغير، ليس في وسعنا أن نسمح للتاريخ أن يعيد نفسه. تشكل الشركات الكبرى القاعدة القوية لحكم تحالف أثرياء المال والشركات، إنها تحدد عالمنا، وعندما ننظر إلى مجسم الكرة الأرضية نرى حدوداً لأقل من 200 بلد بقليل، والعديد من هذه الحدود قد أقامتها القوى الاستعمارية، ومعظم هذه البلدان لا تملك إلا تأثيراً ضعيفاً جداً على جيرانها. وهذا النموذج من وجهة نظر جيوسياسية هو قديم؛  ومن الأفضل تمثيل عالمنا المعاصر بغيوم كبيرة تحيط بكوكبنا، وكل منها يرمز إلى شركة متعددة الجنسيات. وتؤثر هذه الوحدات القوية على كل بلد بمفرده. بحيث يصل تأثيرها إلى أعمق الغابات وأبعد الصحارى.
يقوم حكم تحالف أثرياء المال والشركات بتقديم مسرحية الترويج للديمقراطية والشفافية بين أمم العالم، بيد أن شركاته الكبرى هي ديكتاتورية إمبريالية، حيث تنفرد قلة قليلة باتخاذ كل القرارات وتجني معظم الأرباح. وفي العملية الانتخابية عندنا ـ التي تمثل قلب الديمقراطية الحقيقي ـ يُتاح لمعظمنا أن يصوت فقط إلى مرشحين صناديقهم مملوءة؛ لذلك علينا أن نختار من بين هؤلاء المُدينين بالفضل إلى الشركات الكبرى وإلى الأشخاص الذين يملكونها. وخلافاً لمثلنا، بنيت هذه الإمبراطورية على أسس من الجشع والسرية والإفراط بالاستهلاك المادي.
بعد ذلك المساء في واشنطن، في صالة بيع الكتاب، غالباً ما كانت أفكاري تعود إلى ذلك الطلب الذي قدمه المديران التنفيذيان في البنك الدولي. وعدتهما بأن أضع كتاباً آخر، أفضح فيه الأضرار التي تسبب بها رجال مثلي، وأقدم الأمل من أجل عالم أفضل. كنت بحاجة لفعل ذلك. احتجت إلى مشاركة روايات الأشخاص الذين تجاهلتهم وسائل الإعلام الرئيسية لأن كلماتهم قد تغضب أصحاب الإعلانات، وأفتح المجال لإسماع صوت أولئك الذين همِّشوا لأنهم أصروا ألا تذكر أسماؤهم خوفاً من فقدان وظائفهم، معاشاتهم التقاعدية، وحياتهم التي تعتمد عليها. كان علي أن أقدم بديلاً عن التقارير المنمقة والإحصائيات المضللة التي مُرِّرَت على اعتبار أنها «موضوعية» أو «علمية» لأنها تتضمن الكثير الكثير من المعلومات التي جمعت من الباحثين الذين جميعهم، على الغالب، قد تم تمويلهم من قبل حكم تحالف أثرياء المال والشركات.
إنني مدين بكتابي هذا إلى هؤلاء الناس الذين قرؤوا «اعترافات»، إلى أولاد المديرَين. إلى ابنتي ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً، وإلى ذلك الجيل حول العالم الذي يمثله هذان الشابان وابنتي. من أجلهم جميعاً ـ ومن أجل نفسي ـ كان علي أن أقوم بالخطوة التالية، وأضع هذا الكتاب بين أيديكم.
*باحث اقتصادي أمريكي

ترجمة: حسين علي