سمير أمين ترجمة: أمين عليا سمير أمين ترجمة: أمين عليا

انهيار النظام الأوروبي..13

يسود رأي لدى غالبية الأوربيين، بأن قارتهم أوروبا تمتلك كل المقومات لتصبح قوة سياسية واقتصادية يمكن مقارنتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي  تكون مستقلة عنها. مستندين برأيهم ذاك إلى الزيادة البسيطة في المكون السكاني والناتج المحلي الإجمالي الأوروبي. أما بالنسبة لي فأعتقد أن أوروبا تعاني من ثلاثة معوقات تجعلها بعيدة عن هذه المقارنة.

بدايةً، يتمتع القسم الشمالي من القارة الأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا) بموارد طبيعية هائلة، أكثر بكثير مما لدى أجزاء من أوروبا وغرب روسيا، كما أنه من الواضح اعتماد أوروبا الكبير على الطاقة المستوردة. ثانياً، تتكون أوروبا من عدد لا بأس به من الشعوب المتنوعة تاريخياً، والتي يشكل اختلاف ثقافاتها السياسية عاملاً كافياً لعدم إضفاء صفة «المواطن الأوروبي» في أوروبا، على غرار نمط «المواطن الأمريكي» في الولايات المتحدة. على الرغم من أن ذاك التنوع ليس ذا طابع قومي شوفيني. وسنعود لهذه المسألة المهمة لاحقاً. أما المعوق الثالث والأهم، هو أن التطور الرأسمالي في أوروبا كان ولا يزال متفاوتاً، بينما تطورت الرأسمالية الأمريكية على نحو منتظم إلى حد كبير في أنحاء أمريكا الشمالية، منذ الحرب الأهلية على الأقل. حيث تتكون أوروبا ومناطق غرب روسيا (بما في ذلك أوكرانيا وبيلاروسيا) من ثلاث فئات أو مستويات، تتفاوت في التطور الرأسمالي لمجتمعاتها.

وفي قراءة للرأسمالية من المنظور التاريخي، أي نمط الانتاج الرأسمالي الذي تأسس على نطاق العالم، نجد أن النظام الرأسمالي أخذ شكله الأولي في كلٍ من لندن وأمستردام وباريس في القرن السادس عشر، ليكتمل هيكله مع قيام الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في انكلترا. هذا النموذج الذي أصبح شائعاً في المراكز الرأسمالية المهيمنة حتى وقتنا الحالي، والذي يدعوه فالرشتاين(1) بـ«الرأسمالية الليبرالية»، اتسع في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير وسريع بعد الحرب الأهلية، واضعاً الحد لسلطة قوى العبيد في الحكومة الفيدرالية، ومنهياً فيما بعد قوة اليابان المستقلة. لقد انتشر هذا النموذج بسرعة مشابهة بعد عام 1870 في ألمانيا والدول الاسكندنافية. وقد أصبحت دول قلب أوروبا ( بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، النمسا، سويسرا، والدول الاسكندنافية) تحت السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لاحتكاراتها المعممة(2) (كما أدعوها)، والتي بدأت سابقاً كأحد أشكال الرأسمالية الاحتكارية، لتأخذ شكلها ذاك في الفترة مابين 1975-1990.  

إن الاحتكارات المعممة في أوروبا لا تتسم بالصفة «الأوروبية» بل يغلب عليها الطابع القومي أو «الوطني» بمعنى أن نقول ( احتكارات ألمانية، بريطانية، سويدية ...الخ)، على الرغم من أن أعمالهم ومشاريعهم تتعدى أوروبا لتنتشر على نطاق العالم. ونشهد الشيء ذاته في الاحتكارات المعممة المعاصرة في الولايات المتحدة واليابان. أما المستوى الثاني من التطور الرأسمالي الأوروبي، والذي تشكل مؤخراً بعد الحرب العالمية الثانية، فيضم كلاً من إيطاليا واسبانيا والبرتغال. وقد حافظت هذه المجتمعات على خصوصيتها في مجال الإدارة السياسية والاقتصادية مما أعاق تطورها لتصبح مساوية للدول الاخرى. وفي المستوى الثالث تأتي دول «المنظومة الإشتراكية والإتحاد السوفيتي» سابقاً، بالإضافة إلى اليونان. حيث لم تنشئ هذه الدول أي نوع من الاحتكارات المعممة التي تعبر عن الطابع القومي لمجتمعاتها (يمكننا استثناء ملاك السفن اليونانية، مع أن وصفهم بـ«اليونانية» لا يزال موضع تساؤل). حتى فترة الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المجتمعات بعيدة عن عمليات التطور الرأسمالي التي اتسمت بها دول قلب أوروبا. بعد ذلك وضعت الاشتراكية السوفيتية حداً للبرجوازيات الرأسمالية المحلية في كل الدول التي انتهجت الطريق الاشتراكي، مستبدلة الدور المحدود للبرجوازية، برأسمالية الدولة ذات الطابع الاجتماعي، إن لم يكن الاشتراكي. ودخلت فيما بعد بالعالم الرأسمالي من خلال عضويتها بالإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لتأخذ هذه الدول (بما فيها اليونان) منذ ذلك الحين فصاعداً، مكانها في رأسمالية الأطراف التي لا تحكم من خلال احتكاراتها الوطنية المعممة الخاصة بها، بل عبر احتكارات دول المركز الأوروبية.

إن هذا التباين في أوروبا يبعدها عن مقاربة الولايات المتحدة وكندا. ولكن قد يتساءل القارئ، ألا يمكن لهذا التباين أن يتلاشى بشكل تدريجي من خلال عملية بناء أوروبا؟ هذا هو الرأي السائد اليوم في أوروبا الذي لا أوافقه، وسنعود لهذه المسألة لاحقاً.

في مقارنة أوروبا بالقارة الأمريكية كاملة ً..

في اعتقادي أن مقارنة أوروبا بالقارة الأمريكية المزدوجة«الولايات المتحدة، وكندا من جهة، وأمريكا اللاتينية ودول الكاريبي من جهة اخرى»، لهو أكثر واقعيةً من مقارنتها بأمريكا الشمالية وحدها. فالقارة الأمريكية المزدوجة، تشكل مجموعة متباينة ضمن العالم الرأسمالي، تتمثل بالتناقض بين دول المركز المهيمن في الشمال، ودول الأطراف التابعة في الجنوب.

في القرن التاسع عشر، شاركت القوة الأمريكية الصاعدة منافسها البريطاني بتلك الهيمنة (وذلك منذ الإعلان عن أطماعها عام 1823 عبر مايعرف بمذهب مونرو Monroe Doctrine)(3)، وتنشر سيطرتها فيما بعد على نطاق العالم، لتُحصر تلك الهيمنة اليوم بأيدي واشنطن، التي قامت من خلال احتكاراتها المعممة بإحكام قبضتها على الحياة الاقتصادية والسياسية في دول الجنوب المتاخم لها، إلا أن المقاومة المتصاعدة مؤخراً لتلك الاحتكارات قد تضع الهيمنة الأمريكية في موضع مترنح.

إذاً من الواضح حالة التماثل مع أوروبا، فالعلاقة بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية، مماثلة للعلاقة بين أوروبا الشرقية، الطرف التابع لأوروبا الغربية. إلا أن هكذا مقارنات لها حدود معينة، وتجاهل هذه الحدود قد يفضي إلى استنتاجات خاطئة حول الآفاق الممكنة والاستراتيجيات الفعالة لفتح الطريق أمام مستقبل أفضل. وبالمقارنة، يسود طابع الاختلاف من خلال مستويين اثنيين، على طابع التشابه. فأمريكا اللاتينية قارة هائلة الاتساع، غنية بالموارد الطبيعية المذهلة، كالمياه والأراضي، والمعادن والثروة النفطية، والغاز الطبيعي. ولا مجال للمقارنة بينها وبين أوروبا الشرقية على هذا الصعيد. وعلاوة على ذلك فالاختلاف بين دول أميركا اللاتينية أقل بكثير منه في أوروبا الشرقية؛ فلديها لغتان أساسيتان مترابتطان (على الرغم من وجود العديد من اللغات الهندية  الحية)، بالاضافة إلى بعض الخلافات بين دول الجوار على أساس قومي.

تمارس الولايات المتحدة هيمنتها على أمريكا الجنوبية بشكل أساسي من خلال الوسائل الاقتصادية، كنموذج السوق الأمريكية المشتركة التي روجت لها واشنطن،(على الرغم من الجهود الأمريكية لفرض هذا النموذج، إلا أنه لايزال متوقفاً حتى الآن). وحتى الجزء الذي جرى تطبيقه من هذا النموذج، والمعروف بـ NAFTA، (اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة) والذي اُخضعت المكسيك بموجبه إلى السوق الأمريكية الشمالية، لم يستطع الحد من السلطة السياسية والسيادية للمكسيك.

أدرك تماماً أنه لا يوجد أية حواجز تحول بين الأساليب الاقتصادية والممارسات التي تجري على الصعيد السياسي. إن قوى المعارضة في أمريكا اللاتينية محقة في تشبيهها لمنظمة الدول الأمريكية (OAS) بـ (مكتب الولايات المتحدة الاستعماري)، فقائمة التدخلات الامريكية خير دليل على هذا التشبيه، سواءً التدخلات العسكرية كما في الكاريبي، أو محاولات دعم وترتيب الانقلابات.

إن شكل العلاقة المؤسساتية بين دول الإتحاد الأوروبي، إنما هي نابعة من منطق أكثر تعقيداً واتساعاً. في الواقع هنالك نوع ما من «مذهب مورنو» في أوروبا الغربية (بمعنى ملكيتها لأوروبا الشرقية)، ولكن هذا ليس كل شيء، فالإتحاد الأوروبي لم يعد كما كان في بداياته، مجرد «سوق مشتركة» تضم ست دول قبل امتداده ليشمل دول أخرى في أوروبا الغربية. بل أصبح مشروعاً سياسياً منذ اتفاقية ماستريخت «Maastricht Treaty»، حيث أنها لم تكن سوى وسيلة لمشروع أكبر وهو اقامة الاحتكارات المعممة لإدارة المجتمعات المشتركة بالاتفاقية. كما أن الاتحاد الأوروبي كان مرشحاً ليصبح  ساحة للصراعات والتحديات لهكذا مشاريع ولطرق تطبيقها.

من المفروض أن تقوم المؤسسات الأوروبية بتفعيل الترابط بين شعوب الاتحاد الأوروبي باستخدام كل الوسائل الممكنة، كأن تجعل التمثيل في البرلمان الأوروبي على حساب عدد السكان لا على حساب الناتج المحلي الاجمالي في كل بلد.

يتمسك الكثيرون بأمل امكانية قيام «أوروبا اخرى»، بسبب هذا الرأي السائد، بما في ذلك آراء أكثر اليساريين انتقاداً لهذه المؤسسات الأوروبية المشكلة حديثاً. وقبل مناقشة هذه الطروحات والفرضيات عن البدائل المستقبلية الممكنة في بناء أوروبا، يبدو أنه من الضروري الخوض في بعض النقاشات حول الإمبريالية و«الأطلسية»(4)من جهة، والهوية الأوروبية من جهة اخرى.

هل هي أوروبا، أم أوروبا «الأطلسية»الأمبريالية؟

يغلب طابع «الأطلسية» على بريطانيا العظمى، أكثر من الطابع الأوروبي. وتأتي مكانتها هذه من موقعها السابق كدولة امبريالية مهيمنة، مع أن ارثها الاستعماري يتضاءل اليوم، ليتمركز في مدينة لندن وفقاً للنظام المالي المعولم. لذلك تعطي بريطانيا العظمى الأولوية للابقاء على مؤسساتية السوق الأورو- أطلسية الاقتصادية والمالية، والتي تفوق أي رغبة لها بالمشاركة في السياسة الأوروبية، وذلك على حساب أجزاء مهمة من عضويتها في الاتحاد الأوروبي.  

ليست بريطانيا الدولة «الأطلسية» الوحيدة، بل جميع دول القارة الأوروبية، على الرغم مما يظهرون من رغبة في تأسيس كيان أوروبي سياسي واحد. ويمثل حلف شمال الأطلسي «NATO» خير دليل على ذلك. فوجود حلف عسكري بين الاتحاد الأوروبي ودولة من خارج الاتحاد يضفي على«الدستور الأوروبي» حالة شذوذ لا مثيل لها.

بالنسبة لبعض الدول الأوروبية مثل «بولندا، وهنغاريا، ودول البلطيق» فإن حماية حلف الناتو، بمعنى تصدي الولايات المتحدة لـ «عدوهم الروسي»، أكثر أهمية من دخولهم في الاتحاد الأوروبي. إن استمرارية «الأطلسية»، والانتشار الواسع لعمليات لحلف الناتو بعد زوال «التهديد السوفيتي»، هو ناتج، بحسب تحليلي، عن نشوء مجموعة الثالوث الإمبريالي «الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان». تلك المراكز المهيمنة للاحتكارات الرأسمالية المعممة، تعتزم الحفاظ على سيطرتها على الرغم من ظهور بعض الدول الصاعدة.

إن التغيرات الأخيرة في النظام الأمبريالي، والذي كان يقوم سابقاً على الصراع بين القوى الامبريالية، إنما هي مسألة نسبية. فظهور هذا التجمع الامبريالي كان بسبب الحاجة لوجود قوة موحدة في مواجهة الشعوب المهمشة ودول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، الساعية للتحرر من تبعيتها. إن الأمبريالية الأوروبية تختص بالمسائل المتعلقة بأوروبا الغربية فقط، حيث أن كل دولها تعتبر استعمارية سواءً أكان لها مستعمرات أم لا، فهي تتقاسم الريع الأمبريالي فيما بينها. وعلى النقيض من ذلك، فأن دول أوروبا الشرقية لا يمكن لها الحصول على هذا الريع، فهي لا تمتلك أي احتكارات معممة خاصة بها. على أية حال لقد تم إيهامهم أن لهم الحق بالحصول على حصة من العائدات الامبريالية بسبب «أوروبيتهم»، ولا أعلم إن كانوا سيستطيعون التخلص من هذا الوهم يوماً.

لقد أصبحت الأمبريالية من الآن فصاعداً، قوة واحدة مجتمعة، تتقاسم فيما بينها ما يتعلق بالجنوب(الطرف)، من خلال سياستها الأحادية المستمرة بالاعتداء على الدول والشعوب التي تتجرأ على التشكيك بنظام العولمة الخاص بها. وهذه القوة الأمبريالية تتبع لقائد عسكري، له كامل السيطرة، هو الولايات المتحدة الأمريكية.

إذن من الواضح بعد الآن، أنه لا الاتحاد الأوروبي ولا أي من الدول المكونة له، لديه «سياسة خارجية» مستقلة عما تقرره واشنطن (ربما بالتحالف مع بريطانيا). فالجنوب يرى أن أوروبا ليس إلا حليفا خالصا للولايات المتحدة. وقد تكون هناك بعض الأوهام حول هذا الأمر في أمريكا اللاتينية، فلاشك أن الهيمنة تُمارس هناك بوحشية من الولايات المتحدة وحدها وليس عن طريق الأوربيين حلفائها التابعين لها، ولكن ليس الأمر كذلك في آسيا وأفريقيا. يعرف حكام الدول الناشئة ذلك الأمر؛ المسؤولون في الدول الاخرى في القارتين، قبلوا بوضعهم كوكلاء خاضعين. بالنسبة للجميع فأمريكا هي المهمة وهي من يحسب لها حساب، أما أوروبا فليست كذلك، وقد لا تستطيع  الوصول لهذه المكانة.

هوامش:

1- فالرشتاين: عمانوئيل فالرشتاين، عالم اجتماع وباحث تاريخ أمريكي.

2- الاحتكارات المعممة: أي أن الاحتكارات استوعبت الرأسمالية الكلاسيكية وأصبحت الوحيدة.

3- مذهب مونرو Monroe Doctrine: مبدأ سياسي تم وضعه عام 1823 من الرئيس جيمس مونرو لمعارضة تدخل القوى الأوروبية في القارة الأمريكية.

4- الأطلسية Atlanticism : مبدأ التعاون بين دول أوروبا الغربية و دول أمريكا الشمالية في المجالات السياسية والاقتصادية وقضايا الدفاع .

• مجلة Monthly Review