سفن الديمقراطية المحترقة
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان انتشار «نظرية الألعاب» على المستوى الأكاديمي سبباً في دفع خبراء الاقتصاد الكلي إلى التأكيد على أهمية «الالتزام»، وهي الاستراتيجية التي تهدف إلى تعزيز النتائج الاقتصادية في الأمد البعيد من خلال تقييد السلطة التقديرية لصانعي السياسات.
وتبدو الفكرة منافية للمنطق والعقل: فكيف للأقل أن ينتج الأكثر؟
على الرغم من عدم دقتها من الناحية التاريخية، فإن أحد أفضل الأمثلة للالتزام الاستراتيجي تقدمه لنا أسطورة هيرنان كورتيز، والتي تقص علينا أنه قرر أثناء حملته لفتح المكسيك حرق السفن التي حملت بعثته من أسبانيا. ففي مستهل الأمر قد تبدو هذه الخطوة جنونية: فلماذا يدمر عامداً متعمداً الوسيلة الوحيدة الممكنة للخروج في حالة الهزيمة؟ يُقال إن كورتيز فعل هذا لتحفيز قواته. ففي غياب أي سبيل للهروب كان الجنود متحفزين للفوز. ويُقال إن الإسكندر الأكبر فعل شيئاً مماثلاً عندما أخضع بلاد فارس.
لكي تحقق الفائدة المرجوة منها فإن استراتيجية الالتزام لابد أن تكون جديرة بالثقة ــ أي أن التراجع السريع عنها أمر غير وارد بالمرة. وبهذا المعنى، فإن استراتيجية كورتيز كانت مثالية: ففي حالة الهزيمة لن يجد الأسبان الوقت لإعادة بناء السفن المحترقة. ولكي تعمل على النحو اللائق فإن استراتيجية الالتزام لابد أيضاً أن تكون مكلفة في حالة الفشل: فلو خسر كورتيز المعركة فما كان لأي جندي أسباني أن يتمكن من النجاة بحياته. وهذه على وجه التحديد التكلفة التي ساعدت في تحفيز جنوده.
والمشكلة هي أننا ملزمون بالسماع عن الأمثلة التاريخية الناجحة فقط لمثل هذه الاستراتيجية. فلو فشلت استراتيجية كورتيز فإن التاريخ كان ليذكره، هذا إن ذَكَره على الإطلاق، بوصفه قائداً متغطرساً أحمق تصور أنه قادر على إلحاق الهزيمة بإمبراطورية عظيمة.
كان تصميم البنوك المركزية من بين التطبيقات المبكرة لهذه الاستراتيجية في عالم السياسة الاقتصادية. فوفقاً لهذا الزعم، ينبغي لصناع السياسات النقدية أن يكونوا مستقلين عن النظام السياسي، لأن الساسة من المرجح أن يمارسوا الضغوط عليهم عندما تقترب الانتخابات من أجل «شراء» مستويات أعلى من تشغيل العمالة بشكل مؤقت على حساب ارتفاع معدلات التضخم بشكل دائم. ويتعين على الحكومات لمنع هذه المقايضة العاجزة أن تقيد أيدي القائمين على البنوك المركزية عن طريق عزلهم عن النفوذ السياسي.
ويعزو العديد من خبراء الاقتصاد الكلي التراجع المستمر للتضخم منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي إلى التطبيق الواسع النطاق لهذه الاستراتيجية. وباستمداد الشجاعة من نجاح هذه الاستراتيجية، بدأ صناع السياسات في تطبيقها في مجالات أخرى. فقد كان الترويج للتحرير المالي بوصفه التزاماً بتبني سياسات مشجعة للسوق. وإذا انحرفت أي حكومة في المستقبل عن هذه السياسة فإن هروب رأس المال كفيل بجعلها تجثو على ركبتيها.
وينطبق الأمر نفسه على الإفراط في الاقتراض الحكومي من الخارج، وعلى مجالس العملة، بل وحتى على اتحادات العملة. والواقع أن إنشاء اليورو ليس سوى شكل متطرف من أشكال الالتزام: فقد حاولت الحكومات الأوروبية ربط نفسها بالسارية الألمانية للانضباط المالي.
ويثير نشر هذه الآليات مسألة الديمقراطية. فعندما أحرق كورتيز السفن الأسبانية، لم يستطلع آراء الجنود أولا. ولو فعل هذا فربما كان ليفوز (فالاستراتيجية كانت ذكية)، ولكن النتيجة لم تكن مضمونة.
ولكن حتى لو أنتجت استراتيجية الالتزام حوافز مفيدة، فلعلها لم تكن تستحق المجازفة. ولعل كورتيز، الذي أعمته أحلام المجد، كان على استعداد للتضحية بقواته حتى عندما كانت احتمالات النصر ضئيلة للغاية.
من حسن الحظ في أيامنا هذه أن الحكومات المنتخبة ديمقراطياً هي التي تتخذ مثل هذه القرارات، والتي ينبغي لها بالتالي أن تعكس إرادة الشعوب. ورغم هذا فإن هذه القرارات تستحق قدراً خاصاً من التدقيق نظراً لطبيعتها. فهي ــ بحكم تصميمها ــ قرارات لا رجعة فيها وتعمل على تقييد أيدي حكومات المستقبل، وهو ما يجعلها بمثابة قواعد دستورية. وعلى هذا فلا ينبغي لها أن تكون خاضعة لنفس عملية الموافقة التي تسري على التشريعات العادية.
وتكتسب هذه المشكلة قدراً خاصاً من الحدة عندما يكون للتحرك الأولي الذي يختم الالتزام فوائد قصيرة الأجل أكثر جاذبية من حرق السفن. فعندما تبدأ أي حكومة في الاقتراض من الخارج أو تختار الالتحاق بعضوية اتحاد عملة، فإن هذه الفوائد تتخذ هيئة أسعار فائدة مخفضة. وبالتالي فإن الفوائد الفورية تصبح أكثر بروزاً على المستوى السياسي من التكاليف المحتملة في المستقبل. وباستخدام هذه الاستراتيجية فإن الحكومات الميكيافيلية تستطيع حث الناخبين المترددين على قبول السياسة التي تتعارض مع إرادتهم.
قد يزعم كثيرون أن هذه هي على وجه التحديد النقطة الفاصلة. فبالنسبة لدول جنوب أوروبا، كان الالتحاق بعضوية منطقة اليورو ــ سواء صراحة أو ضمنا ــ مجرد وسيلة لإرغام مواطنيها على قبول درجة من الانضباط المالي عجزت عن تبنيها من تلقاء ذاتها. ولكن هل كان ذلك قراراً ديمقراطيا، أم كان قراراً فرضته النخبة «المستنيرة» على المواطنين غير المطلعين؟
أخشى أن يكون الاحتمال الأخير هو الصحيح ــ وبالتالي الاحتقان المتنامي ضد الاتحاد الأوروبي. ولكي يزيد الطين بلة فإن زعماء أوروبا الحاليين لا «يملكون» قراراتهم الماضية. وهم لا يعترفون بأنهم أو أسلافهم هم من أحرقوا السفن. بل إنهم يلقون باللائمة على أوروبا. والنتيجة أن اليورو، الذي روجوا له باعتباره وسيلة لتحقيق المزيد من التكامل الأوروبي، هو ذاته الذي يمزق أوروبا الآن.