الحرب الباردة الثانية

على الرغم من عدم الوضوح، ولكن إذا أمعنت النظر جلياً، فإن اللحظة التاريخية الحالية تسير على نفس صيرورة ما كان العالم عليه قبل ربع قرن من الآن في عهد ما بعد الحرب الباردة.

 ترجمة: د. نبيل حوج

والبداية  كانت في عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وجمهورية يوغسلافيا الاتحادية بشكل فوري في الحالة الأولى، وأبطأ نسبياً في الحالة التالية، واكتملت مع استقلال الجبل الأسود في 2008. وانتهى عالم ثنائي القطب مع انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو ودول عدم الانحياز، مع تفتت يوغسلافيا أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز.
ورافق حل كل من الدولتين،ذات التنوع العرقي والمذهبي، إثارة وتعزيز النزعات العرقية والمذهبية العنيفة بسبب الخلافات التاريخية خاصة في كرواتيا، والبوسنة وكوسوفو وجنوب القوقاز، وشمال القوقاز الروسي، وعلى الضفة الشرقية لنهر دنيستر.

واستعاد الكثير من ذاكرة جرائم الحرب العالمية الثانية في المناطق التي تقطنها الأغلبية من الصرب في كرواتيا والبوسنة وترانسدنيستر. لأجل تعزيز عقلية الثأر بين العشائر نتيجة المجازر التي قام بها حلفاء هتلر آنذاك في 1940 في وقت مبكر. والتي أدت لظهور عقائد جديدة ورسمت خارئط سياسية جديدة مستندة إلى مطامعها.
ورفضت ترانسدنيستر لأن تكون جزءاً من مولدافيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما كل الولايات التي جرى إلحاقها برومانيا، وكذلك أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأدجارا، وأجزاء من جمهورية جورجيا السوفيتية، فهم لا يرغبون في إدماجهم مع جمهورية جورجيا وناغورو كارباخ ذات الأغلبية الأرمنية كما كان في أيام الاتحاد السوفيتي، ومن المعروف أن كل الخلافات المذكورة أعلاه كانت موقفة بفعل الفضاء السوفيتي.
وبلغت خطورة القوى الوهمية الناشئة ذروتها، بعد ظهور الحركات الانفصالية المسلحة التي تجاوزت الحدود الأتحادية، ونشأت جمهوريات مستقلة ذات حكم ذاتي مثل الشيشان وداغستان في روسيا وكوسوفو وبريسيفو في صربيا، وكان شمال غرب مقدونيا في حالة من زعزعة الاستقرار نفسه في عام 2001  ، مباشرة وبشكل حتمي،نتيجة للضربات الجوية للناتو ضد يوغسلافيا باسم الانفصاليين في كوسوفو. والمناطق أعلاه استشرى فيها العنف وبلغ مداه، وهي تمتد من البحر الأدرياتيكي إلى بحر قزوين، وشمالاً في الشرق الأوسط بدءاً من موريتانيا إلى كازاخستان، ومن سواحل الأطلسي في أفريقيا إلى الحدود الغربية للصين.

وسعى الناتو بعد انهيار النموذج السوفيتي واليوغسلافي إلى توسيع أهدافه العدوانية والعدائية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
الدول الإحدى والعشرون وخمس ولايات صغيرة (من ضمنها كوسوفو)، أسست المزيد من الفرص للغرب لتوسيع نفوذه جنوباً وشرقاً أثناء الحرب الباردة للناتو، فكل واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ويوغسلافيا إما أنها أصبحت كاملة العضوية في حلف الناتو، أو عملت في مجال الشراكة معها، حيث ساهمت ثلاث عشرة منها تحت إمرة قوات الناتو في حربها ضد أفغانستان.
واثنان من التصريحات الأخيرة تثبت بجدارة الإختراق والتغلغل المتزايد وبشكل ثابت للسيطرة على المنطقة بدءاً من سلوفينيا ومنتهية بأذربيجان، ومساحات شاسعة من الأرض تحدها شمالاً شرق روسيا وجنوباً إيران.
وأعلنت مؤخراً قيادة العمليات للناتو استئناف المناورات العسكرية السنوية، والتي تستخدم لإلحاق شركاء جدد من البلقان والاتحاد السوفيتي السابق وشرق المتوسط والخليج العربي.
وستجرى عمليات للقيادة والممارسة الميدانية هذا العام في مقدونيا في 12-29 من شهر أيار، بمشاركة العديد من دول الناتو، وفي العمليات السابقة ضمت كل من أمريكا وبريطانيا،كندا،اليونان،هنغاريا،بولندا،تركيا وغيرها، وتضاعفت مرتين تحت مسمى الشراكة من أجل السلام.الحوار المتوسطي ومباردة أسطنبول للتعاون. وهذه العملية كسابقاتها تستند إلى سيناريو (الاستجابة للأزمة) وبتفويض من الأمم المتحدة، كما حدث في ليبيا في العام الفائت.

إن العمليات السابقة، التي جرت في جورجيا في عام 2009، كان المشاركون هم أمريكا، بريطانيا،كندا،أسبانيا،اليونان، هنغاريا، تركيا، التشيك، كرواتيا وألبانيا، والتي بدأت بعد أقل من ثمانية أشهر من نشوب نزاع بين جورجيا وروسيا والتي استمرت خمسة أيام في أب 2009. والتي ضمت أيضاً أعضاء من الناتو مثل استونيا ولاتفيا و11 من الدول المشاركة.
ومن المقرر في العمليات التدريبية لهذا العام، إشراك أكبر عدد ممكن (13) دولة وهي:أرمينيا، النمسا، أذربيجان، روسيا البيضاء، البوسنة، جورجيا، كازاخستان، مقدونيا، ملدافيا، الجبل الأسود،صربيا، سويسرا، وأوكرانيا. ولم يعلن الناتو حتى الآن عن إمكانية مشاركة مجموعة الحوار المتوسطي ومبادرة اسطنبول.
أولى هذه العمليات التدريبية جرت في مولدافيا في عام 2006 بمشاركة سبعة من أعضاء الناتو، وأحد عشر من المشاركين من أجل السلام، كل الدول السابقة باستثناء صربيا التي انضمت إلى الشراكة في ذلك العام. والحوار المتوسطي التي تشارك فيه اسرائيل، حيث بعثت المغرب كعضو في العمليات، ومبادرة اسطنبول بعثت كل من قطر والإمارات كأعضاء مراقبين.
ومن هنا نرى أن الدور الذي يلعبه الناتو هو نهوض عسكري، وتقدم كتحضير لمهمات وحروب قادمة.
وإن وجود مشاة  البحرية الأمريكية في 19 دولة في منطقة البلقان والبحر الأسود والقوقاز وجمهوريات أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق هي حكماً ليست لإقامة علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، بل تهدف لتعزيز هيمنة الناتو في تلك المناطق وتوسيعه لتلك الدول غير المنتمية للاتحاد الأوروبي.
ويمكن القول  بأن الحرب الباردة لم تنته، وإن أمريكا والناتو تسعيان في خوض حروبهما، وفي استمرار التحضيرات لتلك الحروب...