خلفية حركة الاحتجاجات في سورية.. ضـمور المجتـمع المـدني: الخـاصـرة الـهــشـة لـلبْرلــة
محمد جمال باروت محمد جمال باروت

خلفية حركة الاحتجاجات في سورية.. ضـمور المجتـمع المـدني: الخـاصـرة الـهــشـة لـلبْرلــة

تطوّرت أيديولوجيا الدولة من الناحية الرّسمية من نظريّة «الدور المركزي القيادي للقطاع العام» في عملية التّنمية الاقتصاديّة- الاجتماعية (1963-1989)، إلى نظرية «التعدّدية الاقتصادية» بين القطاعات الاقتصادية العامّة والخاصّة والمشتركة (1989-2003)، ثم في سنوات العشريّة الأخيرة إلى نظريّة «الشراكة» بين الدولة والقطاع الخاصّ والمجتمع الأهلي في ما أطلق عليه اسم «التشاركية».

اختزال الإصلاح بتحرير اقتصادي

كانت عملية اللبْرلة تفترض نمطياً إنعاش دور المجتمع الأهلي أو المدني أو القطاع الثالث الذي يتوسّط بين الدولة والقطاع الخاصّ لتحقيق وظيفتيْن مترابطتيْن هما: التّخفيف من آثار سياسات التحرير السلبية وامتصاصها، وإنعاش المجتمعات المحلّية ولاسيّما في المرحلة الأولى من اللبْرلة التي يرى الليبيراليّون أنّها تتميز بآثارها السلبية إلى أن يقود التحرير إلى تعافي الاقتصاد من جموده وأمراضه «المركزية» السابقة من جهةٍ أولى، وتعزيز قنوات المشاركة المجتمعية في عملية التنمية وتنمية المجتمعات المحلية من جهة ثانية. لكن ما حدث بفعل اختزال مشروع الإصلاح المؤسسي إلى مجرد تحرير اقتصادي هزيل هو تهميش موقع العمل الجمعياتي الضعيف أصلاً بين أطراف هذه الشّراكة الثلاثية بين الدولة والقطاع الخاصّ والمجتمع الأهلي، بل اختزال هذه التشاركية إلى مشاريع اقتصادوية بين الدولة والشركات القابضة ورأس المال الأجنبي، بدلاً من أن تشكّل إطاراً مرجعياً لتطوير فضاء عام تتمّ فيه تفاعلات المواطنة.

يتكوّن الجسم الجمعياتي السوري الصافي (الكميّ البحت) والمسجّل منذ العام 1959 وحتّى أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر 2010 من 1074 جمعيّة، وهو عددٌ قليل جداً بكافة المعايير والمقارنات حتى مع النّظم العربية التسلّطية الملبْرلة (في تونس يوجد 9600 جمعية، وفي مصر ما لا يقلّ عن 21 ألف جمعية)، أي ما يعادل على المستوى الكمّي 52 جمعية لكلّ مليون مواطن، وكلّ جمعيّة، باستثناءات قليلة، تتّسم بقلّة عدد الأعضاء الذي يتراوح ما بين 15و100 عضو. ويعكس توزّع الجسم الجمعياتي تشوّهات المسألة السكّانية التنموية السورية التي يمثّل اختلال التوزّع الجغرافي السكاني أحد أبرز محدّداتها، وما يعكسه ذلك من فجواتٍ في التّنمية المناطقية. فيتركّز نحو85% من العدد الإجمالي للجمعيات فعلياً في دمشق وريف دمشق وحلب وحماة وحمص واللاّذقية وطرطوس، أي في المحافظات الأعلى نمواً وارتفاعاً في مؤشّرات تنميتها البشريّة، بينما لا تشكّل حصّة المحافظات الأخرى، وفي طليعتها محافظات المنطقة الشّرقية (الرّقة، دير الزور، الحسكة) والمحافظات الطرفية ( درعا، السويداء، القنيطرة) إلاّ أقلّ من 15%. ولا أدلّ على الفجوة الجمعياتيّة من زاوية دلالتها على الفجوة التنمويّة المناطقية من أنّ ما يعادل 55.7% من إجمالي عدد الجمعيات يتركّز في محافظات ريف دمشق ومدينة دمشق وحلب. وتحتلّ درعا المرتبة الدّنيا (10 جمعيات) بينما تحتلّ مدينة دمشق المرتبة العليا (355 جمعيةً).

بالمقارنة بين حقبة (1959-1999) التي سادها نمطٌ تنموي تسلطي شعبوي وحقبة (2000-2010) التي سادها التحول من الإصلاح المؤسسي إلى نمط تسلطي ملبرل، فقد سجّل في الفترة الثانية دخول العمل الجمعياتي في جيل جمعيات التمكين (التنموية)، وفي بعض قطاعات الجيل الدفاعي (أو الحمائي) مثل جمعيات البيئة. وتمّ ترخيص 605 جمعيات من إجمالي عدد الجمعيات البالغ 1074 جمعية حتى أواخر سنة 2010، أي ما نسبته 111% قياساً على الفترة الأولى. ويلاحظ أنّ النسبة الكبرى المسجَّلة من هذه الزيادة قد ظهرت بين 2000 و 2006 بفعل الرهانات على خطاب الإصلاح المؤسسي، وترجمة هذه الرؤية في الخطّة الخمسية العاشرة (2006-2010) بإعطاء مكان مميّز في المجتمع المدني لتنمية القطاع الجمعياتي، لينحدر بعدها تسجيل الجمعيات في فترة ( 2007-2010) من 27.44% في العام 2006 إلى 8،76% في العام 2007، ثم إلى 4،79% في العام 2008، فإلى 7،6% في العام 2009 ثمّ إلى 97و5% في العام 2010. وهو ما يتوافق مع اختزال عمليّة الإصلاح المؤسّسي في التحرير الاقتصادي التسلطي.

 

تهميش المجتمع المدني.. وبروز الفيسبوك!

إذا كان التاريخ رقماً متحرّكاً، والرقم تاريخ ساكن، فإنّ هذه المؤشّرات الكميّة تكشف عن عملية تهميش المجتمع المدني (الجمعياتي) في الفترة التي ارتفعت فيها وتيرة التّحرير الاقتصادية، بينما كانت هذه الفترة تفترض رفع وتيرة تسجيل الجمعيّات، والاهتمام بتسجيل أكبر عدد ممكن منها في المناطق الريفيّة الشّمالية والمناطق الشّرقية والجنوبيّة السورية الأدنى نمواً، وتطويرها من الجيل الخيري البحت إلى الجيلين التمكيني- التّنموي والدفاعي (الحمائي) بما في ذلك جمعيّات الجيل الدفاعي (الحمائي) الثالث المتعلّقة بطيف واسع من حقوق المرأة والبيئة والشّفافية ومكافحة الفساد ومراقبة البلديّات والانتخابات وحقوق الإنسان والمتعطّلين عن العمل والمهمّشين اجتماعياً وثقافياً. وعلى العموم تمّ في مرحلة النموّ التسلطي «الصلب» حشر الجمعيّات في جيل العمل الخيري، بينما انفتحت مرحلة النموّ التسلّطي الملبرل على تأليف جمعيات البيئة والتنمية. ومع ذلك ظلّ عددُ جمعيات التّمكين والتنمية المسجَّلة في سورية ضعيفاً جداً مقارنةً بتونس، فهو لم يتجاوز في أوسع الحدود 20 جمعيةً في سورية مقابل 602 جمعيةً تنمويّةً في تونس، لكنها كلّها اشتركت مع المرحلة التي سبقتها في العِداء الشّديد لتطوير العمل الجمعيّاتي عموماً، وتقييده على مختلف المستويات، أو تسجيل أيّ جمعية تنتمي إلى الجيل الدّفاعي الثالث، ولاسيّما جيل جمعيات حقوق الإنسان والمواطن، بل أبدت التحرّرية التسلطية ميْلاً قوياً لتأميم الجمعيّات من خلال تحويلها من نمط المنظّمات غير الحكومية إلى نمط المنظّمات اللاّبسة لبوس غير الحكوميّة، والتي تحوّل الجمعيات مجرّد واجهةٍ للسّياسات الحكومية.

مقابل هشاشة المجتمع المدني قامت الشّرائح الدّيناميكية من الفئات الوسطى بتعويض ذلك بنوعٍ من «التجمّع» الافتراضي في شبكات ومنتديات وتجمّعات ومواقع تواصل اجتماعية تشكّل نوعاً جديداً من الفضاء العام عبر الشّبكة العنكبوتية التي تحوّلت من تقانة وظيفية إلى تقانة معرفيّة تتجاوز المجتمع الهرمي التراتبي (المغلق) المرتبط بتنظيمات السّلطات التقليديّة السياسية والحزبيّة والاجتماعية التسلّطية المختلفة، إلى المجتمع الشّبكي التفاعلي (المفتوح) المرتبط بعلاقات أفقيّة لا مركزيّة، أو ما يمكن وصفه بمنطق الحريّة. فالقاسم المشترك في عمليّات التغيّر الاجتماعي كان دائماً التحوّل الذي تُحْدثه المعلومة، وفي هذا الإطار فإنّ التغيّر المعلوماتي هو تغيّر اجتماعي. وتبرز في مثل هذه التّقانة الوظيفية - المعرفيّة فاعليّة نظريّة جديدة محتملة يمكن وصفها بنظرية «تساقط الآثار» أو «العدوى» كمقاربة أساسيّة في فهم تبادل التأثير بين عناصر التحوّلات الجارية في مرحلة تهاوي النّظم التسلطية العربيّة المتلبرلة، ذلك أنّ الشّبكة العنكبوتية بعبورها الحواجز القوميّة والدولتية، تجعل ما هو خارجي داخلياً وما هو داخلي خارجياً في وحدة لا فكاك فيها، وهذا هو أحد المضامين الجوهرية لعملية عولمة العالم. لكن «تساقط الآثار» بما هو دينامية اجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في بيئةٍ قابلةٍ للتّفاعل معه.

كان للنّظم التسلطية المتلبرلة في إطار سياستها العصريّة شأنٌ لا واعٍ في تحويل تحديث الاتّصالات، وتعميم شبكة الانترنت إلى قوّةٍ تقنيةٍ- معرفيّةٍ متمرّدة عند هزّها أو محاولة تقويضها. وينطبق ذلك على سورية التي عمّمت نشر المعلوماتية من خلال برنامج وطني منذ أواخر التّسعينيات بمبادرة مباشرة من الدّكتور بشار الأسد قبل تولّيه رئاسة الجمهورية، ثم أدمجته في جميع مراحل التعليم وأنواعه. وعلى الرغم من أنّ عدد المشتركين في خدمة الانترنت بما في ذلك مقاهي الانترنت لايزال، وفق التقارير الرسمية، محدوداً جداً قياساً على إجمالي عدد السكان، ولا يتجاوز 744 ألف مشترك يشكّلون أقلّ من 1% من إجمالي عدد سكّان سورية. كما لم يتجاوز عدد مشتركي الحزمة العريضة (DSL) القادرة على حمل مجمل خدمات القيمة المضافة مثل الخدمة التلفزيّة إلى أكثر من 20 ألف مشترك، يضاف إليهم 20 ألف مشترك في الحزمة العريضة من خدمات الجيل الثالث من الهاتف الخليوي. وثمّة مصادر أخرى تقدم بياناتٍ مختلفةً على أساس عدد المستخدمين بما يتجاوز بيانات «مقاهي الانترنت» وليس على أساس عدد الأجهزة، وتقدّر عدد المستخدمين بما لا يقلّ عن 3.4 ملايين نسمة.

مهْما يكن الأمر فإنّ النسبة المرتفعة لزيارات السوريّين المرتفعة في زيارة موقع التّواصل الاجتماعي (فيسبوك) تبيّن كثافة استخدام الشّرائح الديناميكية من الفئات الوسطى للانترنت في التعويض عن «التجمع» المقّيد حوكمياً أو تسلّطياً بــ«التجمع» الافتراضي المفتوح والمتاح. فمنذ أن تمّ رفع الحجب عن موقع (فيسبوك) في 28 كانون الثاني/ يناير 2011 ارتفع عدد المتفاعلين مع (الفيسبوك) في سورية خلال أسبوعيْن من بضعة آلاف إلى 400 ألف زائر.

 

نظرية العدوى

تفسّر نظرية «العدوى» أو «تساقط الآثار» كثافة الاستخدام هذه، وقد حوّلتها بعد اندلاع الثّورة التونسية ثم الثورة المصرية من نطاق الاستخدام التواصلي الذي أُنشئ الموقع من أجله إلى استخدام مسيّسٍ، بعد أن أثبت فاعليّته التحزيبية والتّعبوية في مصر. لكن يجب أن نعطي أهميةً لتعويض التجمّع الافتراضي على صفحات «الفيسبوك» بمعوقات التجمع الفيزيائية التسلطية في الواقع. ولذا فإنّ المتابع للنشاط على صفحات الموقع يستطيع أن يدرك السرعة التي يتطوّر بها عدد المستخدمين السوريين، بالإضافة إلى رصد توجّهاتهم، وأن يلمس أنّ من ينضمّ إلى الصفحات المعارضة التي تعبّر عن اتّجاهات الشباب الغاضب يشي بالتسييس والانغراس في الشأن العام من دون أن يعني التسييس التحزّب، بل على العكس من ذلك فإنّ ذهنية هؤلاء الشباب متمرّدة على المفاهيم النمطية في التنظيمات الهرميّة التقليدية.

لا تختلف المادة المقدّمة في هذه الصفحات السياسية كثيراً- حتى تاريخ رصدها في 12 شباط 2011- عن نظيرتها المصرية التي كان لها شأنٌ بارز في تجمّع الشباب الافتراضي. ويغلب على المواد المنشورة الطابع الإعلامي المبسّط، وإثارة فضائح الفساد المرتبطة بأقوياء رجال الأعمال الجدد، مع العناوين الجاذبة، والقليل من التحليل، والدعوة إلى الاعتصامات. وتتركّز هذه الأمور في صفحة «ثورة ضد بشار الأسد» التي بدأ العمل فيها في أوائل شباط/ فبراير2011، وانضمّ إليها في منتصفه نحو 32 ألف مستخدم، وكذلك في صفحة «كلنا سورية» في الفترة نفسها، والتي انضمّ إليها 15 ألف مستخدم. وعلى مستوى الخطاب تركّز بعض صفحات «كلّنا سورية» على فضائح رجال الأعمال القريبين من السلطة وأخبار الفساد والصّفقات المشبوهة (التي آتت ثمارها في إلغاء عقد شركة الخليوي الثالثة في سورية والذي اقترب من شركة تركية تغطي على الشريك السوري المالك لإحدى الشركتين العاملتين الآن) في ردّة فعل مباشرة على سياسة التحرير الاقتصادي التسلّطية في «المنافسة الاحتكارية» وتعطيل (سيرياتيل) المشغّل الثالث، بينما تركّز صفحات أخرى على الدعاية ضدّ النظام وتنظيم أيّام الغضب المتكرّرة. كما شغلت بعض الصفحات بالتكتيكات الثورية وبأساليب الحركة على الأرض، مع وجود تعاونٍ لافتٍ مع مصريّين ينقلون الخبرة. وعلى الرغم من تعويل كثير من هذه الصفحات على التحرّك الكردي بوصفه الصاعق المحتمل للحراك في سورية، إلاّ أنّ المساهمة الكرديّة المباشرة لا تزال محدودةً إن لم نقل مهملةً. ويرجع البعض ذلك إلى عوامل اللّغة، والبعض الآخر إلى عراقة التنظيم السياسي السّرّي لأكراد سورية الذي يتيح إمكان التحرّك المتزامن من دون الحاجة إلى خدمات مواقع التّواصل الاجتماعي التي تعوّض افتراضياً فقدان حقّ التجمّع، وإلى التفاهم بين الأحزاب الكردية والسّلطة على تسوية المشكلات الكردية السورية.

عطّلت مواقع التواصل الاجتماعي التفاعلية آليات الهيمنة التقليدية التي وظّفتها السّلطات المسيطرة للهيمنة على الفضاء العام، وبرعمت تشكّل فضاء عام جديد يتّسم بتحرّره من تلك الآليّات، وبالقدرة على تحدّيها وتخطّيها ووضعها في موضع الإحراج والضّغط، وتعديل سلوكها بما يفرض على النّخب التسلّطية الخضوع نسبياً إلى قواعد اللّعبة الجديدة، ومحاولة التأثير السلطوي بطرائقَ مختلفة من خلال قواعد اللعبة الجديدة نفسها. وممّا لاشكّ فيه أنّ استخدام الفيسبوك هو ظاهرة شبابية بدرجة أولى، واستخدم في سورية ولايزال يستخدم وسيلةً للتعبئة وللتجمّع الافتراضي وللاتصال غير التقليدي. ولكن يجب عدم المبالغة في تأثيراته، وتصنيع أسطورة عنه، إذ أنّ المجتمع التواصلي لا ينحصر فيه، بل يتجاوزه بفضل وسائطه التكنولوجية المتعددة. ويندرج في عداد ذلك مواقع الصّورة المرئيّة المتحرّكة (يوتيوب وتوتير)، والبريد الالكتروني، والصّحافة والترانزيستور والهاتف الخلوي و(الفضائية)، واستخدامهما أكثر شعبيةً من استعمال الفيسبوك المحصور في النهاية بأوساط النّخب الشابّة من جهةٍ، كما أنّ دوره في ما حدث من حركات احتجاجيّة في سورية كانت تتمثّل في تشكيل حوض واسع وهادر تتمازج فيه الأفكار وتهدر افتراضياً وليس في مشاركة زوّار الصفحات ومدوّنيها.

 

الموبايل والفضائيات.. والفئات الوسطى

وعلى الرّغم من تكديح الفئات الوسطى السورية، ووصول نسبة مَن هم تحت خطّ الفقر إلى أكثر من 33% من السكّان، فإنّ في الإمكان القول إنّ استخدام الموبايل قد عمّ مختلف شرائح المجتمع السوري بما في ذلك تلاميذ المرحلة الثانية من التعليم الأساسي، وبات يضطلع، من الزّاوية الأنثروبولوجية المرتبطة بالثقافة والتقانة كنمط سلوك يومي، بالتراتبيّة الاجتماعية، وكان له، من زاوية النظر إليه عبر مفهوم المجتمع التواصلي، شأنٌ كبير في تعزيز التّواصل المجتمعي من خلال تيسير التّواصل الفوري بين الأفراد، ورفع وتيرة تواصلهم الاجتماعي بأقصر الطرق. ولقد وصل عددُ المشتركين السوريّين في نهاية العام 2008 في البطاقات المسبقة الدّفع إلى 7 ملايين مشترك يشكّلون أكثر من 84% من إجمالي المشتركين في الهاتف الخلوي.

 من المفهوم أن يتركّز ذلك في أوساط الفئات الوسطى، لكن تراجع الاستهلاك الخاصّ (الاستهلاك العائلي لجميع أنواع السّلع والخدمات باستثناء الأراضي والمباني) جراء نتائج عمليّة النموّ في حدود التحرّر الاقتصادي التسلّطي المتمثّلة في ارتفاع وتيرة الفقر، وتكديح الفئات الوسطى، والتهام تضخّم الأسعار المرتفع في العام 2008 الدّخول، أدّى في الشّهور الأخيرة من العام 2008 إلى تراجع ملحوظ في البطاقات المسبقة الدّفع من 62% في العام 2004 إلى 39% في أواخر العام 2008، أي أنّ هناك 5،3 ملايين مشترك مفعّل بالبطاقات المسبقة الدّفع مقابل أكثر من 15 مليون بطاقة مبيعة. ويمثّل ضغط الإنفاق أحد أبرز عوامل تحوّل مشتركي البطاقات لاحقة الدّفع إلى البطاقات سابقة الدّفع، ويتمثّل ذلك في عدم دفع اشتراك قيمته 600 ليرة سوريّة شهرياً بسبب تراجع الإيراد الشّهري للمشترك أو تآكله بفعل التضخّم وارتفاع أسعار الموادّ الغذائية، والتحكّم في صرفها من خلال البطاقات السّابقة الدّفع. فقد وصل الإيراد الشهري الوسطي للمشترك الواحد في العام 2007 في سورية إلى ما يعادل 19.85-21.50 دولاراً، بينما انخفض الإيراد الوسطي للمشترك في الهاتف الثابت إلى 10.9 دولارات.

أمّا العامل الآخر في تكوين شبكة المجتمع التّواصلي التقنية أو الوسائطية فيتمثّل في الفضائيات التي باتت تضطلع بدور الوسيط التكنولوجي الاتّصالي الأهم في عمليّة التأثير، وتشكيل اتّجاهات الرأي العام في المجتمعات العربيّة المأزومة. لقد احتلّت الفضائيات في مرحلة العولمة، ونشوء فضاء اتّصالي عابر للحدود القومية مكان الترانزيستور الذي كان يحتلّ موقع التأثير الأساس في مرحلة الجماهيريّات والشّعبويات في الفترة الواقعة بين الخمسينيات بشكل خاصّ والثمانينيات. ولا يعني ذلك أنّ الترانزيستور قد غدا «أثرياً» فهو لا يزال أساسياً ومؤثّراً، لكن دوره تراجع كثيراً قياساً على دور الفضائيّات، وانتشار لواقطها تقريباً في كلّ بيت ومكتب.

 لهذا كان تأثير الفضائيات في ثورات العالم العربي الرّاهنة يضارع ما لعبه الترانزيستور والصّحف والمنشورات في مرحلة «الجماهيريات» الشّعبوية، وتحكّم النّخب والحكومات في مصادر البثّ والمعلومات. لقد لعبت الفضائيّات وبشكل خاصّ فضائيّة «الجزيرة» دور «صوت العرب» في الخمسينيات والسّتينيات، وكانت فاعليّتها أكبر لأنّ الترانزيستور يقوم على التّحريض ويمثّل علاقةً مركزيةً موجّهةً من مرسلٍ إلى مستقبلٍ، بينما طوّرت الفضائيّات البرامج الحواريّة التفاعلية المباشرة، ونظام النّقل والتّعليق المباشر، وحوّلت خلاصات الفيسبوك إلى صوت مسموعٍ مؤثّرٍ. وجسّد هذا التطوير ثورةً في التّواصل الاجتماعي يتيح التأمّل، بحكم طبيعته الصّامتة، في مجتمعات لا تزال شفاهية. بينما كانت البرامج الحوارية ألصق بالطبيعة الشفاهية من خلال الصورة المرئية- المسموعة الفورية التي لا تكشف عن اتّجاهات الرّأي العام بل تساهم في تشكيله وتوجيهه أيضاً، ما يجعلها مجال صراع للسّيطرة عليها بين القوى المعنيّة في المنطقة وخارجها بالتحكّم في اتّجاهات الرّأي العام وتوجيهها. والفكرة الجوهريّة هنا أنّ دور هذه الأجهزة الجديدة ما عاد مقصوراً على التّعبير عن اتّجاهات الرّأي العام فحسب، بل عن تشكيله وتعبئته.

 

مقتطف من دراسة «العقد الأخير في تاريخ سورية:

جدلية الجمود والإصلاح» (ج4).