خسارة معركة..  هل يمكن الاسترداد والتصحيح؟
بقلم: غريس غيلبيرت* بقلم: غريس غيلبيرت*

خسارة معركة.. هل يمكن الاسترداد والتصحيح؟

دفعت الانتكاسات التي تعرض لها اليسار اللاتيني في الأرجنتين وفنزويلا بالكثير من المحللين للبحث في أسباب تقدم قوى اليمين في أمريكا الجنوبية. في هذه المادة، يرجع الباحث في جامعة «فنزويلا البوليفارية»، غريس غيلبيرت، تراجع اليسار في الانتخابات الفنزويلية الأخيرة، إلى حالة الإبقاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية، مع اتخاذ خطوات ذات طابع اشتراكي ولكنها منقوصة وجزئية، اقتصرت على عمليات إصلاح داخل البنية الرأسمالية ذاتها.

ترجمة وإعداد: رنا مقداد 

 

 تلقى اليسار الفنزويلي ضربة قاصمة خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم الأحد الماضي 6/12/2015. وبغض النظر عن التفاصيل الجزئية التي قادت إلى مثل هذه النتيجة، هل لنا أن نتوقع انهياراً كاملاً للمشروع البوليفاري؟

نظمت المعارضة الفنزويلية المدعومة غربياً كتلة انتخابية فضفاضة، تحت مسمى «الطاولة المستديرة للاتحاد الديمقراطيMUD »، لتحصل ليس على أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية (البرلمان) فقط، بل وعلى الأغلبية اللازمة للدعوة إلى الاستفتاء، والشروع في التعديلات الدستورية، وإعادة تنظيم السلطة القضائية.

إن العواقب على المدى الطويل لتقدم اليمين الفنزويلي، وغيره من قوى اليمين في أمريكا اللاتينية، من المرجح لها أن تكون كارثية على الإرث البوليفاري في عموم دول جنوب القارة الأمريكية، أما تلافي مثل هذه الكارثة، فهو محكوم اليوم بمدى قدرة اليسار الفنزويلي على الحفاظ على النظام الداخلي أولاً، و«تجديد» نفسه ثانياً.

هل تستكمل الـ«3Rs»؟

في مواجهة هذه النتائج الانتخابية، كان الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أول من دعا إلى نقد الذات، ومراجعة السياسات التي اتخذتها الحكومة اليسارية، ودراسة مكامن النقص والخلل في الطروحات والسياسات التي جرى العمل على أساسها خلال المرحلة الماضية. فتراجع اليسار الفنزويلي ليس مجرد انعكاس كربوني لحرب النفط التي تحملت فيها فنزويلا خسائر فادحة، وليست انعكاس أيضاً للحملات الدعائية التي قامت بها المعارضة المدعومة غربياً، إنما كل ذلك مر عبر أقنية وثغر داخل السياسات اللاتينية، سمحت بظهور مثل تلك النتيجة، التي نراها تلعب دور «الدومينو» في معظم أمريكا الجنوبية.

طرح مادورو ليس جديداً. كان الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، قد استشرف هذه الثغرة باكراً. وقبل نحو خمس سنوات، جميعنا يذكر جيداً حملة «3Rs» التي أطلقها تشافيز (حملة الراءات الثلاث باللغة اللاتينية، والتي تعني: مراجعة، وتصحيح، ودفعة جديدة).

شروط لتجاوز التراجع

أثبت التاريخ أن إمكانية تحقيق الديمقراطية المركزية داخل الحركات والمجتمعات اليسارية، إنما تتطلب، قبل أي شيء، مستوى عالياً من التنظيم، ومستوى أعلى من الالتزام بألف باء العلم الماركسي، دون تحجير هذا العلم، ودون تذويبه بحجة «البيئة الخاصة». وفي الواقع، تزداد النتائج الكارثية الناجمة عن عدم التمتع بهذا المستوى العالي من التنظيم والالتزام، مع تطور أدوات الرأسمالية المتوحشة.

وفي هذا الصدد، علينا ألا نغالي ونبالغ في تقييم «النقد الذاتي» الذي يطرحه اليسار اللاتيني اليوم. ذلك أنه وللأسف، غالباً ما ترتفع موجات «النقد الذاتي» مع ظهور قوى جديدة تشكل خطراً على المشاريع اليسارية، كما حدث في منتصف ستينيات القرن الماضي عند ظهور «حرس أحمر صيني» جديد، بدعم من بعض أركان الحرس القديم.

العقدة: غياب الاستراتيجية

في أحسن الأحوال، إن الادعاء بأن هناك «حرباً اقتصادية» ضد فنزويلا وضد حكومتها هي السبب في تراجع اليسار هو تفسير جزئي. فالحروب الاقتصادية، كتلك التي خيضت ضد حكومة سلفادور الليندي مثلاً، أو كوبا في عهد الرئيس فيديل كاسترو، لم تكن ناجحة بالضرورة، حيث أبدت كوبا مقاومة شرسة ضد الحرب الاقتصادية التي ظلت تواجهها خلال أكثر من 50 عاماً.

إن العامل الرئيسي لهذه النتيجة التي صعقت البعض، هو أنه ورغم التحذيرات الكبيرة التي أطلقتها الحكومات اللاتينية في صدد الحرب الاقتصادية، إلا أن استراتيجية متماسكة لإلحاق الهزيمة بهذه الحرب لم تخرج إلى النور أبداً. وهذه الاستراتيجية التي تعني تعريف واضح للعدو، وتحديد مكانه، ومن ثم تنظيم الإجراءات لتحقيق نصر استراتيجي كبير. هذه الاستراتيجية التي التزمت بها حكومة فيديل كاسترو طويلاً، وحكومة هوغو تشافيز خلال السنوات الأخيرة خصوصاً، لم تكن معالمها واضحة خلال الفترة الماضية، فبتنا نرى أن كوبا تدور في سياق المباحثات مع الولايات المتحدة، وفنزويلا تدور في سياق التعرض لهجوم اقتصادي أمريكي، فيما تدور بقية الدول اللاتينية في فلك هذا تارة، وفلك ذلك تارة أخرى.

في الواقع، إن غياب هذه الاستراتيجية عن برنامج الرئيس مادورو، هي ما دفع على الأرجح قطاعات من الناخبين من الطبقة العاملة- بما في ذلك بعض القطاعات المحسوبة تاريخياً على اليسار- إلى الانجرار وراء برنامج المعارضة، والتصويت بما يخالف مصلحتهم.

أظهر الشعب الفنزويلي تماسكاً كبيراً جداً في لحظات أصعب بكثير من مجرد انخفاض أسعار النفط، مثل التوقف النهائي للنفط في الشهر الثالث من عام 2002. لكن الافتقار إلى الخطة الاستراتيجية، يدفع الناخبين إلى الاعتقاد بأن هناك نهاية كبيرة تلوح في الأفق، ويجرهم إلى الانتقال إلى مواقع أخرى.

*بروفيسور في العلوم السياسية، جامعة «فنزويلا البوليفارية»، كاراكاس.

عن «Counter Punch» بتصرف..