افتراس أوكرانيا واليونان
جاك راسموس جاك راسموس

افتراس أوكرانيا واليونان

تشهد أوروبا حالياً ظهور شكلٍ جديد من أشكال الاستعمار، يختلف عن استعمار القرن 19 الذي كان يجري من خلال السيطرة العسكرية المباشرة، ويختلف أيضاً عن أشكال الاستعمار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية– والتي كان للولايات المتحدة الصدارة فيها– معتمدة على استخدام النخب المحلية المرتبطة بالاستعمار، الذين يمنحون حصةً من الثروات المنهوبة من الاستعمار مقابل أن يحكموا باسمه

إعداد وترجمة: علاء أبوفراج


اليوم يتجلى الاستعمار الجديد في القرن الواحد والعشرين «عن طريق نقل الأصول المالية» ويتم هذا من خلال استعمار الثروات المستخرجة من مدراء الدولة المستعمرة الذين يجري تعينيهم ليديروا عمليات نقل الأصول المالية بشكل مباشر إلى الدول المستعمرة. وهذا تماماً ما يجري الآن في أوكرانيا واليونان.


إحكام السيطرة

إن البنوك والمؤسسات المصرفية الأوروبية هي التي تقف وراء صفقة الدين اليونانية الأخيرة «المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة آليات الاستقرار الأوروبي (ESM)»، الذين سيتولون قريباً إدارة الاقتصاد بشكل مباشر، وذلك حسب مذكرة التفاهم الموقعة في 14 آب 2015 بين اليونان والترويكا (التحالف الثلاثي للمؤسسات الاقتصادية الأوروبية)، والتي تحدد شكل هذه الإدارة. ويقوم هذا الشكل الجديد من الاستعمار بنقل الأصول المالية بأشكال متعددة، كأن يجري نقل الثروة على شكل دفع فائدة على الديون التي تزداد باستمرار، أو من خلال بيع الأصول الحكومية بأسعارٍ بخسة «تصفية» إلى مستثمري ومصرفيي الاستعمار، أو يكون بالسيطرة الفعلية على النظام المصرفي والأصول المصرفية في المستعمرة، ونقله إلى المساهمين من أصحاب البنوك الخاصة والمستثمرين في هذا البلد.


حالة اليونان

أضافت صفقة الدين الثالثة التي وقعت مؤخراً بين اليونان والترويكا 98 مليار دولار للدين اليوناني، رافعةً بهذا المبلغ إجمالي الدين العام إلى أكثر من 400 مليار دولار، وجرى تخصيص كل الـ98 مليار دولار هذه لسداد الدين وإعادة رسملة البنوك اليونانية، وسيتم إنتاج الفائض الأولي الذي سيسدد الفوائد وأصل الدين إما من خلال دفع اليونانيين للإنتاج بشكل أكبر، أو من خلال تقليص النفقات ورفع الضرائب بشكل كبير. فالوضع الآن يختلف عن السابق، إذ لن يقوم اليونانيون بتصنيع بضائع لبيعها بأسعار رخيصة لألمانيا التي تقوم بدورها بتصديرها مجدداً بأسعار أعلى كما كان سائداً في استعمار القرن التاسع عشر! ولن يجري نقل الشركات متعددة الجنسيات لكي تخفض من تكاليف الإنتاج، وتشتري قوة العمل بأسعار أرخص وتحقق ربحاً أكبر بعد تصدير المنتجات إلى أرجاء العالم، كما عمل الاستعمار الأمريكي في أواخر القرن العشرين! فما سيجري الآن هو أن اليونانيين سيعملون أكثر مقابل أجور أقل، لكي يستطيعوا تأمين مدفوعات الفائدة على ديونهم المتزايدة لمؤسسات الترويكا، التي تعد بمثابة وسطاء ومحصلي ديون، أو أن ممثلي الدول بين الوكالات يعملون نيابة عمن يأخذ هذه الديون في نهاية المطاف. هم عبارة عن هيئات فوق الدول وعملاء جدد لاستخراج الثروات المالية ونهبها.


«مذكرة تفاهم» أم احتلال!

تعرّف مذكرة التفاهم بين اليونان والترويكا بالتفاصيل ما تعنيه الإدارة المباشرة، وتحدد بالإضافة إلى هذا كيفية استخراج هذه الثروات ليجري نقلها ونهبها، فتبدأ بأن تذكر صراحةً بأنه لن يتخذ أي إجراء، ولن يقر أي تشريع، بغض النظر عن حجمه، من المؤسسات السياسية اليونانية بدون موافقة مسبقة منهم– أي من الترويكا– وبالتالي باتوا يملكون «حق نقض» التدابير السياسية كلها في اليونان، والتشريعات والقرارات كلها الصادرة عن المؤسسات التنفيذية، وفي المستويات الحكومية كافة. فليس لدى اليونان اليوم أية سياسة مالية مستقلة. الترويكا هي من سيحدد الميزانية، وتشرف على وضعها، فمذكرة التفاهم تدعو إلى إعادة هيكلة الضرائب اليونانية بشكل كامل وتحديد النفقات في الميزانية الجديدة. تستطيع اليونان بالطبع أن تضع ميزانيتها الخاصة، ولكن بشرط واحد هو أن تكون مطابقة للميزانية التي تريدها الترويكا!
وسيقوم ممثلو الترويكا بمراقبة التزام وتقيد اليونان بهذه الميزانية، وسيكون للمؤسسات اليونانية كلها، واللجان التشريعية في البرلمان اليوناني كلها، مفوض من الترويكا قابعٌ فوق رؤوسهم يراقبهم بشكل يومي. وتحدد المذكرة صلاحيات تسمح للترويكا بتعيين «مستشارين مستقلين» لمجلس البنك اليوناني، وسوف يتم تنحية العديد من أعضاء مجلس البنك اليوناني القدامى، أي أن مستشاري الترويكا سيقومون بإدارة البنك اليوناني من الآن فصاعداً وسيتم خصخصة الفروع والمؤسسات الخارجية التابعة للبنك اليوناني، فتباع على سبيل المثال لبنوك أوروبية أخرى، وستكون البنوك اليونانية يونانيةً بالاسم فقط، وستخصص العشرات من المليارات لإعادة رسملة البنوك اليونانية، ولكنها ستوضع في بنوك لوكسمبورغ، لا في اليونان.
سيعيد البنك الدولي هيكلة نظام الرعاية الاجتماعية في اليونان، بالإضافة إلى إنشاء نظام شبكة حماية اجتماعية جديدة. المعينون الجدد سيديرون وزارة العمل ويقومون بعقلنة نظام التعليم- بعد موافقة الترويكا طبعاً– أي سيجري تسريح مدرسين وتخفيضات في الأجور. وسيقوم وزير العمل المقبول من الترويكا بدراسة مقترحات مستشاري الترويكا «المستقلين» لتقليل الإضرابات والمفاوضات الجماعية، وإنشاء قوانين جديدة للفصل الجماعي والتسريح الجماعي، وسيتم تخفيض المعاشات، ورفع سن التقاعد وزيادة اقتطاعات الرعاية الصحية وجعل الحكومات المحلية «أكثر كفاءة»، أي عمليات تسريح وتخفيض في الأجور، وإصلاح كامل النظام القانوني. أما المليارات الخمسون في صندوق أصول الحكومة اليونانية التي جرى خصخصتها ستبقى في اليونان، ولكنها حسب مذكرة التفاهم ستستثمر تحت إشراف المؤسسات الأوروبية ذات الصلة. وستقرر الترويكا ما سيجري خصخصته ويباع بأسعار بخسة لمستثمريها المفضلين، ويجري في الوقت الحالي تحديد وبيع ما سيجري خصخصته.


في حالة أوكرانيا

وعدت أوكرانيا بالمزيد من القروض بعد أن تم تعيين مصرفيي الولايات المتحدة وأوروبا في مناصب وزراء مالية واقتصاد في أوكرانيا العام الماضي، وأضافت أوروبا والولايات المتحدة 4 مليارات إضافية في كانون الثاني، وأعلن صندوق النقد الدولي عن صفقة بـ40 مليار في شباط، ارتفع على أثرها الدين الأوكراني من 12 مليار دولار في 2007 إلى 100 مليار دولار في 2015، حيث يعني دين بهذا الحجم أن يجري نهب أوكرانيا وسحب ثرواتها على شكل دفعات فائدة على هذا الدين.
وسيجري نقل للثروة على شكل تسريع في عمليات الخصخصة، إذ تم اتخاذ قرار ببيع 342 شركة في قطاع الأعمال الحكومة في هذا العام، تشمل محطات توليد الطاقة والمناجم و13 ميناء، بالإضافة لعدد من المزارع أيضاً! ومن المرجح أن تباع بأسعار بخسة. وسيتم البيع لمصلحة «أصدقاء» الوزراء الجدد من أمريكيين وأوروبيين. وسيجري كذلك بيع العديد من الشركات الأوكرانية الخاصة، بموافقة الوزراء الجدد. فهناك واحدة من أصل خمس شركات مفلسة تقنياً، وعاجزة عن إعادة تمويل ما مقداره 10 مليارات دولار هي إجمالي حجم ديون الشركات. معظم هذه الشركات سيكون عاجزاً عن السداد، وسيتم انتشال أفضلها من الولايات المتحدة ومصرفيي الظل الأوروبيين والشركات متعددة الجنسيات.

تمثل أوكرانيا واليونان اليوم شكلاً من أشكال الاستعمار يقوم على تطوير شكل جديد من الإدارة يهدف لاستخراج الثروات ونقلها على شكل أصول مالية بغرض نهبها. كأن يحدد صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأخرى خطط الإنقاذ السابقة التي كانت تضع لتسديد الديون الحكومية محددات يجب الالتزام بها من الدول التي يجري «إنقاذها»، أي أنه في السابق كان على الدولة نفسها أن تلتزم بالخطة. لكن اليوم يجري إدارة الدول بشكل مباشر من الدول الدائنة لتضمن ألا تتأخر أو تتخلف مستعمرتها عن نقل أصولها المالية التي يولدها الدين المرتفع باطراد


عن موقع (counter punch) بتصرف