حول أوروبا التي لا نريدهــا..!
في البداية، وعلى خلفية المواجهة بين الغرب والشرق، أعطت الوحدة الأوروبية مزايا مادية سخية للأوروبيين، حيث دفعت الولايات المتحدة هذا المشروع إلى الأمام في فترة ما بعد الحرب مباشرةً، ساعيةً لإيجاد سوق لبضائعها، ولخلق مجموعة عازلة في مواجهة توسع الاتحاد السوفييتي، في حينه.
ترجمة وإعداد: رنا مقداد
أدركت الولايات المتحدة أنه إذا أراد «العالم الحر» الأوروبي المنافسة بفاعلية مع الجمهوريات المنضوية في حلف وارسو، فإنه يجب عليه أن يكسب العقول والقلوب، وهو ما كان يعني في ذلك الوقت أن يظهر «حسن النوايا» من خلال سياسات اجتماعية. لكن، ومنذ أن تلاشى حبل النجاة، تصرفت أوروبا كأنها مجلس إدارة مصرف.
ظهر «سيريزا» وكأنه يملك يداً لا تقبل المنافسة، لكن النجاح يعتمد على «مع من تلعب». في الاتحاد الأوروبي، ارتدت ضربة «سيريزا» الساحقة ضد اليونان ذاتها: كان الحزب بعيداً كل البعد عن الواقع، في تجرئه على طرح السؤال حول الافتراضات الاقتصادية التي تكمن وراء الإيديولوجية الاقتصادية الألمانية.
أسلحة العقل والقناعة تكون عديمة الفائدة في ظروف كهذه. فما الجيد في عرض قضيتك بوجه كتيبة تطلق النار؟ خلال شهور «المفاوضات»، لاحظ اليونانيون بأن نظراءهم الأوروبيين حدقوا بهم وكأنهم يفكرون: «أنتم على حق فيما تقولونه، لكننا سنسحقكم على كل حال»..!
لا يقدرون الدفع، لن يدفعوا
على كل حال، فإن نجاح خطة ألمانيا إلى الآن بتحويل اليونان إلى محمية لمجموعة اليورو، كان أيضاً نتيجة إلى فشل رهان الأغلبية المتمثلة في الجناح اليساري اليوناني. ففي أملهم شديد التفاؤل لتغيير أوروبا، كان الرهان بأن قادة فرنسا وإيطاليا سيساعدون اليونان لتجاوز المحرمات النقدية النظرية الألمانية.
الرهان على شعوب أوروبية أخرى غارقة بسبب سياسات العقوبات، والتعويل على أنها ستضغط على حكوماتها لإعادة توجيه «الكينزية»، والرهان على أن هذا التغيير قد يكون أمراً من السهل تخيله في منطقة اليورو: سيناريو اللاخروج أو اللامخرج كان هو المتوقع أو المعد، وكذلك الرهان على أن التلميحات المتقطعة من «الخيار الروسي» ستقوم، ولأسباب جيوسياسية، باحتواء رغبة ألمانيا بلكم اليونان، وتشجيع الولايات المتحدة لكبح اليد الألمانية.. لم تبد أي من هذه المراهنات بأنها ستكون رابحة.
وتجلى التعنت بأن الاستسلام اليوناني لم يعد كافياً بعد الآن: يجب أن يكون هناك اعتذارات (أقرت اليونان بأن الخيار الاقتصادي سبب انهيار في الثقة بين شركائها)، حتى التعويضات والأملاك العامة القابلة للخصخصة، ما يعادل 25% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي اليوناني التي سيجري اقتطاعها لصالح الدائنين.. الكل بدا مرتاحاً بأن اليونان ستدفع.
«ألمانيا سوف تدفع»، كانت هذه الجملة التي همس بها وزير المالية الفرنسي، لويس كلوتس، بأذن الرئيس الفرنسي، جورج كليمانصو، في نهاية الحرب العالمية الأولى. وأصبحت كلمة السر للمدخرين الفرنسيين الذين أقرضوا وزارة المالية أثناء الحرب. لم ينسوا أنه في 1870، دفعت فرنسا كل الجزية التي فرضت عليها من بيسمارك، رغم من أن المجموع كان أكبر من تكاليف ألمانيا. ألهمت هذه السابقة رئيس الوزراء الفرنسي، ريمون بوانكاريه، عندما كان محبطاً بسبب عدم استلامه للتعويضات المنصوص عليها في معاهدة فرساي، فقرر أن يحتل منطقة «الرور» في العام 1923.
ألمانيا لم تدفع لأنها لا تستطيع أن تدفع، والأمر مطابق لحالة اليونان الآن. مع مرور الوقت فقط، ومع توازن إيجابي للمدفوعات، تمكنت لألمانيا من تسديد ديونها الضخمة. رفضت فرنسا السماح للاقتصاد المنافس بأن يبعث مجدداً، الاقتصاد الذي كان سيمكنها من الدفع، ولكن سيمكنها أيضاً من تمويل جيش.
دين غير قابل للتسديد بالمطلق
بعد سنة، كان على الرئيس الفرنسي، ريمون بوانكاريه، أن يرفع الضرائب بنسبة 20% لتمويل احتلاله. وهي المفارقة القاسية لقادة اليمين المعارض، الذين رفضوا الضرائب وأصروا بأن تدفعها ألمانيا. وعليه، خسر الانتخابات التالية، وقام خليفته بإخلاء منطقة الرور.
في الوقت الحالي، انهار الاقتصاد اليوناني بسبب نقص السيولة، لذا، فإن ثمن مرونة وزير المالية الألماني، فولفغانغ شويبله، سيكون مرتفعاً كما في حالة بوانكاريه. لكن إذلال اليونان، سيخدم بوصفه مثالاً لضحايا محتملين آخرين (إسبانيا وإيطاليا.. وفرنسا؟)، وستكون تذكير بـ«نظرية يونكر» التي تمت صياغتها من رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، بعد أربعة أيام من انتصار «اليسار» اليوناني الانتخابي: «لا يمكن أن يكون هناك خيار ديموقراطي بما يتعارض مع المعاهدات الأوروبية».
إن سريراً واحداً أضيق من استيعاب 19 حلم مختلف. لقد كان الاتحاد الأوروبي بمثابة تعهد إمبراطوري لفرض العملة نفسها على النمسا وقبرص ولوكسمبورغ وإسبانيا، وعلى الشعوب التي لا تملك تاريخاً مشتركاً، ولا ثقافة سياسية ومعايير مشتركة للعيش، أو حتى التحالفات واللغات نفسها. كيف يمكن لدولة أن تخرج بسياسة اقتصادية- اجتماعية تكون مفتوحة للنقاش والمفاوضات الديموقراطية إذا كانت آليات التنظيم النقدي كلها خارجة عن سيطرتها؟ كيف يمكن لشعوب قد لا تعرف بعضها أن تقبل بدرجة ما من التضامن مشابهة لسكان فلوريدا أو مونتانا؟
بني الأمر كله على فرضية أن الفدرلة بوتيرة عالية يمكن أن توحد شعوب أوروبا مع بعضها. غير أن العداء يبلغ، الآن وبعد 15 سنة على إنشاء اليورو، حداً غير مسبوق. لدرجة أنه عندما أعلن تسيبراس عن استفتائه، استخدم لغة مشابهة للغة إعلان الحرب: «اقتراح منطقة اليورو الذي قدم على شكل إنذار موجه إلى الديموقراطية اليونانية»، واتهم بعض «الشركاء» بأنهم يسعون إلى «إذلال شعب بأكمله».
لكن العداء لم يعد بين ألمانيا واليونان فقط: «لا نريد أن نكون مستعمرة ألمانية» هذا ما أصر عليه رئيس «بوديموس»، بابلو إغليسياس، في إسبانيا. وكذلك، زلة لسان رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي: «أقول لألمانيا: هذا يكفي. فإذلال شريك أوروبي غير مطروح». وبحسب عالم الاجتماع الألماني، فولفغانغ شتريك: «في بلدان البحر الأبيض المتوسط، وإلى حد ما في فرنسا، فإن ألمانيا مكروهة أكثر من أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية.. الاتحاد المالي والاقتصادي الذي كان من المفترض أن يدعم الاتحاد الأوروبي مرة وللأبد، هناك اليوم احتمالاً شاخصاً أمامنا بانهياره.
العملة في وجه السيادة
روى وزير المالية الفرنسي، ومفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الاقتصادية والمالية، بيير موسكوفيتشي، لكل الصحفيين، وفي محاولة للتجييش ضد المطلب اليوناني: «في اجتماع مجموعة اليورو، قال الوزير اللتواني لوزير المالية اليوناني، يانيس فاروفاكيس: جيد أنك تريد أن ترفع الحد الأدنى للأجور إلى 40%، لكن الحد الأدنى للأجور لديكم هو أكبر بمرتين من حد الأجور لدينا. وأنت تريد أن ترفع الأجور، مستخدماً النقود التي تدين لنا بها».
توضح الأزمة اليونانية أن عملة واحدة تقف في مواجهة السيادة الشعبية، فكيف يمكن لأي شخص أن يتخيل بأن عملة واحدة تلائم يوماً ما سياسية اجتماعية تقدمية، بعد أن شهدت الخطط التي قدمتها دول المجموعة الأوروبية لتسيبراس إرغاماً له للقبول بإجراءات نيوليبرالية صارمة؟
*عن «Counter Punch» بتصرف