التطور التكنولوجي ونبوءة ماركس.. موجز كتاب «نهاية الرأسمالية بدأت..!»
تختلف قاعدة الانطلاق من طرفٍ لآخر، وكذلك، يختلف منطق التحليل للأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية، بين ما هو صائب ومخطئ، غير أن معظم الاتجاهات باتت تصل إلى نقطة مشتركة: الرأسمالية منتهية، والعالم على أعتاب نظامٍ جديد. في هذا العدد، تعرض «قاسيون» ترجمتها لموجز كتاب «نهاية الرأسمالية بدأت»، المنشور في صحيفة «الغارديان» البريطانية.
ترجمة وإعداد: أحمد الرز
على مدى جزءٍ كبير من القرن العشرين، كان تصور بعض اليسار للمرحلة الأولى من اقتصاد ما بعد الرأسمالية يقوم على ضرورة استخدام القوة من الطبقة العاملة، من وراء المتاريس الحربية أو في صناديق الاقتراع، أما الرافعة فهي الدولة، وتأتي الفرص من خلال النوبات المتكررة من الانهيار الاقتصادي.
لكن السوق دمَّرت الخطة: حلت الفردية محل الجماعية والتضامن، وتوسعت القوى العاملة بشكلٍ كبير في العالم بوصفها بروليتاريا، لكن لم تعد تفكر أو تتصرف بالطريقة التي فكرت وتصرفت وفقها ذات مرة خلال القرن الماضي. غير أن طريقاً جديداً للخروج يجري خلقه اليوم من خلال التكنولوجيا العملية.
ما بعد الرأسمالية.. والتغييرات الثلاثة
كما تبين، فإن دفن الرأسمالية لن يجري بواسطة الطرق القسرية، بل ستلغى عن طريق خلق ما هو أكثر ديناميكية من السائد. في البداية، ومن داخل النظام القديم، سيجري الاختراق وإعادة تشكيل الاقتصاد حول قيم وسلوكيات جديدة. أنا أسمي ذلك: ما بعد الرأسمالية.
كما هو الحال مع نهاية الإقطاع قبل 500 عام، فإن استبدال الرأسمالية بما بعدها سوف يتسارع عبر الصدمات الخارجية، وسينتهي بظهور نوع جديد من الوجود الإنساني. وقد بدأت هذه الصدمات فعلاً..!
ويساهم في ذلك ثلاثة تغييرات كبيرة جلبتها تكنولوجيا المعلومات، خلال السنوات 25 الماضية. أولاً: خُفِّضت الحاجة للعمل، وتلاشت الحواف بين العمل ووقت الفراغ، وخففت العلاقة بين العمل والأجور. فضلاً عن أن الموجة المقبلة من التشغيل الآلي- المتوقفة حالياً، بحكم البنية التحتية الاجتماعية لدينا، والتي لا يمكن أن تتحمل العواقب- سوف تقلل بشكلٍ كبير من كمية العمل المطلوب، ليس فقط للعيش، إنما لتوفير حياة كريمة للجميع.
ثانياً: تفتك التكنولوجيا بقدرة السوق على تشكيل الأسعار بشكلٍ «صحيح»، وهذا لأن الأسواق تقوم أساساً على وجود الندرة، بينما التكنولوجيا وفيرة. إذ إن آلية النظام الرأسمالي للدفاع قامت على تشكيل الاحتكارات (شركات التكنولوجيا العملاقة مثالاً) على نطاقٍ غير مسبوق خلال السنوات الـ200 الماضية، ومع ذلك، فإنها لا يمكن أن تستمر، حيث أنها تُبنى خلافاً للحاجة الأساسية للبشرية.
ثالثاً: نشهد ارتفاعاً في عفوية الإنتاج التعاوني، فالسلع والخدمات والمنظمات باتت تظهر عدم استجابتها لإملاءات السوق والتسلسل الهرمي الإداري. فأكبر منتج للمعلومات في العالم (ويكيبيديا- مثالاَ) صار يطوَّر من المستخدمين مجاناً، لاغياً عمل المؤسسات الموسوعية، وحارماً قطاع الإعلانات من عائدات تقدر بـ3 مليار دولار سنوياً.
دون أن يلاحظ أحد تقريباً، فإن هناك في تجاويف وخبايا نظام السوق مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية، التي تشكل بداية للتحرك على إيقاعٍ مختلف. إذ أن قضايا كالعملات الموازية والبنوك البديلة والمساحات المدارة ذاتياً قد لوحظت بالكاد من قبل الاختصاصيين الاقتصاديين، وغالباً ما يكون ذلك نتيجة مباشرة لتحطيم الهياكل القديمة في أزمة ما بعد 2008.
الرأسمالية «محطمة آلات»..!
قضى انهيار عام 2008 على 13% من الإنتاج العالمي، و20% من التجارة العالمية. أما النمو العالمي فأصبح سالباً، وانتشر الركود على نطاقٍ أوسع. وحتى الآن، ووسط «الانتعاش» الشاحب، ترك الاقتصاديون التقليديون في رعبٍ إزاء احتمالات الركود طويل الأمد، حيث الهزات الارتدادية في أوروبا تمزق القارة إرباً.
تحولت النيوليبرالية إلى نظامٍ جرت برمجته لإلحاق الفشل الكارثي المتكرر. والأسوأ من ذلك، أنه كسر نمط الرأسمالية الصناعية السائد منذ 200 عام، حيث كانت الأزمة الاقتصادية تحفز أشكالاً جديدة من الابتكار التكنولوجي التي أفادت الجميع. وذلك لأن النيوليبرالية كانت النموذج الذي يقوم على قمع الأجور وتحطيم القوة الاجتماعية وقدرة الطبقة العاملة. فإذا استعرضنا فترات الإقلاع التي جرت دراستها من قبل منظري الدورات الطويلة في الاقتصاد- خمسينيات القرن التاسع عشر في أوروبا، وأوائل ومنتصف القرن العشرين في جميع أنحاء العالم- كانت قوة العمل المنظم هي من أجبر رجال الأعمال والشركات على الكف عن محاولة إحياء نماذج العمل التي عفا عليها الزمن من خلال قطع الأجور، وهي من أجبرتهم على «ابتكار» طريقهم نحو «شكلٍ جديد» من أشكال الرأسمالية (النيوليبرالية).
والنتيجة من ذلك، أننا وجدنا مع كل طفرة انتعاش اقتصادية، توليفة جديدة من التشغيل الآلي وارتفاع الأجور والاستهلاك عالي القيمة. اليوم، ليست التكنولوجيا- وسط هذه الموجة من الابتكار- مطالبة بإنشاء الإنفاق الاستهلاكي العالي، أو إعادة توظيف القوى العاملة القديمة في وظائف جديدة، وعليه، باتت التكنولوجيا آلة تطحن ثمن السلع وتجعله أقل، وتخفف وقت العمل اللازم لدعم الحياة على كوكب الأرض. ونتيجة لذلك، فإن أجزاء كبيرة من طبقة رجال الأعمال أصبحت شبيهة بعمال النسيج الإنجليز الذين احتجوا على التكنولوجيا التي دخلت سوق العمل بين أعوام 1811-1816.
بين احتكار الرأسمالية ووفرة ما بعدها
لا يتألف التقدم التكنولوجي الكبير في مطلع القرن الـ21 من العمليات والاكتشافات الجديدة فقط، بل حتى من تلك القديمة التي باتت «أكثر ذكاءً». إذ أن المحتوى المعرفي للمنتجات أصبح أكثر قيمة من الأشياء المادية التي تستخدم في إنتاجها. ففي ستينيات القرن الماضي، بدأ بعض الاقتصاديين والتكنولوجيين يكوِّنون نمطاً موحداً بعض الشيء من التفكير: إن القاعدة الجديدة للحصول على المعلومات سوف تخلق شيئاً جديداً، هو «نوعٌ ثالث» من الرأسمالية، مختلف عن الرأسمالية الصناعية المعبر عنها برأسمالية التجارة والرقيق للقرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن هؤلاء الاقتصاديين جهدوا لوصف ذلك بـ«الديناميات الجديدة للرأسمالية المعرفية»، وذلك لسببٍ وحيد: أن دينامياتها، في العمق، ليست رأسمالية..!
في كل الأعمال التجارية الإلكترونية المشادة حالياً، كان الهدف: احتكار وتقييد البيانات، والتقاط البيانات الاجتماعية المجانية الناتجة عن التفاعل بين المستخدمين، ودفع القوى التجارية في مجال إنتاج البيانات، التي لم تكن تجارية فيما سبق. وعلى الرغم من ذلك، فإن الآثار الثورية لذلك جلية: إذا كان اقتصاد السوق المفتوح، بالإضافة إلى الملكية الفكرية، يؤديان إلى تقليل الاستفادة من المعلومات، فإن الاقتصاد القائم على الاستفادة الكاملة من المعلومات لا يمكن أن يتسامح مع السوق الحرة وحقوق الملكية الفكرية المطلقة. وعليه، فإن نماذج العمل التي لدينا اليوم قد جرى تصميمها من عمالقة الرقميات الحديثة، لمنع وفرة المعلومات.
«نبذة» ماركس وقوة المعرفة
المكان هو قرية كنيتش في لندن، خلال شهر شباط من عام 1858، وقرابة الساعة الرابعة عصراً: كان ماركس مطلوباً في ألمانيا، وقد شرع للتو في كتابة بعض الأفكار والتجارب في مخطوطاتٍ شخصية. في وقتٍ لاحق، عندما سيعرف مثقفو اليسار في ستينيات القرن العشرين ما في تلك المخطوطات، فإنهم سيعترفون أن ما كتبه «تحدى كل تفسيرٍ خطير أتى لاحقاً حول ماركس». وكان الكتاب هو: «نبذة عن الآلات»*
في هذه «النبذة»، تصور ماركس اقتصاداً، الدور الرئيسي للآلات فيه هو الإنتاج، أما الدور الرئيسي للشعب فهو الإشراف عليها. وكان ماركس واضحاً بأنه، في مثل هذا الاقتصاد، فإن القوة الإنتاجية الرئيسية تكون المعلومات. أما الطاقة الإنتاجية لهذه الآلات، كآلة غزل القطن المؤتمتة، والتلغراف، والقطار البخاري، لا تعتمد على كمية العمل التي تطلب إنتاجها، بل على حالة المعرفة الاجتماعية. فالتنظيم والمعرفة، في كلمةٍ أخرى، يساهمان بشكلٍ أكبر في رفع الطاقة الإنتاجية من العمل اللازم لصنع وتشغيل الآلات.
في طياتها، تقول الماركسية، أنه وبمجرد أن تصبح المعرفة قوة منتجة في حد ذاتها تفوق الإنفاق على العمل الفعلي لصناعة الآلات، فإن السؤال الكبير يصبح ليس فقط «الأجور والأرباح»، بل من يسيطر على ما يسميه ماركس بـ«قوة المعرفة»؟ ففي الاقتصاد، حيث تقوم الآلات بأكثر من عمل، يقول ماركس، إن طبيعة المعرفة المقفلة داخل الآلات يجب أن تصبح اجتماعية.
في آخر تجربة فكرية أنجزها في وقتٍ متأخر من الليل، تصور ماركس نقطة النهاية لهذا المسار الرأسمالي: إن إنشاء «آلة مثلى» تستمر إلى الأبد ولا تكلف شيئاً، الآلة التي يمكن أن تبني دون مقابل، سوف لن تضيف أية قيمة على مجمل عملية الإنتاج، وبسرعة، ستحد من السعر والربح والعمل.
بمجرد أن نفهم أن تكنولوجيا المعلومات هي مادة، وبأن البرنامج هو آلة، وبأن التخزين وعرض النطاق الترددي وقوة المعالجة آخذة بالانهيار لناحية سعرها، وبمعدلاتٍ هائلة، فإن قيمة فكر ماركس تبدو جلية أكثر فأكثر.. نحن محاطون بالآلات التي لا تكلف شيئاً ويمكنها، إذا أردنا لها ذلك، أن تدوم إلى الأبد..!
في هذه التأملات، التي لم تنشر حتى منتصف القرن العشرين، تنبأ ماركس بأن المعلومات سيجري تخزينها ومشاركتها في شيء يسمى «العقل العام»- الذي هو عقل كل البشر على الأرض متصلاً بالمعرفة الاجتماعية، التي تفيد الجميع في كل تطور يطرأ عليها. باختصار، تصور ماركس شيء قريب جداً من اقتصاد المعلومات الذي نعيش فيه، وكتب أن وجوده سيشكل «ضربة قاصمة للسماء العالية للرأسمالية».
أساساً لنظام بلا أسواق
مع تغير الإحداثيات، فإن تصورات بعض اليسار، القديم بعقليته، في القرن العشرين حول ما بعد الرأسمالية يجري دفنها، لكن مساراً مختلفاً قد فتح. حيث أن الإنتاج التعاوني، باستخدام تقنيات شبكات الاتصال لإنتاج السلع والخدمات سوف يعمل فقط عندما نكون أحراراً من القيود الرأسمالية، وسيكون بحاجة للدولة لإنشاء إطار لعمل المصنع. إن قطاع ما بعد الرأسمالية من المرجح له أن يتعايش مع قطاع السوق لبضعة عقود، ولكن تغييراً كبيراً سيحدث. حيث إن شبكات الاتصال ترمِّم، بشكلٍ إيجابي، مشروع ما بعد الرأسمالية، وذلك يعني أنه من الممكن أن تكون أساساً لنظامٍ بدون أسواق يعيد تشكيل نفسه، علينا جميعاً المشاركة في إنشائه والتمتع بالعلامات التجارية للمؤسسات التي تحيط بنا.
صحيح، إن الدول يمكنها أن توقف مصانع المعلومات المطورة مجاناً، وكذلك إقفال شبكة الإنترنت والمحمول بأكملها في أوقات الأزمات، وشل الاقتصاد بهذه العملية، عدا عن تخزين ومراقبة كل كيلوبايت من المعلومات التي ننتجها، لكنها لا تستطيع إعادة فرض الهرمية والتلاعب بالوعي الفردي والجمعي السائد منذ 50 عاماً ماضية. إن هذا سيكون، على حد تعبير عالم الاجتماع، مانويل كاستلز، تماماً كمحاولة لنزع الكهرباء في الدولة.
كيف يمكننا تصور الانتقال إلى الأمام؟ النظير المتماسك الوحيد لدينا هو عملية استبدال الإقطاع من قبل الرأسمالية- فبفضل علماء الأوبئة والهندسة الوراثية ومحللي البيانات، نحن نعرف الكثير عن هذا الانتقال، مما كنا نعرفه منذ خمسين عاماً مضت- أول شيء علينا أن ندركه هو: هيكلة أنماط مختلفة من الإنتاج في جميع المجالات والنطاقات. كان الإقطاع نظاماً اقتصادياً منظماً من الأعراف والقوانين يقوم حول «الالتزام»، وقد تمت هيكلة الرأسمالية من خلال مفهومٍ اقتصادي بحت: السوق. عليه، يمكننا التنبؤ، أن نظام ما بعد الرأسمالية، الذي يشترط الوفرة لن يكون مجرد نسخة معدلة ومعقدة عن نظام السوق.
«الوظائف الهراء» بدلاً عن أتمتة العمل
بوصفه حاضراً في العملية الإقطاعية برمتها، بدا المال والائتمان إحدى عرضيات النظام القديم، لكنه كان في الواقع ذاهباً ليصبح أساساً للنظام الجديد. ففي الإقطاع، العديد من القوانين والأعراف شكلت في الواقع حول تجاهل المال: الائتمان كان، في أعلى مراحل الإقطاعية، ينظر له كعمل خاطئ. لذلك، عندما انفجر المال والائتمان عبر الحدود لخلق نظام السوق، فإنه بدا كثورة. ثم، أعطى اكتشاف المصادر غير المحدودة للثروة الحرة في الأمريكيتين للنظام الجديد طاقته.
إن مزيجاً من كل هذه العوامل أخذ مجموعة من الأشخاص الذين تم تهميشهم في النظام الإقطاعي- الإنسانيين والعلماء والحرفيين، والمحامين، والدعاة المتشددين، والكتاب المسرحيين البوهيميين مثل شكسبير- ووضعهم على رأس التحول الاجتماعي. وفي لحظات مفتاحية، تحولت الدولة، خلافاً لبداية الأمر، من معيقة للتغير إلى مروجة له.
اليوم، إن أحد الأشياء التي تسرع بتآكل الرأسمالية هي تكنولوجيا المعلومات، التي باتت منتشرة في جميع التقنيات: من علم الوراثة إلى الرعاية الصحية، وصولاً للزراعة والسينما.. إلخ حيث تم تخفيض التكاليف بسرعة فائقة.
فالمعادل الحديث للركود الطويل في أواخر الحقبة الإقطاعية، هو حالة التوقف عن الإقلاع بالثورة الصناعية الثالثة. إذ أنه وبدلاً من أتمتة العمل بسرعة، تنزلق البشرية إلى خلق «الوظائف الهراء»، وخفض الأجور، فيما العديد من الاقتصادات في حالة ركود.
بمجرد فهم التحول في هذا الطريق، فإن الحاجة ليست للخطط الخمسية وما عداها، ولكن لمشروع ينبغي أن يكون الهدف منه توسيع تلك التكنولوجيات، ونماذج الأعمال والتصرفات التي تقوم بتذويب قوى السوق والمعرفة الاجتماعية، وتقضي على الحاجة للعمل وفق الشروط الرأسمالية، وتدفع الاقتصاد نحو الوفرة. أنا أسميه «المشروع صفر»- لأن أحد أهدافه هو إنتاج الآلات والمنتجات والخدمات مع «صفر تكاليف»، والحد من وقت العمل الضروري في أقرب وقت ممكن إلى ما يقارب الصفر.
إن التركيز المنطقي لمؤيدي نظام ما بعد الرأسمالية هو بناء البدائل من داخل النظام، لاستخدام السلطة الحكومية بطريقة جذرية، وتوجيه جميع الإجراءات الرامية إلى التحول المنشود- وليس دفاعاً عن العناصر التخريبية في النظام القديم.
التناقض الأبرز اليوم هو بين إمكانية الوصول للسلع بشكلٍ مجاني، ووفرة المعلومات، وبين نظام الاحتكارات والبنوك والحكومات التي تحاول الإبقاء على الأشياء في هذا العالم خاصة ونادرة وتجارية.
*عن «The Guardian» بتصرف..
*باول ماسون: كاتب ومحرر اقتصادي بريطاني
هوامش:
*كتاب «The Fragment on Machines»