عقلية التفرد في زمن التراجع.. «العقيدة العسكرية الأمريكية»
«لا بد من قيام الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية بتحليل دقيق للوضع من أجل تقليل التهديدات التي تحاول الولايات المتحدة فرضها على روسيا من خلال زيادة وجودها في أوروبا.. بما يهدد السلم العالمي»، عبر هذه الكلمات، ردَّ رئيس لجنة الدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيروف، على ما جاء في «العقيدة العسكرية الأمريكية» التي نشرها البنتاغون في الأول من الشهر الجاري، والتي تميزت بتركيز العداء لروسيا وجيشها، إلى جانب دول أخرى، في حين لجأت «وزيرة سلاح الجو الأمريكي» إلى تهويل مماثل معلنة في أواخر الأسبوع الماضي أن تصرفات روسيا «المثيرة للقلق» تستوجب نشر المزيد من مقاتلات F16 في أراضي الحلفاء، ومعربة عن خيبتها بالعدد القليل لدول حلف شمال الأطلسي التي أوفت بالتزاماتها في رفع الانفاق العسكري إلى 2%.
فور ظهورها إلى العلن، أثارت الوثيقة الأمريكية المكونة من 20 صفحة الكثير من الجدل والتساؤلات، خصوصاً وأن حجر الأساس فيها هو استماتة الإدارة الأمريكية للسيطرة على العالم من خلال تعويم العنف والتطرف، ويظهر بوضوح أن الاستراتيجية الجديدة هذه لا تخدم الشعب الأمريكي بشيء، وإنما جرى وضعها لتخدم رأس المال المالي.
فيما يلي تستعرض «قاسيون» بعض الآراء والتعليقات المباشرة التي قام بها المحللون والمطلعون الأمريكيون، في سياق ردود الأفعال على ما جاء في الاستراتيجية المذكورة.
دول ينبغي «عقابها»!
تضع «الاستراتيجية» قائمة طويلةً للدول «الرجعية»، التي توجهت إليها بالاتهامات، وحذرتها من عقابٍ قريب، إذا ما استمرت بارتكاب «المعاصي». إذ أن روسيا- حسب ما ورد في العقيدة- «تبرهن على عدم احترام سيادة جيرانها باستمرار. كما أن المناورات العسكرية الروسية تقوِّض الأمن القومي، بشكلٍ مباشر، أو من خلال القوات المرتبطة بها». أما ما يخص البرنامج النووي الإيراني، فهو حسب الوثيقة «يدعو إلى قلق حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة» على اعتبار أن إيران «ترعى الجماعات الإرهابية في المنطقة، وتنشط في سورية والعراق واليمن ولبنان»، فيما نالت كوريا الديمقراطية مكاناً في هذه القائمة فهي أيضاً «تعد دولةً مارقة، قامت بتطوير أسلحة نووية وصواريخ قادرة على الوصول إلى الولايات المتحدة».
وفيما بدا البنتاغون مجبراً على التعامل مع حكم الأمر الواقع، من خلال «دعمه» صعود الصين، و«تشجيعه» لها على أن تصبح «شريكاً في الأمن العالمي»، جدّدت الوثيقة موقف البنتاغون حول أن «مطالب الصين في كامل بحر الصين الجنوبي لا تتطابق مع القانون الدولي.. وبنائها العدائي لجزر اصطناعية في المنطقة، أتاح لها نشر قوات عسكرية وسط الطرق البحرية الدولية المهمة».
تحالفات مشبوهة
«تعالج هذه الاستراتيجية العسكرية القومية الحاجة لمواجهة الدول الرجعية، التي تتحدى المعايير الدولية جنباً إلى جنب مع المنظمات المتطرفة العنيفة التي تهدد مفهوم الأمن العابر للحدود. نحن نعمل مع حلفاء وشركاء لردع ومنع هذه المحاولات، وإن تطلب الأمر هزيمة خصوم الدولة المحتملين. وإن الأساس في هذه الجهود هو تقوية الشبكة العالمية للحلفاء والشركاء».
بتعليقه على وثيقة البنتاغون، وضح المؤرخ الأمريكي، إريك زووس، بأن عبارة «الأنظمة الرجعية» تعني بالحقيقة «أي دولة ليست حليفة لنا»، وقد أشار إلى أن الولايات المتحدة تقوم بتشكيل تحالفٍ مريب معادٍ لدول «بريكس» في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهذا ما يخالف فكرة مؤسسي الولايات المتحدة أنفسهم حول عدم التدخل.
استشهد زووس بجورج واشنطن الذي قال «إنها سياستنا الصادقة القائمة على الابتعاد عن أية تحالفات دائمة مع أي جزء من العالم الخارجي»، واقتبس العبارة الشهيرة التي قالها الرئيس الأمريكي، توماس جيفرسون، معلناً: «سلام، تجارة، وصداقات حقيقية مع كل الدول- وعدم الدخول في مؤامرات مع أحد (ضد أحد آخر)».
لكن في الوقت الذي التزم فيه الآباء المؤسسون بالحفاظ على مصالح الشعب الأمريكي، يبدو أن إدارة أوباما تلتزم بمصالح أباطرة «وول ستريت»، وقد أشار زووس إلى أن استراتيجية البنتاغون الجديدة موجهة «للحفاظ على أمن النظام الاقتصادي العالمي (الرأسمالي) سليماً».
وقال أن: «هذا مهم لـ«وول ستريت»، لكن الغزوات الأمريكية العديدة التي قامت لمصلحة «وول ستريت» لم تكن لحظات مشرفة في التاريخ الأمريكي– لم نقدم أي شيء جيد للشعب الأمريكي»، وبيَّن: «إن المليارديريين استفادوا كثيراً في فترة حكم أوباما، ولكن هذا لا ينطبق على عموم الشعب الأمريكي».
الحرب.. ثم الحرب.. ثم الحرب!
الباحث الأسترالي، مايك ويتني، يشير بدوره، إلى أن العقيدة العسكرية الأمريكية «الجديدة» تدعو إلى أن يستعد الأمريكيون لحرب لا منتهية. وأضاف أنه، على النقيض من روسيا والصين، اللتين تطوران مشروعاً لإقامة منطقة تجارة أوراسية متكاملة، تهدف إلى إيجاد فرص عمل وإدارة شؤون دول أوراسيا، بالإضافة إلى زيادة ازدهارها، فإن واشنطن «لا تملك استراتيجية للمستقبل، ولا تملك رؤية لعالم أفضل»، بل «ولا ترى غير الموت والدمار أمامها».
وأكد ويتني: «الحرب، ثم الحرب، ثم الحرب! هذا هو مستقبل وزارة الدفاع الأمريكية»، وأضاف بأن «الجميع يعلم أن الولايات المتحدة تقوم بكل ماتريد، والاستراتيجية العسكرية الجديدة تؤكد هذه الحقيقة المحزنة»، مشيراً إلى أن «الطبقة السياسية كاملةً، إلى جانب نخبة دافعي الضرائب، تدعمان دوراً عالمياً أمريكياً عبر قوة السلاح». وعلاوة على ذلك، بينما كانت القوات الأمريكية تدخل سابقاً في حملات عسكرية لمواجهة الإرهاب، فإن العقيدة العسكرية الأمريكية لعام 2015 تضع «دولاً بعينها» على قائمة الاستهداف الجديدة.
جاء في الوثيقة «ركزت حملاتنا العسكرية في العقد المنصرم على العمليات ضد الشبكات العنفية المتطرفة. ولكن اليوم وفي المستقبل المنظور يجب أن نولي التحديات التي طرحت من قبل دول أخرى اهتماماً أكبر».
وأكد الخبراء بأن الهدف الأساسي للبيت الأبيض هو «الإبقاء على ضمان أمن الإمبراطورية». ستفعل واشنطن أي شيء في سياق تحقيق هذه المهمة، بما في ذلك شن الهجمات على دول أخرى، في الوقت الذي ستبرر الصياغات المبهمة في وثيقة العقيدة العسكرية كل أفعال الإدارة الأمريكية.
خمس مشاكل أساسية
نشر موقع «Counter Punch» الأمريكي مقالاً مطولاً بقلم روبرت ستييل- ستفرد له «قاسيون» مساحة أوسع في العدد القادم لمعالجة العقيدة العسكرية الجديدة بشكل تحليلي أكبر- حدد فيه الكاتب «خمسة أخطاء كبرى» في هذه الوثيقة، بوصفها وثيقة سياسية وضعت لخداع الشعب، وإرضاء للبيت الأبيض، ويمكن تحديد هذه الأخطاء الكبرى بما يلي:
• لم تشر الوثيقة أبداً إلى أن الاضطراب، وانعدام الاستقرار العالمي كان متوقعاً منذ أكثر من ربع قرن مضى! لا سيما ما أشار له مقال قائد سلاح مشاة البحرية، آل غري، بعنوان «تحديات الاستخبارات العالمية في التسعينيات»، المنشور في «Intelligence Journal» في شتاء 1989. لذلك فإن المشكلة هي في عملية التستر والتغطية على خمسة وعشرين عاماً من المسؤولية الإجرامية، في أعلى مستويات الأمن القومي الأمريكي.
• فشلت الوثيقة بتوضيح أن الذراع السياسي للحكومة الأمريكية، المتمثل في نظام الاستبداد القائم على التناوب فيما بين الحزبين السائدين في الكونغرس، هو عدونا الأسوأ، وهما اللذان يصلان للكونغرس بأصوات 26% فقط من أصل الناخبين المؤهلين الذين لا يصوت 50% منهم أصلاً..! إن ما تقترفه الإدارة الأمريكية باسمنا، وعلى حسابنا، سياسياً ومالياً وثقافياً، يجعل من المستحيل أن يكون لدينا جيش محق ومفيد.
• تمارس الوثيقة خداع الشعب بشدة، فيما يتعلق بجميع المسائل الجوهرية، المرتبطة بكشف الحقائق الخاصة بقيادات الفاسدة، وغدا الكذب متأصلاً لديها، مقابل تركيز الحديث عن الكسب غير المشروع ارتباطاً بتقنيات لا قيمة لها، في حين يجري حرمان القوى البشرية لدينا من التمويل والدعم اللائقين، بالإضافة إلى الفشل الذريع في إيجاد أي شكل للتكامل متعدد الجنسيات، بسبب نقص الاستخبارات المشتركة الموثوقة.
• الوثيقة متواطئة مع عسكرة الشرطة، بالإضافة إلى زج الجيش الأمريكي خارج مهامه لتقديم الدعم للشرطة في مواجهة المواطنين الأمريكيين، وهذا ما يعد مخالفة للقانون الذي يمنع استخدام القوات المسلحة ضمن حدود الدولة. وقد تجنبت حل المشكلة الأكبر التي تتعلق بالحرس الوطني، وإساءة معاملة مقاتلينا، فهناك 22 منهم يقدمون على الانتحار كل يوم، وفي الحقيقة فإن جيش الولايات المتحدة فشل بوصفه مؤسسة اقتصادية-اجتماعية.
• لا تقدم الوثيقة نظرة جوهرية موضوعية للمستقبل تكون متاحة وقابلة للتطبيق، ولا يوجد التزام بهذه الوثيقة لتنفيذ تخفيض النفقات العسكرية المقرة بواقع 30% من الميزانية العسكرية، أو إغلاق قواعدنا الخارجية، أو إنشاء سلاح بحري قوامه 450 سفينة، وجيش مجوقل، وقوة جوية للمسافات البعيدة، والتي من المفترض أن تكون مفيدة في مواجهة صنوف الخطر التي تم تحديدها في أواسط تسعينيات القرن العشرين.
عن وكالة «sputniknews» بتصرف