البداءة الأمريكية في فهم روسيا الاتحادية
فيما يلي تنشر «قاسيون» الجزء الثاني من إحدى محاولات السفير الأمريكي السابق لدى موسكو، إبان حقبة الرئيس ميخائيل غورباتشوف، تفسير وتفنيد الأسباب التاريخية للتناقض الحالي بين أمريكا وروسيا. وإن كان يؤخذ على المقال تغليبه للعوامل الدبلوماسية في بحث أسباب التناقض، غير أنه يسلط الأضواء على الجدل الجاري في الولايات المتحدة حول موضوع العلاقة مع روسيا، كما يمثّل نموذجاً لتحليل تلك العلاقة من داخل البيت الأمريكي.
ترجمة: جيهان الذياب
كانت فترة التسعينيات من القرن الماضي تقود بشكل حتمي تقريباً إلى حقبة من خيبة الأمل في موقف روسيا من الغرب. فقد كانت توقعات الغرب متفائلةً وبقوة، وتتطلب إعادة تقييم في مرحلة ما، وكان من الممكن أن تؤدي عملية إعادة التقييم هذه إلى أساس أكثر واقعية لعلاقة بناءة طويلة الأجل، أو إلى انعطاف باتجاه ميول أكثر انكفاءً، وكانت تلك سمة دورية متكررة للسياسة الروسية. ولم تتمكن الدبلوماسية الأمريكية من تحديد نتيجة إعادة التقييم تلك. وللأسف، لقد أثرت دبلوماسيتنا في تلك العملية ووجهتها إلى اتجاه غير مرغوب فيه.
دبلوماسية الولايات المتحدة المشوهة خلال التسعينيات
حدث هذا الفشل الدبلوماسي على عدة جبهات. أولاً، إن الفهم البدائي لدينا للثقافة السياسية الروسية جعلنا ننظر بطريقة أكثر تفاؤلاً إلى ما كان يحدث في روسيا خلال هذه الفترة. فعندما رأينا بدايات ديمقراطية جيفرسون والسوق الحرة، رأى الروس الفوضى الاجتماعية والانهيار الاقتصادي. في ظل هذه الظروف، كان من المتوقع تماماً أن السياسات الداخلية لروسيا ستبدأ بالميل في اتجاهات أكثر سلطويةً. فالدبلوماسية التي لا تستند على التقييم الصحيح للواقع في بلد آخر هي دبلوماسية مبنية على الرمال.
ثانياً، قضينا معظم عقد التسعينيات نخبر الروس عما هو في مصلحتهم، بدلاً من الاستماع لهم. وقد حدث هذا في القضايا الكبيرة والصغيرة، ولكن أهمها كان في مسألة توسيع حلف شمال الأطلسي. وهذا ليس هو المكان المناسب لمناقشة إيجابيات وسلبيات هذه المسألة مرة أخرى، ولكن تأثيره على وجهة نظر روسيا عن النظام الدولي الجديد لا ينبغي أن يشكل مفاجأة. أندريه كوزيريف، الذي كان، ربما، وزير الخارجية الأكثر موالاة للغرب في تاريخ روسيا الطويل، تحدث لنا على حد سواء سراً وعلانية، وذلك قبل وقت قصير من فقدانه لوظيفته، عما سيكون أثر توسع الناتو على الإصلاح والمصلحين الروس. لا يمكن التوفيق بين المصالح المتضاربة بتوظيف الدبلوماسية دون الاستعداد لسماع الطرف الآخر وتمكنه من تحديد مصالحه.
ثالثاً، لقد رمينا لهم التوافه وتوقعنا منهم أن يعتقدوا أنها أشياء ذات أهمية. قدمنا للروس علاقات صورية دون تدخل جوهري في المؤسسات الغربية المحددة، واعتقدنا أنهم لا يمكن أن يفهموا الفرق، وقمنا في نفس الوقت بارتكاب الأخطاء الدبلوماسية من خلال إيهام أنفسنا من جهة وإهانتهم من جهة أخرى.
وأخيراً، بدلاً من العمل على إرساء المبادئ المتفق عليها، فقد بدا أننا نعمل على أساس من المصلحة الذاتية قصيرة المدى. فمن حيث المبدأ في عضوية حلف شمال الأطلسي- التي يمكن لأي شخص أن يتقدم لها- فهي تعني أن أي شخص باستثناء روسيا قد تنطبق عليه معاييرها. لقد طبقنا مبادئ السلامة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتقرير المصير بشكل انتقائي وبطريقة رأى الروس أنها تضر بمصالحهم. وكان حق كوسوفو في تقرير المصير له الأسبقية على حق صربيا في سلامة أراضيها، ولكن حق جورجيا في وحدة أراضيها كان له الأسبقية على حق أبخازيا في تقرير المصير. كان التوصل إلى تفاهم مشترك حول معنى هذه المبادئ المتضاربة هو قضية أساسية، إذ كانت عناصر في غاية الأهمية لإنشاء نظام دولي أكثر استقراراً. نحن لم نحاول حقاً. فقد تدخلنا في الشؤون الداخلية للدول باسم الديمقراطية - ليبيا، وسورية- وقدمنا الدعم للإطاحة قسرياً بأنظمة منتخبة ديمقراطياً ذات سياسات لا تعجبنا، وتعد أوكرانيا المثال الأكثر أهمية في هذا المجال.
رد فعل روسيا
سعت روسيا، في نهاية الحرب الباردة، لإدراج نفسها في النظام الدولي الجديد الذي يتشكل. من جهة، اعترف الروس بأن بلدهم ضعف بشكل كبير وأنهم لا يحبون ذلك. وتشهد عدم شعبية غورباتشوف ويلتسين الدائمة، بين مواطنيهم، على ما يعتقده الروس ويرونه في القادة الذين لا يقدمون الرعاية المناسبة لشعبهم ووطنهم خلال فترات حكمهم. من ناحية أخرى، فإنهم لا يعتبرون أنفسهم مهزومين. لقد هزموا بأنفسهم نظاماً سياسياً قمعياً، وحرروا حلفاءهم من الحرب الباردة، وتخلوا عن أيديولوجية فاشلة، وحلوا أكبر إمبراطورية في العالم طواعية وبشكل سلمي. وأعربوا عن اعتقادهم بأنهم حصلوا على الحق في أن يعاملوا على أنهم شركاء في القرارات الدولية الكبرى، بدلاً من أن يكونوا مرؤوسين في علاقة تسلطية. لكنهم أصيبوا بالخذلان وخيبة الأمل.
من المنظور الثقافي الروسي، تصرفت الولايات المتحدة، بعد نهاية الحرب الباردة، بالضبط بنفس الطريقة المتوقعة من الطرف الأقوى. لم يعتد الروس على التفكير في السلطة على أنها قابلة للقسمة. في العلاقة القائمة على السلطة، هناك جانب واحد لديه كل السلطة بينما الآخر لا حول ولا قوة لديه. وليس لدى الروس أي حافز لمواصلة هكذا نوع من العلاقات، وهي جزء لا يتجزأ من نظام منحهم أسباباً عديدة في محاولة تقويضه.
الأزمة الأوكرانية
وأوروبا حرة وموحدة
توضح الأزمة الأوكرانية مدى اختلال هذه العلاقة، ولكنها أيضاً توفر الفرصة للبدء بتغييرها. جورجيا، أو أوكرانيا، الغارقتان في المؤسسات الاقتصادية والسياسية الغربية لن تظهرا التهديد لروسيا غارقة في نفس تلك المؤسسات. فالعقبات، التي تحول دون تحقيق ذلك، هائلة وربما تحتاج عقوداً من المفاوضات الدبلوماسية للتغلب عليها. لكن هذا ما قدمته حركة الفحم الأوروبي والمجتمع الفولاذي إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت هي الحركة الأساسية التي لاقت نجاحاً كبيراً في دمج ألمانيا في نظام الدول الأوروبية. هذا هو الجهد الدبلوماسي الذي يجب أن تأخذه الدول الأوروبية. لقد كانت لدى الأوروبيين تجربة إيجابية مؤخراً في هذا المجال، وهي معنية أكثر وعموماً غير مثقلة بالنزوات الأخلاقية أو المتعصبة التي تصيب الدبلوماسية الأمريكية بشكل دوري.
تهدف المفاوضات الثلاثية بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا وروسيا للعمل والخروج باتفاقية اقتصادية- ولو أنها بالتأكيد ستكون ذات دلالات سياسية بأن الأطراف الثلاثة يمكن أن تتعايش معها- كنقطة بداية. يمكن لتلك المفاوضات، إذا ما استخدمت بشكل صحيح، أن تكون مسرحاً لخلق البيت الأوروبي المشترك الذي لن يستثني لا روسيا ولا الولايات المتحدة. إن علاقات واسعة مستقرة ومنتجة في هذا المجال ستوفر إطاراً جيداً للقيام بمهمةٍ يحتمل أن تكون أكثر صعوبة من دمج القوى الآسيوية الصاعدة سلمياً في النظام الدولي.
عن موقع: «nationalinterest.org» بتصرف