من «نعم» إلى «لا» الدبلوماسية الأمريكية تحول روسيا من حليف محتمل إلى خصم استراتيجي
في غمرة الصراع بين المحورين الأمريكي وحلفائه من جهة والروسي وحلفائه من جهة أخرى، تكثر الإسهامات الفكرية والتاريخية التي تحاول فهم العلاقة وتغيراتها ما بين المحورين. فيما يلي تنشر «قاسيون» إحدى محاولات السفير الأمريكي السابق لدى موسكو، إبان حقبة الرئيس ميخائيل غورباتشوف، تفسير وتفنيد الأسباب التاريخية للتناقض الحالي بين أمريكا وروسيا. وإن كان يؤخذ على المقال تغليبه للعوامل الدبلوماسية في بحث أسباب التناقض، غير أنه يسلط الأضواء على الجدل الجاري في الولايات المتحدة حول موضوع العلاقة مع روسيا، كما يمثّل نموذجاً لتحليل تلك العلاقة من داخل البيت الأمريكي.
ترجمة: جيهان الذياب
يحمل النشاط الدبلوماسي المكثَّف الذي يرافق انتهاء الحروب العالمية الكبرى هدفين عريضين اثنين: الأول، زيادة مكاسب الرابحين وإنقاص خسائر المهزومين، والثاني، خلق نظام عالمي جديد أكثر استقراراً، تُستثنى فيه أي تكرارات للمذابح التي تعرَّض لها المشاركون في تلك الحروب.
سبق أو تلا كلاً من «حرب الثلاثين عاماً» و «حرب الخلافة الإسبانية» و«حروب فرنسا الثورية» و«حروب نابليون» والحربين العالميتين الأولى والثانية، انهيار نظام قديم. تلك الانهيارات التي تم التعبير عنها بتغيير واضح في عدد اللاعبين في النظام، أو تغيير جذري في ميزان القوى النسبية للاعب أو أكثر، أو تغير في أسس أيديولوجية النظام القديم.
دروس التاريخ
ودبلوماسية ما بعد الحرب الباردة
تعبّر جهود من سبقنا في خلق نظام عالمي مستقر عن حقيقة صعوبة تنفيذ هذه المهمة، يعود ذلك إلى أن عدم حتمية تطابق الأهداف الدبلوماسية ما بين استقرار النظام وتحسينه. لو كان لجميع القوى الكبرى مصلحة في خلق النظام الجديد، سيعني ذلك بالضرورة وجود مصلحة في الحفاظ على استقراره. ولو رأت أية قوة كبرى في النظام الجديد بعض الضرر، لن تعترف بشرعيته وستعمل على تقويضه. لقد استثنت القوى المنتصرة في فرنسا من مداولات مؤتمر فيينا في العام 1815، قال وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، شارل تاليران، بأن فرنسا وحدها قادرة على إعطاء نتائج المؤتمر الشرعية التي يحتاجها، وقد استدعيت فرنسا إلى المداولات لأسباب تتعلق في المجمل بمصالح القوى المنتصرة ومناورات «تاليران» الدبلوماسية، ودعمت فرنسا نتائجه، والتي خلقت كما نعلم جميعاً أطول فترة من السلم في تاريخ النظام السياسي الأوروبي، كان تاليران محقاً، وحدها فرنسا الخاسرة استطاعت إعطاء الشرعية للنظام الجديد.
وفي نهج مشابه، في فرنسا أيضاً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث حاولت الدمج بين التحسين الذاتي ورفع مستوى استقرار النظام الجديد عن طريق إضعاف وتفكيك البلدان الخاسرة. يشير التاريخ السياسي الأوروبي إلى أن هذه المقاربة قد تنفع مع البلدان الصغرى، لكن تطبيقها على البلدان الكبرى ساهم في زيادة عدم الاستقرار.
لقد كان لنهاية الحرب الباردة تأثير كبير على النظام العالمي، قارب في حدته ما جرى من الحروب الكبيرة قبل ما يقارب الثلاثمائة سنة الماضية. شهدت السنوات 1989-1991 سقوط أحد التحالفين العسكريين الأساسيين في النظام، وانهيار إحدى القوتين المتنافستين على نيل استحسان العالم، وكان هناك زيادة ملحوظة في عدد اللاعبين في النظام، بالتزامن مع انحلال واحدة من أكبر قوتين في العالم. لقد كان التفاوض على نهاية سلمية للحرب الباردة أحد أكبر الإنجازات الدبلوماسية. وبعد مرور ما يقارب العقدين، يمكننا أن نرى أن دبلوماسية ما بعد الحرب الباردة لم تنفع في خلق نظام عالمي مستقر، لم نجحت الدبلوماسية في مهمة وأخفقت في أخرى؟
أولويات الدبلوماسية الأمريكية
في نهاية الحرب الباردة
كانت الدبلوماسية الأمريكية في تلك المرحلة منشغلة بمسألتين: تحقيق استقرار نووي أكبر في المستويات الدنيا، والحصول على موافقة سوفييتية حول خلق ألمانيا موحدة وبقائها عضواً في حلف شمال الأطلسي. لقد حقَّقت الولايات المتحدة تلك الأهداف عن طريق المفاوضات بشكل رئيسي، وكانت الضمانات تأتي عن طريق الجانب السوفييتي في أغلب الأحيان. كان هناك آراء مختلفة حول منح السوفييت لتلك الضمانات.
ومن خلال تجربتي في السفارة الأمريكية في موسكو، عندما كنت مستشاراً إدارياً للعلاقات السياسية في الأعوام 1988 – 1991، رأيت بأن تلك الضمانات قد منحت بسبب نية الزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في إعادة توجيه كبرى في سياساته الخارجية. كانت نيته خلق الشروط الملائمة التي تسمح باستمرار قبول روسيا كعضو في المجتمع الأوربي. لقد نبعت تلك التوجهات من همومه الداخلية، لقد علم آنذاك بأن البنية التحتية السوفييتية في طريقها إلى الانهيار، وبأن نظامه السياسي الفاسد يعاني من الإذعان والطاعة اللذين يخفيان في طياتهما اليأس والحقد، كان يأمل بأن إعادة التوجيه تلك ستحرك عجلة الأحداث المحلية: خفض كبير في الميزانية الدفاعية، استثمار متزايد في البينة التحتية الاقتصادية وحاجات المستهلك، مما يقود إلى دعم شعبي متجدد متحمس، لكن ذلك لم يحصل، مع أن تلك المقاربة لم تكن لتبدو خاطئة من منظور منتصف الثمانينيات.
استجابت الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الاستفادة من تلك الضمانات حول قضايا تتصدر أجندتها الدبلوماسية. وفي معظم الأحيان، تجاهلت مسألة دور السوفييت (لاحقاً روسيا) في النظام العالمي الذي كان يأخذ شكله الجديد. بدا وكأن ذلك كان أحياناً عفوياً أو متعمداً في أحيان أخرى.
ورغم أن الرئيس بوش لم يرغب بإظهار الشماتة إلا أنه اعتبر الاتحاد السوفييتي قوةً مهزومةً. فمن النادر أن تعطي القوى المنتصرة مثيلاتها المهزومة الكثير من الاعتبار حين يتعلق الأمر بالاعتراف بها في النظام العالمي، لم تكن حالة نهاية الحرب الباردة استثناءً، اقترح جورج زوليك، أحد أعضاء دائرة مستشاري بوش/بيكر الضيقة، وأحد صانعي السياسة الخارجية الأمريكية، إعطاء السوفييت المظاهر لا الحقيقة فيما يتعلق بترتيبات ما بعد الحرب الباردة. ومع هاتين المسألتين الكبيرتين اللتين شغلتا وقت وتفكير دائرة صنع القرار الصغيرة في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، لم يكن مفاجئاً أن يُمنح القليل من الانتباه للتفكير في بنية وتنظيم مبادئ النظام العالمي الناشئ حديثاً. لقد عمدت إدارة بوش على دفع تلك المسائل في وجه من خلفها في إدارة الرئيس كلينتون.
ريموند سميث:
قضى ريموند سميث نحو 25 عاماً في خدمة الخارجية للولايات المتحدة، ستة منها كانت في موسكو. وتضمنت مهام كبيرة مثل وزير مستشار للشؤون السياسية في موسكو ومدير مكتب الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية، ومكتب الاستخبارات والأبحاث. وهو مؤلف «التفاوض مع السوفييت» (مطبعة جامعة إنديانا، 1989) و «احتراف التحليل السياسي للدبلوماسيين» (بوتوماك برس، 2011).