ماركس وانخفاض معدل الربح.. التحول المالي والأزمة الحالية (2/2)
فلاديميرو جايكيه فلاديميرو جايكيه

ماركس وانخفاض معدل الربح.. التحول المالي والأزمة الحالية (2/2)

تنشر قاسيون القسم الثاني من هذه المادة التي تقوم بتحليل الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008 والتي تعمقت لاحقاً ليدخل الاقتصاد العالمي في أزمة من الركود. لقد أوضح الجزء الأول من المادة التصورات السطحية عن عمق الأزمة الرأسمالية التي يتحدث بها الاقتصاديون البرجوازيون، كما أوضح ذلك الجزء التجلي الفعلي لقانون (ميل معدل الربح للانخفاض) الذي يعتبر المولد الرئيسي للأزمة الاقتصادية بتناقضه مع (مسعى الرأسمالية للربح الأعلى).

ترجمة : خالد تميم - أسامة عبدالله - سلام الشريف

 لقد أوجدت الرأسمالية ديناميات للتحكم بـ"ميل معدل الربح للانخفاض" استعرض الجزء الأول أهمها تحت عنوان العوامل التعويضية وهي: 1-ارتفاع معدل استغلال العمل. 2- تخفيض قيمة الأجور. 3- خفض تكلفة رأس المال الثابت. 4- الزيادة السكانية النسبية. 5- التجارة الخارجية. 6- الزيادة في رأس المال بفائدة. وسنستعرض، إضافة إلى العاملين الخامس والسادس، ظاهرة هيمنة القطاعات المالية وأزمتها كتجلٍ نوعي للأزمة الرأسمالية.

5-التجارة الخارجية

إن التجارة الخارجية، وفقا لماركس، تمثل عاملاً تعويضياً بالنسبة لانخفاض معدل الربح، وذلك لعدة أسباب: أولاً- إن توسع نطاق التجارة الخارجية أدى لزيادة حجم الإنتاج وبالتالي تخفيض تكاليف الوحدة المنتجة (اقتصاديات الحجم). مما أدى "لتخفيض قيمة عناصر رأس المال الثابت، وبشكل جزئي ضروريات المعيشة التي يحول إليها رأس المال المتغير" (ماركس 1863-67/1992: 306). إن التجارة الخارجية تعزز بذلك ارتفاعاً في معدل الربح، وزيادة معدل القيمة الزائدة (من حيث انخفاض قيمة قوة العمل، وزيادة كمية العمل بدون أجر في يوم العمل) وتخفيض قيمة رأس المال الثابت (الذي يؤدي إلى إبطاء الارتفاع في التركيب العضوي لرأس المال).
ثانياً- إن التفوق التكنولوجي للسلع المنتجة في بلد ما يمكن أن يوفر أرباحاً إضافية من خلال التنافس مع السلع المنتجة باستخدام تكنولوجيا أقل تطوراً في أي مكان . يلاحظ ماركس "إن رأس المال المستثمر في التجارة الخارجية يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدل الربح" ويفسره بـ " أن هناك منافسة بين سلع الدول المتقدمة والسلع المنتجة في بلدان أخرى لديها منشآت صناعية أقل تطوراً، حيث أن الدولة المتقدمة تبيع سلعها بأعلى من قيمتها، وعلى الرغم من ذلك تبقى أرخص من السلع المنتجة في الدول المنافسة لها". إن هذا الجانب لعب دوراً هاماً لفترة طويلة، لكنه بات يفقد أهميته في السنوات الأخيرة نظراً للتقدم التكنولوجي المذهل الذي أحرزته بلدان مثل الصين والهند.
ثالثاً- "فيما يتعلق برأس المال المستثمر في البلدان المستعمرة" يلاحظ ماركس أنه "قد يحقق معدلات أعلى من الأرباح وذلك لسبب بسيط وهو أن معدل الربح أعلى هناك بسبب التطور المتأخر في تلك البلدان" وبسبب وجود قدر أكبر من "استغلال العمل". وتنطبق هذه الملاحظة اليوم تماماً على الكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلدان الناشئة.
كما يلاحظ ماركس، أن الآثار المفيدة للتجارة الخارجية على معدل الربح، تظهر فقط على المدى القصير. أما على المدى المتوسط ​​والطويل، فإن التجارة الخارجية غير مفيدة لمعدل الربح: "إن التجارة الخارجية تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في البلد المُستقبل، وهو ما يعني انخفاض رأس المال المتغير بالنسبة لرأس المال الثابت، من ناحية أخرى، يؤدي لفائض في الإنتاج بالنسبة للأسواق الخارجية، وذلك على المدى الطويل له تأثير معاكس مرة أخرى ".

6- الزيادة في رأس المال بفائدة

هذا العامل الذي يذكره ماركس في النهاية يتمثل في الحصة المتزايدة من الـ"رأس المال بفائدة" بالنسبة للرأسمال الكلي، ويتمثل بالاستثمارات في الأنشطة الإئتمانية والمالية. إن الأهمية المتزايدة لـ"رأس المال بفائدة" في العقود القليلة الماضية هي واحدة من المفاتيح لفهم العمليات الأساسية للأزمة الراهنة والأحداث التي أدت لذلك.
عصر الفقاعة: ذروة تطور رأس المال الربوي
 ذكرت الدراسة المنشورة من قبل ماكينزي أنه "في عام 1980، بلغ إجمالي قيمة الأصول المالية الموجودة في العالم ما يقارب قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أما في نهاية عام 2007، بلغ الدين المالي العالمي، أو نسبة هذه الأصول إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي 356٪ "(Farrell 2008). هذه الأرقام كافية لتوضيح الأوزان النسبية للإئتمان والتمويل في السنوات الأربعين الماضية رأس المال الربوي.
إن التحول نحو رأس المال الربوي له جذور عميقة تعود إلى أواخر الستينيات، عندما وصلت الفترة الذهبية، المرتبطة بنمو ما بعد الحرب، إلى نهايتها. كتب هاري ماجدوفوسويزي بول في عام 1977 يوضحان ما حصل حينئذ:
أصبح الاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية معتاداً بشكل مضطرد على الاستخدام المتواصل للديون. فالدورات التي تسم الإئتمان تواصل التناوب، ولكن مع اختلاف ذي أهمية: فمن ركود إلى آخر ومن قمة دورة اقتصادية إلى قمة الدورة التي تليها تستمر مستويات اللجوء إلى الإئتمان بالتصاعد. إذ يتم بشكل متزايد استبدال المستوى العام للنشاط الاقتصادي بضخ كميات كبيرة جدا من الإئتمان من قبل الحكومات والكيانات الخاصة. ومنذ ذلك الحين، ومستوى الدين الإجمالي في كل بلد من بلدان الرأسمالية المتقدمة يستمر في النمو خلال الدورات الاقتصادية.
تباطؤ النمو الاقتصادي وازدياد نسبة الائتمان لأصول المؤسسات المالية أديا إلى تصاعد الاضطراب المالي. ففي حين لم يكن هناك أي أزمات مالية في الولايات المتحدة الأمريكية بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1968، ولم تحدث أي أزمة مصرفية في أي مكان من العالم بين 1945 و1971، بدأت الأزمات المالية تتوالى بعد ذلك، حيث سجل صندوق النقد الدولي أكثر من 200 أزمة بين عامي 1975 و1997. وكل أزمة تحدث في بلدان المحيط يقابلها تدفق جديد لرؤوس الأموال إلى وول ستريت، وهو ما أدى إلى زيادة قيمة الأصول المالية وعزز تشكيل فقاعات المضاربة.
في عام 1999 أثار قلق المحللين الماليين "اقتراب الدورة الإئتمانية العالمية التي تعود أصولها إلى بداية الثمانيينات من القرن الماضي من بلوغ حدودها القصوى" (أي قرب انفجارها) وتم التأكيد على أن " التفسير الأقوى للنمو السريع لكل من الناتج المحلي الإجمالي والإنتاجية في السنوات الأخيرة، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، هو دورة الإئتمان مفرطة النشاط".
 رغم ذلك لم يتم قلب مجرى الأمور، فحتى انفجار الفقاعة الاقتصادية الجديدة تم امتصاصه بسرعة، إذ تبين أن الركود الاقتصادي الأمريكي الذي بدأ في مارس 2001 كان قصيراً، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الضخ الهائل للسيولة في النظام بعد 11 سبتمبر وتخفيض أسعار الفائدة التي دُفعت إلى أدنى مستوى في الأربعين سنة الماضية. هنالك أمران جعلا من هذه السياسة ممكنة: أولاً، انخفاض مستويات التضخم الناجمة عن القيود على أسعار السلع المستوردة من البلدان الناشئة، وقبل كل شيء بسبب تخفيض الأجور. ثانياً، وضع الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية "العملة العالمية" على الرغم من خسارة الميزان التجاري منذ عام 1976. غذّى انخفاض أسعار الفائدة عملية الإئتمان وعلى وجه الخصوص فقاعة العقارات، حيث تضاعفت أسعار المساكن ومبالغ الرهون العقارية الممنوحة للعائلات الأمريكية بين عامي 2000 و2005؛ ثم في عام 2006 وبسبب انخفاض أسعار المساكن أصبحت قروض الرهن العقاري غير قابلة للسداد. في بداية النصف الأول من عام 2007، بدأت مبيعات السندات المالية المرتبطة بقروض الرهن العقاري تؤثر سلباً على قيمتها، مشعلة فتيل الأزمة بذلك.
الوظائف الثلاث لـ(لتحول المالي):
إذاً، إن مستوى وعمق الأزمة الحالية ليس بالأمر المفاجئ، إنها نتاج النمو الضعيف لأكثر من ثلاثين عاماً وصعوبة تعظيم رأس المال (تحقق رأس المال)، مما دفع للإلتجاء نحو رأس المال الربوي بشكل ضخم، أي التحول المالي كحل للأزمة.
لقد حققت الطفرة في القطاع المالي وقطاع الإئتمان ثلاث وظائف. أولاً، خففت من آثار تخفيض الأجور، ثانياً، أجلت اندلاع أزمة فيض الإنتاج في القطاع الصناعي، ثالثاً، زودت القطاع الصناعي برأس المال، مع توفير بدائل استثمارية ذات ربحية عالية، في الوقت الذي عانى فيه هذا القطاع من أزمة تعظيم رأس المال. لندرس الوظائف الثلاث هذه على نحو أعمق:

1- القروض المقدمة للعائلات. كتب جون بلندر في صحيفة فاينانشال تايمز في 8 أبريل، 2008 "إن السمة البارزة لعصر السوق الحرة والتفاوت الاجتماعي الذي ابتدأ منذ ١٩٨٠، هو تواضع رد فعل الناس اتجاه ركود دخولهم في قسم كبير من اقتصادات الدول المتطورة"، وقدم شرحا لهذه الحالة: أصبحت مستويات معيشة الناس "غير مرتبطة ومنفصلةً عن مستويات دخلها". ففي الولايات المتحدة خصوصاً، غذّت السياسة النقدية التوسعية للبنك الاحتياطي القروض الاستهلاكية وخلقت فقاعات المضاربة وفقاعة الرهن العقاري، مما سمح للعائلات بالاستدانة وفق معدلات مقبولة. خلق الارتفاع في قيم العقارات، شعوراً بتزايد الثروة، مما سمح بتقديم الرهون العقارية المشتقة، التي تضمنها العقارات المسحوب بضمانتها قروض أساساً، مقابل الحصول على القروض الاستهلاكية، وهي ظاهرة سميت بـ"استخراج ملكية الأسر" . كانت النتيجة هي العمل على خلق المستحيل لتحقيق حلم كل رأسمالي: الأجير الذي يتضاءل أجره يستمر بالاستهلاك كما كان قبل انخفاض أجره لا بل أكثر. العديد من الدول كانت سعيدة بهذا الوضع، بدءاً بالدول المصدرة مثل ألمانيا والصين واليابان وحتى إيطاليا، لذلك استمرت الأمورعلى ماهي عليه حتى بدأت أسعار العقارات والمنازل المبنية من ورق الشدة (ومن بطاقات الإئتمان أيضاً) بالتهاوي....

2- القروض المقدمة للشركات: لم يخفف الإئتمان الضغط على العائلات الأمريكية فقط، وإنما قدم عوناً كبيراً للشركات في جميع أنحاء العالم. تعد صناعة السيارات مثالاً ساطعاً هنا، حيث بلغ فيض إنتاجها ما يفوق الـ20 مليون سيارة سنوياً في بداية العقد، فكيف استطاع  مصنعو السيارات الصمود كل هذه السنوات؟ من جهة قاموا ببيع السيارات بالتقسيط بحيث يستطع المستهلك امتلاك السيارة(بمعدل فائدة صفري)، وقاموا بالتفاوض لتغيير مواعيد سداد ديون شركاتهم بالاستفادة من معدلات الفائدة المنخفضة بشكل استثنائي (والتي لولا تدنيها لانهارت هذه الشركات تحت ثقل ديونها الضخمة). من جهة أخرى، حالهم حال الصناعيين في القطاعات الأخرى، توقفوا عن السعي لتحقيق الأرباح من خلال الأنشطة التقليدية (استثمار حقيقي ملاحظة من المترجم)، واتجهوا إلى العمليات المالية بدلاً من ذلك.

3- المضاربة لتعظيم رأس المال: منذ ثمانينيات القرن الماضي، جعلت الطفرة المالية والإئتمانية من  الممكن المضاربة بهدف الحصول على مستويات أرباح مستحيلة في الحالة الطبيعية. قبيل أزمة عام 1929، وصف هنريك غروسمان (1929) مضاربات سوق الأسهم بأنها تصدير لرأس المال إلى الداخل، بشكل يوازي "التصدير الأجنبي لرأس المال"، حيث إنهما يقومان على الأساس نفسه من حيث الجوهر: أزمة تعظيم (استثمار) رأس المال في القطاعات الصناعية المنتجة. بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، أصبح التوجه منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي نحو زيادة الأرباح المالية دون أي علاقة بحالة الناتج المحلي الإجمالي والأرباح من الأنشطة الأخرى، فعلى سبيل المثال حصل القطاع المالي خلال السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي على ما يقارب نسبة 10% من إجمالي الأرباح، بينما ارتفعت هذه الحصة إلى 40% في عام 2007 .
إن وظائف التمويل المذكورة أعلاه تتوافق مع مفهوم ماركس للإئتمان كإحدى الوسائل الأساسية التي يعمل عبرها رأس المال على تجاوز حدوده الخاصة. فمن خلال الإئتمان "يتم توسيع حدود الاستهلاك عبر جبر (قصر)عملية إعادة الإنتاج نفسها. فمن جهة، يزداد استهلاك الدخل من جانب العمال والرأسماليين، ومن جهة أخرى، فإن ذلك يعني حصول الاستهلاك الإنتاجي". وعلاوة على ذلك، فان الإئتمان "يدفع الإنتاج الرأسمالي إلى أبعد من حدوده" عن طريق تحرير "كل من رأس المال المتاح والكامن في المجتمع الذي لم يتم استخدامه أو توظيفه من قبل في عملية الإنتاج " والمقصود هنا ليس فقط الرأسمال العائد إلى الرأسمالي، بل أيضاً رأس المال الموجود لدى الآخرين، والذي كان سيبقى غير مستثمر. لهذا السبب بالتحديد يلاحظ ماركس أن فيض الإنتاج قد يعزا للإئتمان "إذ تبين أن الائتمان هو الرافعة الأساسية لفيض الإنتاج ولزيادة التجاوزات والمضاربة في التجارة، فهذا يحدث فقط بسبب الدفع قصراً بعملية إعادة الإنتاج المرنة بطبيعتها إلى أقصى حدودها". بفضل الإئتمان أصبح من الممكن دفع عملية الإنتاج إلى خارج حدود الاستهلاك (وهذا بسبب قدرة الدفع الفعلية) ولكن في النهاية تتعرض عملية الإنتاج للتوقف لتثبت الأزمة الناتجة بأن هذا الحد لا يمكن تجاوزه. وبالنتيجة فإن السلع لن تباع ويبدأ التأخير في السداد ويتوقف التداول في عدة نقاط، لتتعطل المنظومة بأكملها بسبب تحملها أكثر من طاقتها.
طالما أن عملية إعادة الإنتاج مستمرة وبالتالي تدفق العوائد مضمون، فإن الإئتمان موجود ويتسع، ويعتمد توسعه على توسع عملية إعادة الإنتاج نفسها. وبمجرد حدوث أي توقف أو انسداد، نتيجة تأخر بتدفق العوائد، الأسواق المتخمة أو انخفاض الأسعار، تظهر وفرة زائدة برأس المال الصناعي ولكن تحت شكل لا يمكن عبره أن يمارس وظائفه. حيث تتواجد كميات هائلة من رأس المال على شكل بضائع غير قابلة للبيع وكميات ضخمة من رأس المال الثابت بلا عمل  بسبب ركود عملية إعادة الإنتاج.
عند الوصول إلى هذه المرحلة، يبدأ الإئتمان بالتقلص مما يفرض قيوداً على منحه وتزداد طلبات الحصول على السيولة مما يساهم في جعل الأزمة تبدو وكأنها أزمة نقدية وإئتمانية، وفي هذا يقول ماركس "إن حقيقة توقف العملية برمتها على توافر الإئتمان في لحظة الافتقار إليه بشكل مفاجئ ووجوب سداد جميع الاستحقاقات نقداً فقطً، فيبدو واضحاً أنه لا بد من وجود أزمة إئتمان وافتقار لوسائل السداد. كوضوح حقيقة أن الأزمة تبدو للوهلة الأولى برمتها كأزمة إئتمانية ونقدية ". بالحقيقة يوجد "تبادلات احتيالية ظهرت إلى العلن بعد انفجارها، وتتمثل بمضاربات أُجريت بأموال الآخرين وكانت نتائجها مأساوية"، علاوة على ذلك تبقى البضائع كاسدة وبالتالي تخسر قيمتها والأرباح المتوقعة "لايمكن تحقيقها ثانية".
يرى ماركس أن جوهر أزمة الإئتمان والنقد (والتي نسميها في يومنا هذا "الأزمة المالية") وفشل المضاربات الحاصلة لحظة اتساع الإئتمان إلى حدوده القصوى، يكمن في أزمة فيض الإنتاج وأزمة تحقق رأس المال8. الأمر الذي ينطبق على الأزمة التي ضربت في عام 2007، فقد نشرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) دراسة في أيار 2009 أظهرت فيها أن إنتاجية العمل كانت تتباطأ قبل اندلاع الأزمة بوقت طويل9 . نجد أن هذا التباطؤ قد بدأ في قطاع البناء الأمريكي "قبل سنتين إلى أربع سنوات من الأزمة"، ليبلغ معدل 12% في 2007 مما شكل مؤشراً على وجود "مشكلة فائض بالعرض جدية".
خلال فترة من الزمن بدا أن "هناك حاجة ماسة لإنعاش هذا التباطؤ من خلال تسهيل شروط الإئتمان، الأمر الذي سيعوض المشاكل التي يعاني منها جانب العرض. لكن الجانب الحقيقي من الاقتصاد ألقى بظلال مشاكله في نهاية المطاف". نضيف إلى ذلك أنه بين عام 2006 و2007 سجلت الإنتاجية في اليابان وأوروبا تباطؤاً ملحوظاً، حيث خلصت الدراسة، وإن بشكل دبلوماسي، بأن : "البيانات أظهرت، بعد هذا التحليل المختصر، أن التراجع الاقتصادي الحالي ليس ناتجاً عن الأزمة المالية فقط، فالعلاقة بين الظاهرتين أكثر تعقيداً.
ويؤكد أيضاً بول كروغمان أن الانخفاض الحاصل في الاستثمار هو على الأقل ردة فعل على فيض القدرة. وبالتوازي مع هذا يقول باتريك أرتوس في أحد تقاريره وهو كبير الباحثين في معهد ناتكسيس (Natixis): "كان العالم يعاني من فيض في عرض السلع والخدمات منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي".
إذاً، لقد سبقت أزمة فيض الإنتاج انفجار فقاعة الإئتمان. إلا أن فقاعة الإئتمان أخفت الأزمة، وعند انفجارها أعطت انطباعاً بأنها سبب الأزمة. لأن فائض الإئتمان في القطاع العقاري الأمريكي لم يكن سوى رأس جبل الجليد لاتجاه أكثر عموميةً، فقد كانت الأزمة تتسارع بشكلٍ دراماتيكي، والتي ساهم بها انخفاض قيمة الأوراق المالية بشكل كبير والتي بيعت بأي ثمن لتسديد الديون، (تم شراء العديد من الأصول المالية عبر القروض التي كان يأمل سدادها من أرباح تلك الأصول كما حدث سابقاً). هذا التحول في الأحداث المالية وصفها بدقة هيمان منسكي، وإيرفينغ فيشر قبله في ما يتعلق بأزمة عام 1929.

الأزمة وتدمير رأس المال

أظهرت الأزمة منذ عام 2007 صفات الأزمة الحقيقية المعممة، مدمرةً كميات هائلة من رؤوس الأموال في جميع أنحاء العالم. بالنسبة لماركس، إن تدمير رأس المال ووسائل الإنتاج لابد منه خلال أي أزمة من أجل استعادة الأرباح وإعادة تحقيق التراكم من جديد. هذا يعني أن البطالة المتزايدة وانخفاض الأجور والإفلاس أدى إلى تركز الشركات، وانخفاض قيمة السلع الرأسمالية والآلات والمواد الخام اللازمة لتحسين هوامش الربح للرأسماليين.
هناك نوعان من التدمير. من جهة "طالما أن عملية إعادة الإنتاج متوقفة والعمل محدود لا بل متوقف كلياً في بعض الأحيان، فإن رأس المال الحقيقي يتلف [...] الحالة التي يتواجد بها الإنتاج [...] لا يتم وضعها موضع التشغيل"، وبالتالي فإنها تفقد كلاً من قيمتها الاستعمالية وقيمتها التبادلية. يتمثل الجانب الثاني من تدمير رأس المال بـ "الانخفاض الحاد لأسعار السلع" في هذه الحالة "القيمة الاستعمالية لا تتلف. ما يخسره أحدهم، يكسبه أحد آخر [...] جزء كبير من رأس المال الاسمي للمجتمع، أي القيمة التبادلية للرأسمال الموجود، قد دُمر بشكل كلّي" (Marx 1861-63/1967: 496). يصر ماركس على حقيقة أن "تهاوي رأس المال الوهمي والسندات الحكومية" "وما إلى ذلك يؤدي في حد ذاته إلى" نقل للثروة من يد إلى أخرى "ولكن ذلك لا يؤدي إلى تدمير حقيقي لرأس المال، على الأقل طالما أنه لا يسبب "إفلاس الدولة والشركات المساهمة" وما ينتج عنه من إبطاء عملية إعادة الإنتاج. إن شكلي تدمير رأس المال اللذين قدمهما ماركس واضحان بشكل كبير اليوم. ويتجلى تدمير رأس المال الحقيقي بالتحديد في سقوط الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2009 (وهو أول انخفاض له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، وفي تهاوي التجارة الدولية، وفي انخفاض معدلات توظيف القدرات الصناعية في العديد من البلدان، وفي الزيادة الهائلة في حالات الإفلاس، وفي الارتفاع المذهل لمعدلات البطالة حول العالم.
والسؤال هنا هو إذا ما سيكون دمار رأس المال آنف الذكر كافياً لاستعادة ظروف أفضل لربحية رأس المال المستثمر، وبالتالي تمكين واستئناف التراكم. الجواب غير واضح، ولكن شيئاً واحداً مؤكد: نحن نواجه سيناريو كساد أسوأ بكثير من فترات الركود في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.

الخلاصة: عودة المكبوت

هذا الوضع لا يترك مجالاً للشك بأن سخرية ماركس الموجهة إلى أولئك الذين ادعوا أن "أسوأ ما في الأزمة قد انتهى" ستكون مناسبة أيضاً بالنسبة للعديد من التصريحات المعاصرة للاقتصاديين والسياسيين ورجال الأعمال. في هذه اللحظة، يمكننا أن نؤكد أن التحول الهائل للدين الخاص إلى دين عام والذي جاء استجابة للأزمة (بسبب المساعدات المالية الحكومية (bailout) الضخمة للقطاع المصرفي وتدخلات الإنقاذ التي تكلف مئات التريليونات من الدولارات)، لم تتمكن حتى الآن من تحقيق الانتعاش الاقتصادي بل تضع الأسس لأزمة دين لاحقة: أزمة الديون السيادية. النتيجة المحتملة هي أزمة مالية حادة للدولة والحد المتزايد من دورها في الاقتصاد بشكل دراماتيكي، فاسحةً المجال للشركات الخاصة الكبيرة.