الاتحاد الأوروبي: عثرة في طريق النهوض اليوناني (2/2)
كان هناك جدال واسع في اليسار الأوروبي يتعلق باستراتيجية خروج من منطقة اليورو، واحتمال من الاتحاد الأوروبي. ولقد اتهم العديدون هذه الاستراتيجية بكونها محلية أو شوفينية، أو بكونها تهدف نحو ازدياد التنافس الاقتصادي. ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن الحقيقة.
بالنظر إلى الحالة اليونانية كمثال، فإن استراتيجية كهذه ليست استراتيجية لزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد اليوناني، من خلال تخفيض العملة وزيادة الصادرات. إذ إن إجراءات ضرورية مثل تصحيح سعر الصرف تهدف لحماية المجتمع اليوناني من العنف المنظم المتأصل في رأس المال الدولي والعائدات السلعية. وليس للأمر علاقة بدورة التخفيضات التنافسية، مقابل دول أخرى من الجنوب الأوروبي.
نحن نعرف، من خلال تجربة اليورو ومن الأنظمة الأخرى لمعدل الصرف الثابت (مثل ثبات الدولار) بأن عملة موحدة تؤدي دائماً إلى تناقص بالأجور الحقيقية، وإلى إجراءات التقشف والخصخصة، والضغط المستمر لإصلاحات الليبرالية الجديدة، تحت مسمى الاستجابة للضغوط التنافسية. الخروج من مثل هذه التكوينات النقدية هي ليست إستراتيجية لـ «عزلة»، وإنما دفاع ضروري ضد سياسات رأس المال العدوانية. إضافة لذلك سيكون من الخطأ القبول تحت مسمى «العالمية» بالصيغة الرأسمالية الحالية لتدويل الإنتاج، حيث أن المنتج يجب أن يتجول حول العالم، ويمر عبر مناطق «الإغراق الاجتماعي» ومناطق اقتصادية خاصة. ويكون له تأثير بيئي سلبي، وذلك لكي يصل إلى أسواقنا. أليست المحلية، والحماية البيئية، والاكتفاء الذاتي النسبي هي كلها ملامح أساسية لأي بديل محتمل مناهض لرأس المال؟
تعنت بائس بفكرة الاتحاد الأوروبي
سيكون من الخطأ اليوم تحديد العالمية بتقديم موافقتنا لمشروع إمبريالي ونيوليبيرالي عدواني. بالإضافة لذلك، علينا ألا ننسى أبداً بأن التكامل الأوروبي هو إستراتيجية طبقية من جانب النخبة الرأسمالية، ولذلك ليس هناك من معنى للدلالة القَدَرية والقطعية للصفة غير الرجعية التي يوسم بها. وخاصة أن مثل هذا الإصرار على حتمية التكامل الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى تغييرات أساسية في الاتجاه السياسي. إذ أنه من الممكن أن يودي بسهولة إلى التحول من مقاومة أولية لموقف جذري يصب في مصلحة «تفكك» الاتحاد الأوروبي من خلال الصراع المناهض لرأس المال في عموم أوروبا إلى موقف أكثر «واقعية»، يصب في مصلحة «أوروبا أخرى».
إحدى أهم مشاكل اليسار في أوروبا اليوم هو هوسها بأوروبيتها، ورفضها لمجرد التفكير باحتمالية الانشقاق عن عملية «التكامل الأوروبي». ويمكن للمرء أن يشهد هذه المشكلة في حدود استراتيجية حزب «السيريزا» (وهو حزب اليسار الأكثر راديكالية) في اليونان. فاتخاذه لكل القيود المفروضة من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو كمسلمات، لا يترك مجالاً للسياسات الراديكالية، ولا كذلك بالمطالبة بإعادة التفاوض على شروط اتفاقية القرض باتجاه بعض أشكال «التقشف بوجه إنساني»، أو بمطلب «خطة مارشال» لأوروبا. في الأشهر الماضية شاهدنا حزب سيريزا يتحرك بثبات نحو اليمين، معلناً في الحكومة بأنهم سوف يعاودون دفع الجزء الأكبر من الدين، بعد إعادة المفاوضات وبأنهم سيبقون ضمن اليورو بأي ثمن (متخلين عن موقفهم الرسمي لـ «عدم التضحية باليورو»)، في محاولة لصياغة الارتباطات مع أكبر المصارف وأضخم الشركات.
إن مواقف كهذه لن تودي إلى «إعادة التفاوض» الذي تأمل به قيادة «سيريزا»، وإنما إلى ضغط أكبر من جانب الاتحاد الأوروبي والترويكا لمزيد من إجراءات التقشف. إن المشكلة مع قيادة «سيريزا» ليس بأنهم «يسار إصلاحي»، بمعنى أنهم ليسوا عسكريين بما فيه الكفاية، أو بمعنى أنهم اختاروا «النهج التدريجي». بل المشكلة أنهم يرفضون ضرورة التخلي السياسي والاجتماعي عن «الاتحاد الأوروبي»، كما لو أنه تكثيف لإستراتيجية البرجوازية.
مثل هذا الرفض لصياغة خط سياسي ضد الاتحاد الأوروبي يترك فراغاً أساسياً مفتوحاً للتيارات اليمينية المتطرفة لصياغة رؤيتها الرجعية الخاصة لمفهوم «التشكيك الأوروبي»، بالرغم من تنامي الاحتقان لدى قطاعات واسعة من المجتمعات الأوروبية ضد الليبرالية الجديدة، والسمة العدوانية وغير الديمقراطية للاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من تزايد العداء ضد اليورو كعملة موحدة، ورغم تنامي الفكر الرافض للاتحاد الأوروبي كذلك، فمعظم أحزاب اليسار الأوروبي لم تبذل أي جهد خاص لتحويل هذه المشاعر إلى منهج متقدم معاد للرأسمالية ومناهض للاتحاد الأوروبي.
في فرنسا، وضمن كل من «جبهة اليسار» والحزب الجديد المناهض للرأسمالية هناك أصوات تدعو لإستراتيجية التفكك ضمن الاتحاد الأوروبي. وفي اليونان، ليس فقط جبهة اليسار المناهض للرأسمالية وغيرها من الجماعات الراديكالية، وإنما أيضا منصة اليسار ضمن حزب سيريزا قد أكدت على استراتيجية لخروج اليونان من منطقة اليورو واحتمالية الخروج من الاتحاد الأوروبي. في قبرص أيضاً، حتى الحزب الحاكم «أكيل» يقوم بتغيير مواقفه ببطء بعد التجربة الكارثية في العام 2013. ألمانيا كذلك الأمر، تعلو فيها أصوات عديدة ضمن الحزب الشيوعي الألماني «دي لينك» منتقدة العملة الموحدة. وفي بريطانيا، ما يزال هناك كثير من أصوات اليسار تصر على موقف مناهض للاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فمن الخطأ أن ينظر إلى الأمر على أن الخروج من منطقة اليورو واحتمالية الخروج من الاتحاد الأوروبي هو العلاج النهائي لكل المشاكل الاجتماعية، كما سيكون من الخطأ كذلك الاستخفاف بأهمية مثل هذه المسائل. مناهضة الرأسمالية لا يمكن اتخاذها كمفهوم مجرد إطلاقاً، بل ينبغي أن يتم التعبير عنها وتجسيدها في قضايا وتحديات خاصة.
مسألة اليورو والاتحاد الأوروبي
اليوم، وضمن اليسار الأوروبي، مسألة موقف مثل الوقوف «وجهاً لوجه» ضد الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو ترسم خطاً ضرورياً لتعيين الحدود، بالإضافة إلى أنه وكما يظهر تاريخ حركة العمال، فإن المسألة المتعلقة بالتنسيق بين الصراعات على المستوى الوطني والترتيب للنظام الدولي، لطالما كانت نقاطاً لتناقضات مكثفة واختباراً جدياً لقدرة اليسار على أن يكون معادياً حقيقاً لإستراتيجية رأس المال .
في الوقت ذاته، محاولة تصور هذا النوع من البديل، ليس فقط بمعنى «اعتماد مصطلحات» حول قوة العمال ولكن بمعنى صياغة نهج من الممكن أن يكون معادياً للمنهج النيوليبرالي المهيمن، يتطلب ترتيباً دقيقاً مع المشاكل واستراتيجية رئيسية لمعظم موجات اليسار المعاصر، مما يستدعي ما يلي:
* صياغة البرنامج بمقترحات جذرية محددة، تأخذ بعين الاعتبار الخبرة والمعرفة من الحركات (والاتجاهات الأساسية لتعيين الحدود من مثل إلغاء الديون، الخروج من اليورو والاتحاد الأوروبي، التأميم وإعادة توزيع الدخل، تطبيق صيغ تحكم اجتماعي ديمقراطي وغيرها..).
* الإصرار على تصعيد النضالات واستراتيجية «حرب الناس المطولة»، لأنه من المستحيل أن يكون هناك أي تغيير سياسي بدون حركة قوية من القاعدة، و من دون تحالف سياسي واجتماعي واسع يكون واثقاً من قدرته على خوض غمار نضالات منتصرة.
* الحاجة للعمل على إستراتيجية من الممكن أن تدمج محاربة الحكومة لليسار، اعتماداً على برنامج انتقالي ملح، مع أشكال من التنظيم الذاتي، والإدارة الذاتية، وحكم العمال والتضامن من القواعد.
* التجريب بأشكال جديدة من التنظيم السياسي، كخلفية لنموذج من فئة المناهضين للرأسمالية، وكذلك الجبهة الانتخابية، وبدون عمل مبرمج أو عملية ديمقراطية، باتجاه إعادة تعريف بالأحزاب السياسية والجبهات، مثل مختبرات الكتل السياسية الأساسية الفكرية، وعمليات التعلم، ومواقع قادرة أن تنتج بشكل فعلي أنماطاً بديلة للمجتمعات.
ولأن اليوم، على الأقل في الـ «الروابط الضعيفة في السلسلة» مثل اليونان، إن التحدي ليس بالمقاومة بل بالهيمنة. وبمواجهة أزمة حادة من الهيمنة، والتي سببتها كل من أزمة الليبرالية الجديدة والاحتجاج المؤثر ودورة الخصومات ذات السمة التمردية بمعظمها، أزمة هيمنة والتي لا يمكن أن يتم تزييفها من قبل التكتيكات الليبرالية الحالية الساخرة المعتمدة من قبل البرجوازية الأوروبية.
رفض الـ «الطريق الأوروبي» و«مشروع التكامل الأوروبي»، وهو الخيار الاستراتيجي الرئيسي للبرجوازية الأوروبية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل أساسي، وهي سمة لا غنى عنها، لأي محاولة باتجاه مفهوم اجتماعي جديد للقرن الواحد والعشرين.
*باناجيوتيس سوتيرس: مدرس للنظرية الاجتماعية والفلسفة السياسية والاجتماعية في قسم علم الاجتماع في جامعة أثينا. هذا النص قائم على أطروحة في اجتماع الجبهة اليونانية المناهضة للرأسمالية في المملكة المتحدة (29/3/2014).