الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (4/4)

الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (4/4)

البرنامج العملي لتجاوز الاغتراب

بما أنّ الاغتراب حالة خاصة من التموضع، ملازمة للملكية الخاصة، فهذا يعني أنّ بلوغها ذروة تطوّرها في الرأسمالية يفتح الإمكانية أمام تجاوز الاغتراب من خلال نفي الملكية الخاصة، ويستنتج ماركس أن: «انعتاق المجتمع من الملكية الخاصة.. من العبودية، يجد التعبير عنه في الشكل السياسي من انعتاق العمّال. هذا ليس لأنّها مجرّد قضية انعتاقهم، بل لأنّه في انعتاقهم يكون ضمناً الانعتاق الإنساني الشامل. وسبب هذه الشمولية هو أنّ عبودية البشر برمّتها متضمَّنةٌ في علاقة العامل بالإنتاج، وجميع علاقات العبودية ليست إلا تعديلات وعواقب لهذه العلاقة».(1)

ومن هذه العواقب العبودية للاستعمار المباشر، فاحتلال الأرض يتضمّن على الأقل استلابها بوصفها وسيلة إنتاج. وكذلك العبودية للاستعمار غير المباشر، والذي يتجلى اليوم من خلال الرضوخ إلى الإذلال الشامل الذي تفرضه السياسات النيوليبرالية المرتبطة بالإمبريالية. ويدخل في مشتقاتها أيضاً ضيق الحريات السياسية والديمقراطية، واستلاب حقّ المواطنة من جزء من المواطنين أغلبهم من الكادحين والفقراء، مما يزيد اغترابهم في وطنهم. وهكذا فإنّ اشتقاق جميع علاقات العبودية السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية من جذر واحد (عبودية العامل للرأسمال)، يعني أنّ الاشتراكية، بوصفها الانعتاق السياسي للعمّال، هي المفتاح لحلّ أزمة الاغتراب(2)، لأنّ ممارسة العمّال للسلطة تعني توزيع الثروة لمصلحتهم، أي إعادة العمل المستَلَب إلى أصحابه. ولكن حتّى في الاشتراكية يظلّ التجاوز الصحيح للاغتراب رهناً باكتشاف قوانينها وتفسيرها بشكل صحيح من أجل التحكّم بها لمصلحة العمّال وبالتالي لمصلحة الإنسانية. وفي تاريخ التجربة الاشتراكية للاتحاد السوفييتي، نجد مَنْ اعتبر أنّ القانون الاقتصادي الأساسي في الاشتراكية هو «نمو وتحسين إنتاج الظروف المادية والثقافية للمجتمع بشكل مستمر»(3)، وهو فهمٌ خاطئ للقانون، لأنّه يحوّل الإنتاج من وسيلة إلى هدف، ويجعل نمو الإنتاج من أجل نمو الإنتاج فقط (أي التموضع من أجل التموضع) وبذلك يبقى اغتراباً، كونه يَعتبر الإنتاج هو الغاية، ولا يكترث بالإنسان وحاجاته. ولكن في التّجربة السابقة نفسها، نجد أيضاً مَنْ اعتبر أنّ القانون الاقتصادي الأساسي في الاشتراكية يتمثّل في أنّ: «..تأمين الإشباع الأعلى للحاجات المادّية والثقافية المتنامية لكامل المجتمع هو هدف الإنتاج الاشتراكي، وتحسين الإنتاج الاشتراكي بشكل مستمر على قاعدة التكنيك العالي هو الوسيلة لتحقيق هذا الهدف».(4) وهو الفهم الصحيح للقانون، لأنّه يضع الإنسان وحاجاته المختلفة كغاية تتحقق عبر النشاط الإنتاجي الاشتراكي، والذي يكون هنا وسيلة وغاية معاً (تموضعاً إنسانياً)، كون العمل مشمولاً ضمن قائمة الحاجات الإنسانية. ولنلاحظ هنا أنّ صيغة « أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية»(5) تتوافق مع الاشتراكية لأنّها تعبّر عن جوهر قانونها الاقتصادي الأساسي. وننوّه بأنّ صاحب الرأي الأول (الخاطئ) اسمه ياروشينكو، أما صاحب الرأي الثاني (الصحيح) فاسمه جوزيف ستالين. ويذكر ستالين في معرض انتقاده لأخطاء ياروشينكو، أنّه بعد تنفيذ جميع الشروط الأساسية للانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية «نستطيع أن نكون واثقين من أنّ العمل سوف يتحوّل في نظر أفراد المجتمع، من عبء إلى (حاجة أولية حيوية) (ماركس)»(6)؛ أي أنّه، وبلغة موضوعنا، سوف يستكمل انعتاقه من كونه عملاً مستلَباً فيصبح عملاً إنسانياً. وهكذا فإنّ الشروط الأساسية لتجاوز الاغتراب على نحو ناجز، هي الشروط الأساسية للانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، وقد حدّدها ستالين بما يلي(7):

1 – تأمين النمو المطَّرد لكامل الإنتاج الاجتماعي، وبالدرجة الأولى نمو إنتاج وسائل الإنتاج.

2 – رفع مستوى الملكية الكولخوزية(8) إلى مستوى الملكية الشعبية العامة.. واعتماد أسلوب تبادل المنتوجات بشكل تدريجي بدلاً من التبادل البضاعي كي تستطيع السلطة المركزية أو أي مركز اجتماعي-اقتصادي آخر الإحاطة بكل منتوجات الإنتاج الاجتماعي لمصلحة  المجتمع.

3 – تحقيق مستوى من النمو الثقافي للمجتمع، يؤمّن لكل أفراده إمكانية التطوير الشامل لقدراتهم الجسمانية والفكرية ... حتى يتمكَّنوا بحرية من اختيار المهنة التي تناسبهم، لا أن يبقوا مُقيَّدين بمهنة واحدة بحكم توزيع العمل الموجود.

ولأخذ فكرة عن النشاط الإنساني في الشيوعية، حيث التموضع الإنساني المنعتق من الاغتراب، نذكر كيف تصوّره ماركس:

«لنفترض بأننا نفَّذنا الإنتاج ككائنات إنسانية. كلّ منّا سيكون قد أثبت نفسه والشخص الآخر بطريقتين:

 1) في إنتاجي سأكون قد مَوضَعتُ فرديّتي، طابَعَها الخاصّ، وبالتالي تمتّعت ليس فقط بتظاهرٍ فردي لحياتي في أثناء النشاط، بل وكذلك عندما أنظر إلى الشيء، سوف أشعر بالسعادة الفردية في معرفة أنّ شخصيّتي موضوعية، مرئية للحواس وأنّها بالتالي قوّة دون أدنى شك.

2) في تمتّعك أو استعمالك لمنتوجي أكون قد حصلت على المتعة المباشرة في كلّ من كوني أعي أنّني قد أشبعت حاجة إنسانية بعملي، أي بأنّني قد مَوضَعتُ طبيعة الإنسان الجوهرية، وبأنني بذلك قد خلقت شيئاً يستجيب لحاجة طبيعة الإنسان الجوهرية لدى شخص آخر. ... منتوجاتنا سوف تكون بذلك مرايا كثيرة نرى فيها انعكاس طبيعتنا الجوهرية.» (9)

وبالنتيجة فإنّ الاشتراكية (كمرحلة انتقالية ثمّ كاشتراكية ناجزة - شيوعية) هي الحلّ لأزمة الاغتراب:

«الشيوعية هي الإزاحة الإيجابية للملكية الخاصة كاستلاب ذاتي للإنسان، وبالتالي هي الامتلاك الصحيح للجوهر الإنساني... وتحدث في إطار كلّ ثروة مراحل التطور السابقة... إنّها الحلّ الحقيقي للصّراع بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان... بين التموضع وإثبات الذات، بين الحرّية والضرورة، بين الفرد والنوع. إنّها الحلّ لأُحجية التاريخ وتَعْلَم نفسها بأنّها هي الحلّ».(10)

الهوامش:

ماركس، مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، المخطوط الأول، الفصل العاشر (العمل المُستَلَب)

حول الاغتراب السياسي انظر الموضوعة 17 من «الموضوعات البرنامجية للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين»، التي أقرها الاجتماع الوطني التاسع للجنة، دمشق 26/11/2010.

ريتشارد كاسالابوف، «الكلمة الآن للرفيق ستالين»، ترجمة: عبد الرؤوف الخطيب، تقديم ومراجعة: د. قدري جميل، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ط1، 2011، ص 238 – 239.

المصدر السابق، ص 238.

انظر الموضوعتين 23، و28 من «الموضوعات البرنامجية للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين».

«الكلمة الآن للرفيق ستالين»، ص233.

المصدر السابق، ص 232.

الكولخوزات: مزارع تعاونية جماعية كانت تقدم فيها السلطة السوفييتية الأراضي ووسائل الإنتاج الزراعي للفلاحين مقابل تنفيذ التزاماتهم تجاه الدولة. أمّا السوفخوزات فهي مزارع اشتراكية تابعة للدولة تكونت مع بداية قيام السلطة السوفييتية يعمل فيها عمال زراعيون مقابل أجر يتناسب مع عملهم.

ماركس، «تعليقات على جيمس ميل»، كتبه ماركس في النصف الأول من 1844.

ماركس، مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، المخطوط الثالث، الفصل الثاني (الملكية الخاصة والشيوعية).