التداعيات الإقليمية للأزمة السورية..  السعودية تواجه لحظة سوريّة تاريخيّة!

التداعيات الإقليمية للأزمة السورية.. السعودية تواجه لحظة سوريّة تاريخيّة!

الأزمة السورية الراهنة تضع العربية السعودية على مفترق طرق في مواجهة لحظة تاريخية حاسمة قد تقرر مستقبل التضامن والاستقرار العربي لفترة طويلة مقبلة لاستثمار وزنها القيادي الإقليمي وثقلها الدولي لمنع التدخل الأجنبي في سورية أو لمنح «شرعية عربية» له..

العرب.. والتدخل الخارجي ضد سورية

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي إن الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي انعقد بالقاهرة (مؤخراً) كان سيتخذ «موقفاً جديداً» بشأن تطورات الوضع في سورية. ومن المتوقع أن يتساءل المراقبون والمعنيون عن هذا «الجديد» وعما إذا كان يتضمن التمهيد لـ«التدابير الفورية» التي دعت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نافي بيلاي، «المجموعة الدولية» إلى اتخاذها «بطريقة جماعية وحاسمة» لمنع «حرب أهلية فعلية». ولم يستبعد روبرت كولفيل، المتحدث باسم بيلاي، تكرار السيناريو الليبي في سورية بقوله إن «هذا قرار يبت فيه مجلس الأمن» الدولي.

وإذا كان تصريح بيلاي يوفر مسوغاً دولياً لتدخل مجلس أمن الأمم المتحدة، فإنه سوف يظل غير كاف لتدخل كهذا في ضوء أن الاختراق الوحيد الممكن للدرع الدبلوماسي الذي أقامته روسيا والصين ضد أي غطاء من شرعية الأمم المتحدة للتدخل العسكري الأجنبي في سورية، يكرر السيناريو الليبي، يتمثل في تكرار الضوء الأخضر العربي الذي منحته الجامعة العربية لتدخل حلف «الناتو» العسكري في ليبيا، حيث أن منح شرعية عربية للتدخل الأجنبي في سورية سوف يكون كافياً للولايات المتحدة الأميركية وتوابعها الأوروبيين المحرضين على هذا التدخل والمتحفزين له للاستغناء عن شرعية الأمم المتحدة.

وأمين عام حلف الناتو، أندرس فوغ راسموسن، سوف يكون على الأرجح أكثر ترقباً لـ«جديد» من هذا النوع في الموقف العربي. ففي مقابلته مع الشرق الأوسط السعودية في التاسع من الشهر الجاري اعتبر أن «الربيع العربي» و«انتفاضاته وثوراته الشعبية» يمثل «فرصة طيبة» للناتو من أجل «تقوية وتجديد علاقاتنا مع المنطقة» التي قال إن (11) بلداً عربياً فيها قد انضوى تحت مظلة الحلف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، إما عبر «الحوار المتوسطي» أو عبر «مبادرة اسطنبول» ليعرب عن اعتقاده بأن «ليبيا الديموقراطية يمكنها أن تنضم بسهولة إلى الحوار المتوسطي، لتصبح بذلك واحدة من شركائنا»، دون أن يوضح بأن الشراكة الليبية مع حلف الناتو قد أصبحت فعلاً أمراً واقعاً، وهي تنتظر فقط إضفاء صفة رسمية عليها، مثلها مثل العراق تحت الاحتلال الأميركي حيث توجد حاليا بعثة تدريب للحلف وحيث يخير رئيس وزراء النظام المنبثق عن الاحتلال، نوري المالكي، شعبه لاستمرار الوجود العسكري الأميركي بعد نهاية العام الحالي بين استمراره تحت علم الولايات المتحدة وبين استمراره تحت علم حلف الناتو، ليصبح عدد الدول العربية «الشريكة» للناتو (13) دولة من الناحية العملية.

وحقيقة أن سورية والمملكة العربية السعودية كلتيهما، ما زالتا الجائزة الأكبر التي ينتظرها حلف الناتو في المشرق العربي، هي حقيقة ترتب على الرياض مسؤولية تاريخية، سلباً أم إيجاباً، عن إخضاع القرار العربي نهائياً لإرادة حلف الناتو ومن خلاله للإرادة الأميركية، ثم الإسرائيلية كتحصيل حاصل. والأزمة السورية الراهنة تضع العربية السعودية على مفترق طرق في مواجهة لحظة تاريخية حاسمة قد تقرر مستقبل التضامن والاستقرار العربي لفترة طويلة مقبلة، لاستثمار وزنها القيادي الإقليمي وثقلها الدولي لمنع التدخل الأجنبي في سورية، أو لمنح «شرعية عربية» له.

العلاقات السعودية - الأمريكية

بالرغم من كل ما يقوله معارضوها في الداخل وخصومها الإقليميون العرب وغير العرب، عن هيمنة استحقاقات علاقات التحالف والصداقة العريقة بين الولايات المتحدة وبين المملكة على القرار العربي السعودي، فإن فشل واشنطن حتى الآن في إقناع الرياض بالانضمام علناً ورسمياً إلى حلف الناتو، وفشلها في فرض نسختها الأميركية لحقوق الإنسان والحريات المدنية والدينية والعامة على النظام السعودي، والاختلافات السعودية – الأميركية الواضحة حول التعامل مع الحراك الشعبي العربي العارم الراهن، وفشل واشنطن في «إقناع» السعودية للاعتراف بـ«العملية السياسية» الأميركية في العراق وبالنظام المنبثق عنها في بغداد، بحيث ما زالت السفارة السعودية مغلقة في العاصمة العراقية بعد مضي ثماني سنوات على الاحتلال الأميركي، ودعم الرياض للطلب الفلسطيني باعتراف الأمم المتحدة بعضوية دولة فلسطين في تضاد مباشر مع واشنطن، وفتح أبوابها أمام حركة المقاومة الإسلامية «حماس» التي تصنفها واشنطن «منظمة ارهابية» فلسطينية، ونأي السعودية بنفسها عن التطورات في ليبيا وعدم مشاركتها في مؤتمر «أصدقاء ليبيا» الذي انعقد في باريس وعدم اعترافها بالمجلس الانتقالي حتى الآن وعدم زيارة أي مسؤول فيه للرياض، ما هي إلا أمثلة ظاهرة على أن المملكة مازالت تملك هامشاً واسعاً لاستقلالية قرارها السيادي لا تملك مثله دول غربية كثيرة متحالفة مع الولايات المتحدة.

لذلك فإن ما وصفه مدير المخابرات السعودية وسفير بلاده في واشنطن سابقاً، الأمير تركي الفيصل في مقال له بالنيويورك تايمز في الحادي عشر من الشهر الماضي بـ«الدور القائد الذي لعبته العربية السعودية مؤخراً في عزل سورية» هو قرار سعودي، وليس قراراً أمريكياً مفروضاً على السعودية. وكانت المكالمة الهاتفية بين خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز وبين الرئيس الأميركي باراك أوباما في الثالث عشر من آب/ أغسطس الماضي أول إعلان عن تنسيق ثنائي بشأن سورية، وجاءت هذه المكالمة بعد خمسة أيام من سحب السفير السعودي من دمشق. وكانت السعودية أول دولة عربية تتخذ موقفا ضد ما وصفه العاهل السعودي بـ«آلة القتل» في إشارة إلى الجيش العربي السوري الذي شاركته كتائب سعودية في حرب تشرين عام 1973، وكانت قواته تقف كتفاً إلى كتف مع القوات السعودية على أرض الكويت ضد القوات العراقية عام 1991، ناهيك عن التنسيق السياسي والدبلوماسي الوثيق إقليمياً ودولياً بين القطرين الشقيقين بعد «الحركة التصحيحية» التي قادها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عام 1970 ضد رفاقه في حزب البعث، ليدخل سورية في عملية السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من بوابة الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، وليسقط «الرجعية العربية» من شعارات الحزب الحاكم أملاً في إنشاء جبهة تضامن عربي تعينه في تحرير هضبة الجولان من الاحتلال، لتكون السعودية في مقدمة الدول العربية والخليجية المهنئة بتسلمه السلطة. لكن العاهل السعودي في بيانه في السابع من آب/ أغسطس الماضي أعلن قطعا واضحاً لشهر عسل في العلاقات الثنائية استمر أكثر من أربعين عاماً، وكان واضحاً أن هذه العلاقات قد تحطمت على صخرة العلاقات السورية – الإيرانية، وأن الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، الذي تمخض الآن عن حكم إيراني في بغداد، قد فاقم المخاوف المشروعة من إيران في السعودية بخاصة، وفي دول الخليج العربية بعامة.

العلاقات السورية - الإيرانية

لكن ليس من المعروف حتى الآن أن سورية قد تحولت بأي شكل من الأشكال إلى أداة إيرانية لتهديد دول الخليج العربية، أو أية دولة أخرى عربية أو غير عربية في الجوار باستثناء دولة الاحتلال الإسرائيلي طبعاً، أو أن تكون قد استثمرت علاقاتها الإيرانية على حساب علاقاتها الوثيقة الأقدم مع أشقائها العرب في الخليج، بل من المعروف أنها استقوت بدول الخليج العربية، وحاولت جهدها أن تستثمر علاقات هذه الدول الوثيقة بالولايات المتحدة في تعزيز موقفها من أجل تحرير أراضيها المحتلة سلماً، بينما من المؤكد تماماً في المقابل أن سورية قد استثمرت علاقاتها مع إيران من أجل تعزيز دفاعاتها للهدف ذاته. ومن المؤكد كذلك أن دمشق فقط بعد أن فقدت بديلها الاستراتيجي العربي، قد لجأت إلى التنسيق «الاستراتيجي» مع إيران في عهد الأسد الأب، ثم إلى تنسيق مماثل مع الجارة الشمالية تركيا في عهد الأسد الابن، قبل أن تضع عودة أنقرة إلى حضن الإستراتيجية الأميركية تحت مظلة الناتو نهاية لهذا التنسيق في الأزمة السورية الراهنة، وفي أي وقت يتوفر البديل العربي الاستراتيجي  كرصيد يعين سورية على تحرير أراضيها المحتلة لن تجد سورية بالتأكيد أي سبب لاستمرار زواج المصلحة الدفاعية بين نظامها العلماني وبين نظام الحكم الإيراني الحالي.

إن الحديث المتواتر عن رابطة «طائفية» تشد دمشق إلى طهران، يفتقد الكثير من الدقة والموضوعية. فمنذ ابن تيمية في القرون الوسطى، مروراً بالخلافة العثمانية التي استثنت العلويين من نظام «الملل»، ولم تعتبرهم عملياً وقانونياً من «أهل الكتاب» حد بيعهم كعبيد أحياناً، لم يعتبرهم لا السنة ولا الشيعة منهم. ولأنهم عرب أقحاح تشيعوا للعروبة بسنتها وشيعتها، ورفضوا إغراء الاستعمار الفرنسي لهم بدولة علوية خاصة بهم وانصهروا في الثورة الوطنية للتحرر من هذا الاستعمار. ويقال اليوم إنهم في السلطة، لكن جوشوا لانديس مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما يقول: إن النظام الحاكم لم يوفر لهم مكاناً عاماً يمارسون فيه مذهبهم، ولم يعترف بأي مجلس طائفي لهم يصدر فتاوى دينية باسمهم، و«التربية الدينية في المدارس السورية تقليدية .. وسنية»، و«لم تقم وزارة التربية بأي محاولة لغرس أفكار التسامح الديني أو لاحترام تقاليد دينية غير الاسلام السني»، وفي ظل هذا النظام فقد العلويون استقلالهم كطائفة، وليس لهم جهة مركزية تمثلهم، ويوجد بينهم أعلى نسبة من الزيجات المختلطة، وهم الأكثر اندماجاً مع الطوائف الأخرى في علاقاتهم الشخصية والتجارية، وقد تأثر هذا الاتجاه العام سلباً بالحملة الدموية ضدهم بين عامي 1979 و 1982. ومن الواضح أن الأزمة السورية الحالية توقظ في بعض أوساطهم انتماء طائفياً كاد أن يموت. لذا فإن الحديث عن «حرب أهلية طائفية» ليس دقيقاً أيضاً، فهي في أسوأ الأحوال حرب طائفية من جانب واحد يلجأ إليها من يريدون إسقاط النظام بأي ثمن، ومن مصلحة هؤلاء دون شك أن يصموا الحكم بالطائفية، بالرغم من وفرة أخطائه الأخرى الكافية كذخيرة لمعارضته.

وهؤلاء هم الذين ليس لهم مصلحة في الحوار الوطني، وفي أي تغيير أو إصلاح يتمخض عنه، ولهم كل المصلحة في التدخل الأجنبي، وهم من يخطفون حراكاً شعبياً واسعاً مشروعاً ومطالبه مشروعة بالإصرار على عسكرة هذا الحراك.

خطر انفجار إقليمي

في مقال له نشرته الأهرام ويكلي المصرية باللغة الانكليزية في الثالث عشر من هذا الشهر، قال أستاذ تاريخ وسياسات الشرق الأوسط بجامعة بلكنت التركية في أنقرة: «أثناء التركيز على عنف النظام السوري، تجاهلت حكومات الولايات المتحدة وأوروبا تجاهلاً كاملاً العنف الموجه ضده»، و«الجماعات المسلحة تحظى بدعم قوي من الخارج»، و«قتلت الجماعات المسلحة مئات من الشرطة والجنود والمدنيين .. وبين الضحايا المدنيين أساتذة جامعات، وأطباء، وحتى .. ابن مفتي الجمهورية». وحتى الواشنطن بوست الأميركية اعتبرت بأنه «لا يجب الترحيب بهذه القوى حتى من أولئك الذين يأملون في نهاية للنظام».. كما كتبت في افتتاحية لها في الثامن والعشرين من الشهر الماضي.. واليوم، «يقف المجتمع السوري الآن على شفا هاوية حرب ضروس مفزعة يمكنها أن تمتد إلى كل من لبنان وتركيا والعراق».. كما قال الأمير تركي الفيصل في سيئول يوم الجمعة الماضي. ومن المؤكد أن أي انفجار إقليمي كهذا يحذر منه الأمير السعودي لن ينحصر في حدود الدول التي ذكرها، ولن يكون أي عربي مستفيداً منه، وسوف تكون دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي هما المستفيدين الوحيدين.

إن خادم الحرمين الشريفين ليس غريباً على سورية، فهو متزوج في عائلة سورية، وعندما كان ولياً للعهد تردد عليها عدداً لا يحصى من المرات، وكان أول قائد عربي يزور الرئيس بشار الأسد مهنئاً له بتسلمه الحكم في صيف عام ألفين، وشارك في جنازة أبيه الراحل حافظ الأسد في حزيران/ يونيو من ذلك العام. وفي بيانه في السابع من الشهر الثامن من هذه السنة، خيّر سورية بين خيارين: إما أن تختار الحكمة بإرادتها، أو تغرق في الفوضى والضياع، ودعاها إلى تبني «إصلاحات سريعة وشاملة».

وفي معزل عن المفارقة الكامنة في مطالبة سورية بـ«اصلاحات سريعة وشاملة» تستنكف الرياض عن مثلها في المملكة أو في شركائها في مجلس التعاون الخليجي، فإن المملكة تقف اليوم على مفرق طرق تاريخي مركزه سورية، وتواجه بدورها خيارين أو مسارين، مسار تنجر فيه حالياً تحت ضغوط الحليف الأميركي من ناحية وضغوط المخاوف المشروعة من إيران من ناحية ثانية باتجاه منح شرعية عربية للتدخل الأجنبي في سورية، ومسار ما زال بانتظار قرار سعودي جريء في اتجاه معاكس للتوجه الأميركي يعيد للتضامن العربي محوره السعودي السوري، ويجنب الجزيرة العربية وبلاد الشام مخاطر أي انفجار إقليمي سوف يقود إليه بالتأكيد أي تدخل عسكري أجنبي في سورية. والسير في هذا المسار يبدأ بمنح كل دعم الثقل السعودي لبرنامج التغيير والإصلاح الذي بدأ فيه النظام في سورية، ودعم الحوار الوطني، ورفض عسكرة الحراك الشعبي السوري. وسوف يحدد المسار الذي تختاره الرياض وجهة الأحداث الإقليمية لفترة طويلة مقبلة.

قبل فوات الأوان..

لم يفت الأوان بعد كي تتدارك العربية السعودية وتدرك بأن منع انهيار مؤسسة الدولة السورية بعد تدمير الاحتلال الأميركي للدولة العراقية، هو إجراء دفاعي لعدم الانفراد بالدولة السعودية من طرف أي تدخل أجنبي، وأن حماية الاستقلال الوطني السوري هو خط الدفاع الأمامي عن الاستقلال الوطني السعودي، وأن أي تدخل أجنبي ينتهك حرمة القومية العربية في عاصمتها السورية ستكون خطوته التالية انتهاك حرمة الدين الحنيف في كعبته العربية في المسيرة الإسرائيلية – الأميركية نحو طهران، فهذه المسيرة لا تستهدف النظام السياسي في أي قطر عربي في حد ذاته، بل تستهدف استغلال الانتفاضات الشعبية ضد استبداد هذا النظام من أجل تدمير كل الدفاعات العربية الباقية التي تمنع التحالف الأميركي – الإسرائيلي الاستراتيجي من إحكام هيمنته على كل شعوب الأمة وأقطارها.

 

■ * كاتب عربي من فلسطين

 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

آخر تعديل على الأحد, 06 نيسان/أبريل 2014 18:40