النيوليبرالية: شكل جديد لديكتاتورية قائمة!
في أحد كتبه الأخيرة، ناقش الكاتب إيريك هوبسباوم قضية الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، بوصفه المحدد الرئيسي لاتجاه سير الأمور في القرن العشرين، فقد هيمنت المواجهة بين هذه الأيديولوجيات الاقتصادية - الاجتماعية على التاريخ الأوروبي والعالمي، وخاصة في الفترة التي تلت عام 1945. إلا أنه - وكما ذكر في كتابه الجديد - كان هناك صراع من نوع مختلف ساهم أيضاً في تحديد مسار القرن العشرين، ألا وهو الصراع بين السلطوية والديمقراطية
إن خطورة صعود «موجة» سلطوية في القرن الحالي هي خطورة توازي تلك التي كانت موجودة في القرن السابق، وفهم هذا الخطر يتطلب عودة تاريخية قصيرة إلى القرن السابق.
مع اقتراب الذكرى المئوية الأولى لاندلاع الحرب العالمية الأولى، يجد المرء نفسه أمام محاولات شديدة للمقارنة بين توازن القوى الدولي الحالي والتوازن الذي كانت تشهده أوروبا في عام 1914.
لقد قمت مؤخراً بزيارة إلى عدد من دول جنوب شرق آسيا، وهناك صدمتني مقارنة أخرى، حيث أدركت التشابه القائم بين وقتنا الحالي وثلاثينيات القرن المنصرم لجهة وجود «ديمقراطيات» ضعيفة و«ديكتاتوريات» قوية.
«الديمقراطية» v.s «السلطوية»!
كان التنافس بين النظرتين الديمقراطية والسلطوية إلى المجتمع، في عام 1930، يطغى على الصراع السياسي في معظم دول أوروبا، باستثناء إيطاليا، فقد تمكن الفاشيون هناك من تأسيس نسخة متعنتة من الحكم السلطوي فيها. والاستثناء الثاني هو بريطانيا، حيث قامت فيها بنية طبقية صلبة، منحت الاستقرار للمؤسسات الديمقراطية ظاهرياً. ومع انتصاف هذا العقد، بدأت الأنظمة الرأسمالية السلطوية بالصعود، بشكلٍ واضح في ألمانيا ومعظم مناطق أوروبا الوسطى والشرقية، كهنغاريا وبولندا، إضافة إلى البرتغال وإسبانيا التي انضمت بعد فترة قصيرة إلى «المعسكر المعادي للديمقراطية».
اتسمت الاتجاهات المعادية للديمقراطية في أوروبا بقوة كبيرة، حيث تمتلك بريطانيا أوسع شبكة للمراقبة بالفيديو في أوروبا، إلى جانب القيود القانونية التي تفرضها على الحق بالتجمع، وقد وضعت هذه القيود للحد من المظاهرات الشعبية، كما هي الحال في إسبانيا. إضافة إلى أن الهجوم العنيف الذي تشنه الحكومة التي يهيمن عليها الائتلاف المحافظ ضد الأسر الفقيرة التي تتلقى الدعم الاجتماعي، يشرّع انتهاك الحقوق المدنية.
إن الرقابة والاعتداءات المتكررة على الفقراء وما تقوم به الحكومة من ترويج للمخاوف من المهاجرين، هي عوامل تجتمع لتشكل حزمة متينة من معاداة الديمقراطية. لكن خطراً أكثر جدية يلوح على المدى الطويل، وهو الميثاق المالي الأوروبي والذي يعرف رسمياً باسم «اتفاقية التنسيق والإدارة والثبات في الاتحاد الاقتصادي والنقدي».
التنازل عن السيادة
تحد هذه الاتفاقية، التي دخلت حيز التنفيذ في بداية عام 2013، بشكل كبير من سلطة البرلمانات الوطنية في وضع السياسة المالية، فالاتفاقية والإجراءات الإضافية التي طلبتها الحكومة الألمانية تنصان على إبعاد السياسة المالية عن الرقابة العامة. ومن الجدير بالذكر هنا أن السياسة المالية هي بعيدة مسبقاً عن المحاسبة الوطنية، حيث أن المصرف المركزي الأوروبي يسيطر عليها. إن هذه العملية التي تتضمن اتخاذ القرارات الكبرى بعيداً عن إرادة الناخبين، تقوض ثقة الجمهور في أساس العملية الديمقراطية. وبالتالي، فلا يجب استغراب ظهور جماعات فاشية جديدة تحمل أجندة «لا برلمانية»، كحزب «الفجر الجديد» في اليونان.
أعلن الحزب الاشتراكي الديمقراطي* في ألمانيا بأن الاستقرار المالي يتطلب من الدول الأوروبية التنازل عن جزءٍ من سيادتها. بعبارة أخرى، فإن الهدف من «الاستقرار المالي» يتطلب من المواطنين الأوروبيين التنازل عن حقهم الديمقراطي الأساسي في إلزام حكوماتهم بالمسؤولية عن سياساتها الاقتصادية. وهذه الخطوة تُعد استكمالاً لجدول الأعمال النيوليبرالي القاضي بإزالة الرقابة الديمقراطية عن جميع السياسات الاقتصادية الرئيسية.
من أين تأتي «السلطوية»؟
إن الاتجاه السلطوي شديد الوضوح في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، فما هو مصدر هذا الاتجاه في هذه البلدان؟
لقد جاء صعود الأنظمة الاستبدادية في المرحلة التي تلت انتشار تصور عام مفاده أن «الرأسمالية غير المنظمة» أدت إلى كوارث كبيرة، وشملت هذه الكوارث أكثر الحروب مأساوية في التاريخ البشري، والتي تلتها أشد الأزمات الاقتصادية تدميراً، التي عرفها العالم.
لقد حكم الكثيرون من اليمين واليسار على «الديمقراطية البرجوازية» بأنها ديمقراطية متدهورة ومختلة وظيفياً. أما في روسيا فقد أخذ رفض الرأسمالية شكل محاولة لخلق نظام حكم يخدم مصالح الطبقة العاملة والفلاحين.
بالعودة إلى أوروبا، فقد قاد تشويه سمعة الرأسمالية الليبرالية في كل من إيطاليا وألمانيا إلى نشوء أنظمة دكتاتورية لم تخجل من إظهار طبيعتها الاستبدادية. هذا وقد كان تشييد نخبة رجال الأعمال لهذه الأنظمة الفاشية يهدف للحفاظ على سيادة رأس المال في مواجهة الحركات العمالية القوية، وقد أثبتت هذه الأنظمة نجاحاً مروعاً في سحق الحركة العمالية. وتطلب تدمير هذه الأنظمة الوحشية قيام حرب أكثر كارثية من الحرب العالمية الأولى (1914- 1918).
النيوليبرالية = عكس الحرية!
إن أحد مصادر المد الاستبدادي الحالي في أوروبا والولايات المتحدة يتمثل بنخبة رجال الأعمال، إلا أن دافعه في هذه الحالة هو الأيديولوجية النيوليبرالية، وليس الفاشية. فالليبرالية الجديدة تدَّعي بأنها الضامنة للحرية، ولكن الواقع هو العكس تماماً. فقد كانت سياسة تحرير الأسواق على مدى السنوات الثلاثين الأخيرة - والتي استوحيت من النيوليبرالية - هي المدمر الحقيقي للحرية.
إن إضعاف النقابات العمالية والمنظمات الشعبية الأخرى هو أكثر الآليات المدمرة وضوحاً. وبموازاة هذا، كان رأس المال المالي يزداد توطداً وصعوداً، وتتعاظم سيطرته على وسائل الإعلام والانتخابات والنقاشات السياسية.
«نخبة المحتكرين» والفاشية
لم يعد بإمكاننا إجراء الفصل التقليدي بين الاقتصاد والسياسة، عندما ندخل إلى مجال التنافس بين الشركات العملاقة، حيث أن وصول الفاشية إلى السلطة يعود، بشكل كبير، إلى هذا التنافس في محاولة من أقوى المحتكرين الكبار - ومن خلال العمل السياسي - لتقوية وضعهم في سوق العمل، في وجه المنافسين الأصغر حجماً، إضافة لإحداث تغيير في وضع السوق العالمية لمصلحتهم.
إن التحرر من قيود رأس المال المالي يهدد بإعادتنا إلى «السلطوية الرأسمالية» التي ازدهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت، ولكن هذه المرة دون وجود حركة شعبية قوية في كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي دولة أوروبية قادرة على مواجهتها. إن عدم وجود حركة مشابهة تستطيع التصدي لقوة رأس المال غير المنظم، إضافة إلى دعم وسائل الإعلام الرئيسية والسائدة للنيوليبرالية، يجعل من الديمقراطية المفتوحة وغيرها من المنصات الإخبارية التقدمية أمراً ضرورياً جداً في النضال ضد السلطوية.
عن «غلوبال ريسيرتش» بتصرف..
هوامش:
البروفيسور جون ويكس*: اقتصادي وأستاذ فخري في جامعة لندن.
الحزب الاشتراكي الديمقراطي*: حزب سياسي ديمقراطي - اجتماعي، وهو أحد الحزبين الرئيسيين في ألمانيا، إلى جانب حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ.