(امبراطورية) قطر والعباءة الفضفاضة!
د. فريد حاتم الشحف د. فريد حاتم الشحف

(امبراطورية) قطر والعباءة الفضفاضة!

يثير الدور المتورم، الذي تلعبه قطر على أكثر من صعيد، في المنطقة والعالم، الكثير من الاستهجان والاستغراب، وبخاصّة أن هذه المشيخة الصغيرة، التي لا تملك الحد الأدنى من مقومات الدولة، نرى حجم وآثار مشاركاتها التآمرية وتدخلاتها، في مجالات ومناطق عدّة، تفوق مصالح أو اهتمامات دولة ذات وزن إقليمي، فكيف لدولة بحجم قطر. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأسباب والخلفية التي تدفع بالقيادة القطرية للمشاركة الفاعلة والمتشابكة في الأحداث الدولية، وبخاصّة في هذه المرحلة بالذات التي تشهد، منافسة قويّة بين الدول العظمى، وتحولات هامة وكبيرة على الصعيد الدولي؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ أن نعود قليلا إلى الوراء، ونستبين الأسباب التي دفعت أمير قطر الحالي، وزير الدفاع وولي العهد سابقا، للإطاحة بوالده عام 1995، مع العلم أن الحكم كان سيؤول إليه عاجلا أم آجلا، والدور الذي رسمه له صنّاع القرار في الغرب، وإلقاء الضوء على بعض النشاطات والتحركات القطرية على مستوى المنطقة والعالم، وفي أي مصلحة تصب؟.

قطر ومشروع  «الشرق الأوسط الجديد»

 كان على الولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إعداد إستراتيجيات جديدة تمكنها من الحفاظ على أحادية القطب بزعامتها، وإعاقة ظهور منافس جدّي لها على المسرح الدولي، لذلك كان مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، حسب المواصفات الأمريكية، تكون إسرائيل المهيمنة اقتصاديا وسياسيا عليه، هو الركيزة الأساسية لهذه الإستراتيجيات، لما تشكله المنطقة من أهمية جيواستراتيجية، على المستوى الدولي.

لا بدّ لإنجاح هذا المشروع من تهيئة الأرضية المناسبة، وإيجاد شركاء عرب للكيان الصهيوني، للتنسيق والتحضير لإنجاح هذا المشروع.

قطر كانت المرشح الأكثر ملائمة، للعب هذا الدور لأسباب عديدة أهمّها:

وجود ولي عهد متحمّس للتقارب مع (إسرائيل)، وبخاصّة أنّه تدرّب وتخرج من كليّة عسكرية في بريطانيا.

صغر مساحتها وقلّة عدد سكانها، يسهل التحكم بها، والسيطرة السريعة على أي تمرّد مستقبلي، قد يزعزع الاستقرار والأمن فيها.

غنى ثرواتها النفطية، يمكن القيادة القطرية من التحرّك، وتنفيذ المخططات المطلوبة، دون الحاجة للمساعدات الأمريكية، التي قد تثير الشبهات وتعيق تنفيذ المطلوب منها على الساحتين العربية والإقليمية، وتمكن أمريكا من التوجيه والتنسيق معها خلف الكواليس، لمنع إثارة حساسيّات مع دول الجوار، الحليفة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة. 

وجود خلافات حدودية مع جيرانها من الدول الخليجية، وبخاصّة السعودية، يمكنها من التحرّك بحريّة، والتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، إذا لزم الأمر.

 بعد أن وقع الاختيار المدروس بدقة على قطر، دفعوا ولي العهد حمد بن خليفة آل ثان للانقلاب على والده خليفة، عام 1995، وعملوا على إعداد الظروف والأدوات المناسبة التي تمكنه من تنفيذ الدور المطلوب منه على أكمل وجه.

الحماية الأمنية والعسكرية

عملت الولايات المتحدة منذ عام 1995، على تخزين الأسلحة والمعدات العسكرية في قاعدة السيلية، وبني لهذا الغرض مستودع من أضخم مستودعات الأسلحة في الشرق الأوسط. ونقل إلى هذه القاعدة، مقر قيادة متقدم للقيادة الوسطى للجيش الأمريكي، والذي يعتبره الأمريكيون، ذا أهمية حيوية للولايات المتحدة، وقد تمت إدارة العدوان العسكري الأمريكي على العراق عام 2003، من هذه القاعدة بالذات.

كما أقامت أمريكا في مطار العديد العسكري، الواقع جنوب الدوحة أحد أكبر القواعد العسكرية الجوية الأمريكية في الخارج، وقد ساهمت الحكومة القطرية بمليار دولار لتوسيعه، وليصبح مؤهلا لاستقبال الطائرات الضخمة. وتعتبر هذه القاعدة منذ عام 2001، الجسر الذي يزوّد العمليات العسكرية لأمريكا وقوات التحالف الموجهة ضد أفغانستان، كما استخدمت في كل الأعمال العسكرية الأمريكية والغربية ضد العراق.

تستخدم الولايات المتحدة القاعدة العسكرية الموجودة في قطر، للاستطلاعات الجوية واستطلاعات الراديو- الراديو التقني في منطقة الخليج، وتراقب الوضع داخل قطر، وتتنصّت على المكالمات الهاتفية واللاسلكية، وتراقب شبكة الانترنيت، وغيرها داخل الإمارة، أي أنّها تمسك قطر بقبضة حديدية. والمعروف أن القوات الأمريكية أفشلت منذ فترة محاولة انقلاب عسكرية في الدوحة.

باختصار، تؤمّن القواعد العسكرية الأمريكية في قطر، ليس فقط خدمة مصالحها في المنطقة وحسب، بل تؤمن الحماية الأمنية والعسكرية لنظام الحكم هناك، ضد الأعداء المحتملين الخارجيين والداخليين على حد سواء.

قناة (الجزيرة) المنبر الإعلامي المناسب

لقد كتب شمعون بيريز صاحب نظرية (الشرق الأوسط الجديد)، في كتابه تحت هذا الاسم، ما معناه أن المشروع بحاجة إلى قنوات تلفزيونية فضائية، تتولّى إزالة (الحقد التاريخي) المتبادل بين العرب والصهاينة، وخلق أرضية ملائمة لإقامة شراكة حقيقية بين الكيان الصهيوني والدول العربية.

لذلك لم يكن أنسب من قناة (البي.بي.سي)، التي تمتلك خبرة غنية في تضليل الوعي والتحكم به، اكتسبتها من خبرة الدعاية النازية قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، وطورتها بريطانيا والولايات المتحدة، وفقا للتطور التاريخي وتطور الوعي السياسي للجمهور المستهدف، وتضم كادرا مدربا ومتمرّسا، وشبكة مراسلين متميزين. وتقرر نقل القسم العربي في المحطة التلفزيونية إلى قطر، لكن أمير قطر اقترح أن تأخذ القناة الجديدة الجنسية العربية وتسمّى (الجزيرة)، وإبعاد أي صلة لها بالقناة الأم، وتصبح مستقلة وبتمويل قطري كامل، كي تكتسب مصداقية أكثر، وتصبح أكثر قربا من المشاهد العربي، لتتمكن من تنفيذ الأهداف المرجوّة بالسرعة المناسبة.

استغلت القناة الوضع الإعلامي المتردي في الدول العربية، واكتسبت شعبية كبيرة في المنطقة  لأسباب عديدة أهمّها:

غياب الرأي السياسي الآخر في القنوت الرسمية العربية.

أهمية القضايا السياسية المطروحة في برامج القناة.

(الجرأة) في طرح المسائل الحساسة.        

السرعة في نقل الخبر.

بثّها المباشر والحي من مكان الحدث.

تمكنت القناة وخلال فترة قياسية نسبيا، من إجراء الغسل السياسي اللازم لوعي الجزء الأكبر من الجمهور العربي ومن ضمنه بعض المثقفين، وهيأت الأرضية اللازمة لتوجيه الرأي العام بالاتجاه (المطلوب)، وهذا ما لاحظناه بشكل واضح في أحداث ما يسمّى بالربيع العربي.

«الوهّابيّة» السلاح المذهبي الأنسب

كي تبدو قطر حليفا مستقلا للولايات المتحدة، له طموحاته التوسعية الخاصّة به في المنطقة والعالم، خلافاً لحلفاء أمريكا العرب الذين يعتبرون أدوات لها في المنطقة، تم إعطاء حاكم قطر حمد آل ثان دور -  خليفة محمد عبد الوهاب «العظيم»، في العالمين العربي والإسلامي، ووريث تعاليمه الدينية التكفيرية، الذي يؤهّله، عدا عن استخدام سلاح «الوهابية» أن يكون حليفا قويا لتنظيم «الإخوان المسلمين» في المنطقة، وأن تكون قطر مقراً شبه رسميّ للتنظيمات (الإسلامية) الراديكالية ومنطلقا لها، ليسهل استخدامها وتوجيه نشاطاتها في الاتجاه (المطلوب).

معروف أن محمد عبد الوهاب – مؤسس التيار الوهابي، هو صنيعة الاستخبارات البريطانية في النصف الأول من القرن الثامن عشر، حيث تم تدريبه على استخدام التأويل (المناسب) لبعض الآيات القرآنية وأحاديث الرسول، بما يخدم المشاريع والمخططات الغربية في المنطقة، وهذا ما تؤكده مذكرات رجال المخابرات البريطانية الذين عملوا في المنطقة في تلك الفترة، مثل مستر همفر وغيره.

  ثم تم تجنيد الدكتور يوسف القرضاوي، ليلعب دور المفتي والمشرع والمحرض الديني المطلوب أمريكياً، للجمهور العربي والإسلامي، وخصّص منبر «الجزيرة»، لتقديمه وإكسابه الشهرة المطلوبة.

  لقد أثبتت موجة «الربيع» العربي، والحرب في مالي، وقبلها في مناطق أخرى من العالم،  فعّالية هذا السلاح الخطر فعليّا، ليس على أمن  واستقرار الدول وحسب، بل وعلى تشويه صورة الديانة الإسلامية في المنطقة والعالم.

قطر – الأداة الأكثر فعّالية

تعود النجاحات المؤقتة التي تحققها أمريكا، باستخدامها الأداة القطرية، لكون قطر بلد عربي وإسلامي، وتستطيع استخدام دوره، حسب المنطقة المستهدفة، إمّا أن يكون مكمّلا للدور الأمريكي، أو يكون «مستقلا» في بعض المناطق والقضايا، التي يصعب على أمريكا الدخول إليها مباشرة.

الغريب في الأمر، أنّ قطر وحسب المراقبين، لا يفترض أن يكون لديها كدولة عربية و«مسلمة» أية مصالح ماديّة كانت أم سياسيّة في كل الدول والمناطق التي تتدخل فيها، وإنّما تفعل ذلك خدمة شبه مجانيّة على المدى الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها حول العالم، والدور الذي تلعبه أشبه بدور كلب الصيد الذي سيتخلص منه عند الضرورة أو عند إنهاء دوره.

إضافة إلى الدور القطري التآمري الواضح في أحداث ما يسمّى بالربيع العربي، الذي لن نقف عنده، كونه أصبح معروفا للقاصي والداني، نجد أن الأصابع القطرية موجودة في أماكن ومناطق متفرقة حول العالم، حسب الحاجة الأمريكية.

الدور القطري في أفريقيا

لعبت قطر دورا هاما في إشعال الحرب في مالي، من خلال تولّي قطر مهمّة التواصل مع الطوارق الذين كانوا موجدين في ليبيا، وترحيلهم إلى موطنهم الأصلي شمال مالي، وتزويدهم بالأسلحة المسروقة من مستودعات الجيش الليبي بعد سقوط القذافي، وتقديم الدعم المالي اللازم، للانتفاضة على النظام الحاكم هناك، حيث تمكنوا من السيطرة على الجزء الشمالي من مالي، وإعلان الانفصال. لتقوم الولايات المتحدة عن طريق أدواتها الأخرى، بإرسال فصائل تابعة لتنظيم القاعدة، لمحاربة الجيش المالي، والهدف من كل ذلك هو ضرب المصالح الفرنسية، وجرّها إلى حرب لن تؤدي إلاّ لإضعاف نفوذها في المنطقة، ودورها في أوروبا، خدمة للمصالح الأمريكية.

بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه في السودان، والصومال وتشاد ونيجيريا، ودول أفريقية أخرى، لمساعدة أمريكا، في مواجهة تنامي المصالح الصينية في المنطقة.

أمريكا تدفع قطر إلى دول أسيا الوسطى

إنّ دول أسيا الوسطى واقتصادياتها، هي أبعد ما تكون عن المصالح القطرية لسببين رئيسيين:

أولاً – دول المنطقة ليست بحاجة للغاز القطري، ولا تستورده منها.

ثانياً – من المعروف أن قطر تفضل الاستثمار في الشركات الأمريكية والأوروبية التي تدرّ أرباحا طائلة، ولا توجد في دول المنطقة شركات بهذا المستوى، ولا مجالات اقتصادية، يمكن أن تشكل حافزا لدولة مثل قطر للاستثمار فيها.

بالرغم من ذلك نجد أن الاهتمام القطري ازداد بدول المنطقة في الآونة الأخيرة، وهي تعمل للدخول إلى الدول الأضعف اقتصاديا، طاجكستان وقيرغيزستان لحاجتهما الماسّة لمستثمرين كبار فيها، تماشيا مع المصالح الأمريكية هناك.

طاجكستان

إنّ طاجكستان بحكم اقتصادها الضعيف، مفتوحة الأبواب للمستثمرين، وبخاصّة المسلمين، لذلك ليس مستغربا أن تصبح قطر من أبرز المقرضين للجمهورية، حيث تخطط لتمويل مشاريع سكنيّة بقيمة أكثر من 290 مليون دولار في العاصمة دوشانبيه وحدها. المشروع الأهم هو المسجد الذي تم وضع حجر الأساس له منذ عام، بكلفة 70 مليون دولار، تقدمة مجّانية، ليصبح الأكبر في دول رابطة الدول المستقلة، حيث سيتسع ل 115 ألف مصلي، إضافة إلى بناء حيّ سكني ومستشفيات ومدارس..الخ.

  إنّ هذه المشاريع، وبخاصّة بناء المسجد، ستساهم في تعزيز الثقة بقطر ومكانتها وسط سكان طاجكستان.

قيرغيستان

افتتحت قطر في أيلول عام 2012، سفارة لها في بشكيك عاصمة قيرغيزستان. وزار الدوحة في آذار 2012، وفد رسمّي قيرغيزي، بدعوة خاصّة من أمير قطر حمد آل ثان، حيث استقبل الوفد استقبالا حارّا، وأبدت القيادة القطرية استعدادها، لتقديم المساعدات الاقتصادية اللازمة لجمهورية قيرغيزستان، وتم الاتفاق على تأسيس صندوق استثماري برصيد 100 مليون دولار، لتنفيذ مشاريع مختلفة.

المثير للاهتمام، أن هذه الخطوات الدبلوماسية ترافقت مع نشاط دبلوماسيّ مكثف للولايات المتحدة وحلفائها في هذا البلد. فقد زار بشكيك في بداية نيسان عام 2012، نائب وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أسيا الوسطى روبيرت بلييك، وكان قد وصلها أواسط آذار في زيارة مفاجئة وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ليون بانيتا. إنّ النشاط المكثّف للدبلوماسية الأمريكية هدفه بالدرجة الأولى، محاولة الحفاظ على قاعدة الناتو العسكرية (ماناس)، المخصصة لعبور الإمدادات لقوات الحلف في أفغانستان بعد انتهاء مدة صلاحية الاتفاقية الموقعة مع الحكومة القيرغيزية بهذا الشأن، عام 2014.

لدى واشنطن مخططات أخرى طويلة الأمد، أهمّها  تحرير قيرغيزستان من ارتباطها بروسيا والصين، وكونها لا تريد إنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، لعدم وجود منافع اقتصادية في هذه الدولة الجبلية، فقد اختارت أمريكا طريقا آخر، وهو دفع قطر- الدولة الخليجية الغنية لتولّي تنفيذ أهدافها هناك.

قطر والأزمة المالية القبرصيّة

 يشير الخبراء إلى أنّ من يقف وراء الانهيار المالي في قبرص، هو بنك لايكي (Laiki Bank)- البنك القبرصي المشهور، وكان اسمه قبل عام بنك مارفين لايكي (Marfin Laiki Bank )، وقد سمي بهذا الاسم عام 2007، عندما اشترته مجموعة مارفين اليونانية التي يملكها قطريّون. حيث بدأ البنك بعد شراءه من قبل هذه المجموعة بالمضاربة بالمستندات اليونانية. وأشارت مصادر مقرّبة من البنك المركزي القبرصي، بأن معظم السندات اليونانيّة التي اشتراها البنك، هي عائدة لمجموعة الشركات الأم مارفين. حيث تم إفلاس البنك مؤخراً، لإنقاذ التجارة الرئيسية للمجموعة.

المعروف أن المركز المالي الرئيسي في الشرق الأوسط، كان قد انتقل من بيروت إلى قبرص في السبعينات من القرن الماضي، بعد نشوب الحرب الأهلية في لبنان. وتعتبر البنوك القبرصية ملاذاً لأموال الشركات ورجال الأعمال، ليس من دول المنطقة وحسب، بل ولشركات ورجال أعمال جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.

 بالرغم أن عباءة «الإمبراطورية» الفضفاضة، التي ألبست لقطر قد نجحت جزئياً في تنفيذ ما رسم لها، إلاّ أنّها أخذت في التمزّق والاهتراء نتيجة توازن القوى الدولي الذي اتضح في سياق الازمة السورية،اثر الفيتو الروسي الصيني، التي كبح جماح تفرّد الولايات المتحدة بالتحكم في السياسة الدولية، وستتلف نهائياً، وتعود قطر إلى لباسها المناسب لحجمها، بعد أن يعلن الشعب السوري انتصاره، وتسقط مخططات من أحاك هذه العباءة.