الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (2/4)
الاقتصاد السياسي والاغتراب:
إنّ حالة الاغتراب تقتضي وجود إنسانٍ آخر يسلب منيّ منتوج عملي ويتصرّف به دون أن يتعب في إنتاجه. وهذا غير ممكن إلا بوجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وهكذا نجد رجال الأعمال (الرأسماليين) يسرقون العمّال، والإقطاعيين يسرقون الفلاحين، والأسياد يسرقون العبيد. وباختصار، تاريخ الاستلاب هو تاريخ المجتمع الطبقي، أي تاريخ الحضارة البشرية حتّى اليوم.
ومع تعمّق ماركس في دراسة الاقتصاد السياسي، وتطويره ثورياً إلى علم حقيقي في «رأس المال»، قدم البرهان العلمي على نظريته في الاغتراب، بتحليله للبضاعة، واكتشافه لقانون الرأسمالية الاقتصادي الأساسي، أي قانون القيمة الزائدة، وهي القيمة التي يخلقها عمل العامل المأجور زيادة عن قيمة قوّة عمله، ويستولي عليها الرأسمالي بلا مقابل؛ أي القيمة التي يستلبها الرأسمالي من العامل، ويغرِّبها عنه.
إنّ الإنتاج البضاعي هو عملية اغتراب. ونجد فيه وحدة متناقضين:
1 - تموضع العمل البشري: أي تجسّد مجهود العامل في موضوعٍ منتوج قابل للاستعمال، كقيمة استعمالية.
2 - واستلاب العمل البشري: لأنّه استلاب العمل الزائد من العمال، واستلاب منتوجهم لتبادله في السوق كقيمة بضاعية (كقيمة).
ومثلما أنّ البضاعة لا تكون لها قيمة إلا إذا كانت لها قيمة استعمالية، فإنّ الاغتراب لا يمكن أن يحدث إلا على أساس تموضع مستَلَب للعمل، إنّ الاغتراب هو تموضع مُستلَب. هو حالة تاريخية خاصة من التموضع ملازمة للملكية الخاصة، ولذلك فهو ليس خاصاً بالرأسمالية أو الإنتاج البضاعي فقط، بل يجري أيضاً في جميع التشكيلات الطبقية السابقة للرأسمالية، كالإقطاعية والعبودية - حيث يكون المنتوج قيمة استعمالية (تموضع)، دون أن يجري تبادله كبضاعة. فالاغتراب بالمحصلة هو استلاب العمل الزائد، و«الرأسمال لم يخترع العمل الزائد. ففي كل مكان حيثما يمتلك قسم من المجتمع احتكار وسائل الإنتاج يتوجب على العامل، الحر أم غير الحر، أن يضم إلى وقت العمل الضروري من أجل إعالة نفسه، وقت عمل فائضاً لكي ينتج وسائل المعيشة لمالك وسائل الإنتاج» (1).
لكنّ الاستلاب الرأسمالي له خصوصياته:
أولاً: يخلق تبادل البضائع الوهم بأنّ البضائع لها صفات بشرية اجتماعية، وتنعكس العلاقات بين الأشياء في وعي الناس بشكلٍ مشوّه وكأنّwها علاقات اجتماعية بين البشر، وهذا ما يسمّى التشيّؤ (reification)، أو ما سمّاه ماركس في «رأس المال» بالصنمية البضاعية (fetishism of commodities)، وكشف سرّها في أنّ المنتجين يواجهون في بضائعهم العمل البشري بشكل عام متجرّداً عن سمات الأعمال الخاصة بمنتجيها وشخوصهم، على عكس الاستلاب الإقطاعي مثلاً حيث العلاقات الاجتماعية للأشخاص في عملهم تظهر ببساطة ووضوح كعلاقات شخصية لهم بالذات، فالعمل الزائد الذي يقوم به الفلاح في أرض الاقطاعي، يُستَلب منه لمصلحة هذا الأخير ولكن وفق علاقة شخصية مكشوفة لكل من طرفيها بوضوح لا يكتنفه ذلك الغموض الذي يلفّ البضائع في السوق. وبالطبع يكون الصنم الأكبر هو بضاعة البضائع، أي المال.
ثانياً: في الرأسمالية يصل الإنتاج البضاعي إلى ذروة تطوّره، وبما أنّ العمل المأجور،كما يقول ماركس، لا ينتج بضائعَ فقط، بل ينتج نفسَه والعاملَ كبضاعة، وقانون العرض والطلب يتحكم بإنتاج البشر تماماً مثل أيّة بضاعة أخرى، نرى كيف يتعمّق الاغتراب ويصبح مأساة بشرية شاملة لأنّ العامل بوصفه رأس مال حيّ هو صنف خاصّ من البضاعة ابتُليَتْ بكونها رأس مال ذو حاجات. وهذا يعني أنّ حاجاته يمكن أن تُشبَع فقط بالقدر الذي يتناسب مع إسهامها بتراكم الثّروة، أي بتراكم رأس مال غريب. وحتى الرأسمالي نفسه يصيبه الاغتراب لأنّه «بصفته رأسمالياً ما هو إلا رأسمال مشخص.. ولكن ليس لدى الرأسمال سوى رغبة حياتية واحدة وحيدة هي الرغبة في الازدياد، في خلق القيمة الزائدة... إنّ الرأسمال عمل ميت لا ينتعش، مثله مثل مصاص الدماء، إلا عندما يمتص العمل الحي»(2). والمشكلة أنّ هذه الرغبة هي من جهة نوع من التعطش الذي لا يرتوي بالنسبة للرأسمالي، وليس لها سقف كمّي يحدّها من الداخل، بخلاف الحاجات الإنسانية الجسدية والروحية، والتي تلازمها دائماً مقاييس داخلية محددة نوعياً وكمياً تجعلها قابلة للإشباع. كما أنّها من جهة أخرى تجعل القيم الاستعمالية تُنتَج فقط كأساس مادي حامل للقيمة التبادلية، بغض النظر عمّا إذا كان المنتوج مفيداً أم ضاراً للإنسان، فالهدف الوحيد هو تغريبه (بيعه وشراؤه)، إنتاجه واستهلاكه، حتى لو كان سماً أو تلوثاً أو سلاحاً أو قبحاً ..الخ. وبالتالي فإنّ الاستلاب الرأسمالي يخلق عند جميع البشر رغبات لا ترتوي وحاجات استهلاك وشهوات لاإنسانية. يخلق الجشع والأنانية، حتى أننا نجد هذا الواقع ينعكس في الوعي الاجتماعي، كما في المثل الشعبي القائل «ابن آدم لا يملأ عينه غير التراب».
ثالثاً: يتميز الاستلاب الرأسمالي أيضاً بأنّه يخلق شروط تجاوز الاستلاب بشكل عامّ كما سنرى..
الهوامش:
1 - ماركس، رأس المال - المجلد الأول - الجزء الأول - الفصل الثامن - ترجمة دار التقدم 1985، صفحة 373
2 - المصدر السابق، صفحة 334..