الحراك الشعبي العربي يكاد ينحرف عن مساره
كيف يعقل لحكومات تضطهد شعوبها وتحتل أو تدعم احتلال أوطان الغير أن تدعم شعوب الأمم الأخرى بعامة والحراك الشعبي العربي بخاصة من أجل التحرر السياسي والاقتصادي؟
الربيع العربي وأزمة الرأسمالية
منذ انفجرت أزمة النظام الرأسمالي الليبرالي المعولم في الولايات المتحدة قبل أكثر من عامين، توقع المعارضون اليساريون وغير اليساريين لهذا النظام، بل وحرضوا على حراك شعبي أميركي ضد هذا النظام من أجل تغييره أو إصلاحه في الأقل، خصوصا بعد أن حلت الإدارة السياسية لهذا النظام في واشنطن العاصمة الأزمة المالية للقلة المسؤولة في المقام الأول عن انفجار الأزمة والتي تركز الثروة والسلطة السياسية بين يديها من جيوب الأكثرية الساحقة التي كانت ضحية لها.
وفوجئ هؤلاء المعارضون عندما جاء الرد الشعبي الأول عربياً في أقطار كان النظام السياسي فيها قد حولها إلى نماذج للعولمة الرأسمالية بنسختها الأميركية الليبرالية، وإلى توابع تدور في فلك القيادة الأميركية لهذا النظام استراتيجياً وعسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً.
غير أن القيادة الأميركية لهذا النظام سرعان ما نجحت كما يبدو في تنظيم ثورة مضادة، تمكنت أولاً من احتواء الحراك الشعبي في هذه الأقطار العربية، وحصره في إصلاحات تجميلية للأنظمة السياسية فيها لا تمس جوهر النظام الاقتصادي الذي أفرزها ولا تطال علاقاتها الخارجية التي تبقيها أسيرة المدار الأميركي، ثم تمكنت ثانياً من حرف الحراك الشعبي العربي عن أعدائه الحقيقيين وتناقضه الرئيسي باتجاه تناقضات ثانوية في الأقطار العربية التي تجهد لشق طريق وطني مستقل لها خارج الفلك الأميركي..
لقد بدأ الحراك الشعبي العربي، الذي درج وصفه بـ«الربيع العربي»، في السابع عشر من كانون الأول / ديسمبر عام 2010 باحتجاج «اقتصادي» فردي عندما أشعل محمد (طارق) البوعزيزي ناراً في نفسه لم تستطع كل الإطفائيات الوطنية والدولية للنظام الرأسمالي الليبرالي المعولم إخماد ألسنة اللهب التي امتدت بسرعة تحبس الأنفاس لتشعل حريقا إقليمياً كان من المنطقي والمتوقع أن يحول الاحتجاج الاقتصادي الفردي للجامعي التونسي العاطل عن العمل إلى ثورة عربية اجتماعية – اقتصادية تغير النظام الاقتصادي والأنظمة السياسية والقمعية التي أفرزها كي تحميه.
لكن التدخل الأميركي – الأوروبي، الذي أفرز ظاهرتين، هما الحرص على عسكرة الحراك الشعبي ثم دعمه بالتدخل الخارجي العسكري وغير العسكري، العلني والسري، يكاد اليوم يحول النار الشعبية العربية إلى نار تأكل نفسها، كي يبدأ العد العكسي للحراك الشعبي العربي عمليا في اليوم التالي لاندلاع «ثورة 17 شباط / فبراير» في بنغازي الليبية عندما فوجئ العالم بالمتظاهرين «السلميين» مسلحين تسلحا مكنهم من السيطرة على معسكر كتيبة الفضيل المجاور للجيش النظامي.
وعسكرة الحراك الشعبي السوري التي اتخذت من الاحتجاجات السلمية دروعاً بشرية لها بدأت في وقت مبكر وسط تعتيم وتشويش إعلامي يخلط عمداً بين الهاربين من التجنيد الإجباري وبين الانشقاق العسكري، وبين تجار السلاح المحترفين وبين مهربيه الذين يستهدفون التمرد المسلح. وإذا كان التعتيم الإعلامي المتعمد يغطي على سقوط ما يزيد على ألف ومائتي عسكري وشرطي ورجل أمن عدا عن مدنيين منهم أكاديميون ضحايا لهذا التمرد باعتباره دعاية حكومية، فكيف يمكن تفسير ما جاء في تقرير لموقع «ديبكا» الالكتروني الإسرائيلي وثيق الصلة باستخبارات دولة الاحتلال في الرابع عشر من آب / أغسطس الماضي، على سبيل المثال، من أن «القوات السورية تواجه مقاومة شديدة، وتنتظرها مصائد مضادة للدبابات، وحواجز محصنة يحرسها محتجون مسلحون برشاشات ثقيلة... ويفكر الاستراتيجيون في حلف الناتو بصورة متزايدة في ضخ كميات كبيرة من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، ومدافع المورتر، والرشاشات الثقيلة في مراكز الاحتجاج لكسر ظهر القوات المسلحة الحكومية». ونسب التقرير إلى «مصادر إسرائيلية» لم يسمها قولها إن القيادة العليا التركية وحلف الناتو يدرسان تنظيم «جهاد» بتجنيد آلاف من «الإسلاميين» على نمط «الجهاد» و«المجاهدين» الذين نظمتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية ضد الغزو السوفياتي السابق لأفغانستان. إن أي محاولة لدحض مثل هذه التقارير بالادعاء أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قد سخرت أجهزتها لتأييد الرواية السورية الرسمية عن «السلفيين» العائدين من «مقاومة» الاحتلال الأميركي في العراق، الذين قدرت مصادر (مثلا المستشار السوري خالد الأحمد في تصريج للديلي ستار اللبنانية باللغة الانكليزية في 23/9/2011) عددهم بأربعة آلاف في جبل الزاوية، وألفين في منطقة حمص، سوف تكون محاولة لا يصدقها عقل ولا يقبلها منطق.
حركة «احتلوا الوول ستريت»
إن «حركة احتلوا الوول ستريت» التي بدأت في العاصمة المالية الأميركية لنظام العولمة الرأسمالية في نيويورك قبل أكثر من شهر لتتوسع منها إلى بقية مدن الولايات المتحدة قبل أن تمتد عبر المحيط الأطلسي إلى المراكز الأوروبية المماثلة، والتي ترفع شعار «نحن الـ99%» من الشعب، في وجه قلة الـ1% المتحكمة في الثروة والسلطة والقرار السياسي والاقتصادي، ربما جاءت في وقتها كي توقظ الحراك الشعبي العربي، ليستعيد وعيه، ويصوب اتجاهه، ويوحد صفوفه، ليظل التسعة والتسعون في المائة وراء هذا الحراك في مواجهة الواحد في المائة، الذين ارتهنوا القرار الوطني للحماية الأجنبية لاحتكارهم للسلطة والثروة. وقد عرفت حركة «احتلوا الوول ستريت» نفسها على موقعها الالكتروني بأنها «حركة لا قيادة لها... والشيء الوحيد الذي يجمعنا كافة هو أننا التسعة وتسعون في المائة الذين لن يتسامحوا بعد الآن مع جشع وفساد الواحد في المائة»، فهل يختلف هذا الوصف كثيراً عن الحراك الشعبي العربي! لماذا إذن يكاد هذا الحراك يضيع بوصلته!
وفي حرص الواحد في المائة العرب على الحماية الأجنبية أذعنوا لاحتلال فلسطين كأمر واقع منذ ما يزيد على ستين عاماً، واستسلموا لواقع الاحتلال الأميركي للعراق كقدر لا راد له، وشلوا أي عمل عربي مشترك حتى في حده الأدنى بحيث أصبحت الشراكة مع حلف الناتو اليوم هدفا لهم أقوى من أي معاهدة للدفاع العربي المشترك، شراكة تستحق التضحية بالاستقلال الوطني لأقطار عربية أخرى «عربوناً» لها، ليكون الوضع العربي الراهن، العاجز عن الدفاع والفاشل في صنع السلام، وضعا تمنحه جامعة الدول العربية التي يتحكمون بقرارها «شرعية» تحظر على مقاومة الاحتلال وتهديد السيادة الوطنية أي استعانة بأي دعم يرفضون هم أو يعجزون عن توفيره لها.
والمفارقة، كما كتب أحدهم في الغرب، أن المحتجين العرب المؤيدين للديموقراطية يدفعون اليوم من دمائهم ثمنا لقيم ثقافية وسياسية أميركية، بينما تستنزفهم الإدارة الحاكمة في واشنطن حتى الموت بتبنيها سياسات داخلية وخارجية تجاه العالم العربي تتناقض مع هذه القيم في حد ذاتها من ناحية وتتناقض معها بتبنيها لجدول أعمال دولة الاحتلال الإسرائيلي من ناحية ثانية.
وإذا لم تكن حركة «احتلوا الوول ستريت» كافية لفتح الأعين على تحريف أهداف الحراك الشعبي العربي وعلى حرفه عن أهدافه، فإن هذا الحراك في مساره الحالي يتجه نحو الانتحار الذاتي، فحلف الناتو وقيادته الأميركية الذين يتحايلون الآن لإجهاض الحراك المماثل لشعوبهم لا يمكن أن يكونوا أنصاراً للحراك الشعبي العربي. فعندما اقترح الرئيس الأميركي باراك أوباما زيادة الضرائب على من يزيد دخلهم السنوي على مليون دولار من الأميركيين، سارع رئيس مجلس النواب الجمهوري في الكونغرس، جون بويهنر، إلى معارضة الاقتراح باعتباره، كما قال، يرقى إلى «حرب طبقية».
ولم يكن الطابع الطبقي لـ«حركة احتلوا الوول ستريت» بحاجة إلى جون بويهنر لإثباته، فهي تحتج على انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وجشع الشركات الكبرى وقوتها ونفوذها وجماعات ضغطها التي حولت النظام السياسي إلى خادم لمصالحها وحارس لها، ولذلك فإنها تطالب بلجنة رئاسية مهمتها «إنهاء سيطرة المال على ممثلينا في الكونغرس»، وتعترض على «سيطرة الواحد في المائة من الأميركيين على 40% من ثروتنا». ولذلك أيضاً اتخذت الحركة «ساحات تحرير وتغيير لها» في شارع المال الرئيسي قرب مركز التجارة العالمي والبورصة في نيويورك، وفي أوروبا اتجهت مسيرة للحركة نحو مبنى البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، نيويورك ألمانيا، وعندما فضت الشرطة البريطانية تجمع الحركة أمام بورصة لندن خيمت امام كنيسة سانت بول التاريخية على مقربة منها فأغلقتها أمام السياح، وفي روما استهدفت مصلحة الضرائب ووزارة الدفاع، الخ.
حركة بلا قيادة
في الرابع من هذا الشهر، كشف تقرير لرويترز إحدى حيل قلة الواحد في المائة لتحسين صورتهم وامتصاص النقمة الشعبية على جشعهم وفسادهم. فـ«في مواجهة الحديث عن الحرب الطبقية في واشنطن ومسيرات الاحتجاجات على الوول ستريت، يستقوي بعض اللاعبين الكبار في أميركا الشركات الكبرى بالأعمال الصغيرة في ما يرى فيه مراقبون تحركات لتحسين صورتهم في زمن غضب عام متصاعد». فقد «تبرعت» شركة «ستاربوكس»، وهي أكبر سلسلة لتجارة القهوة في العالم، بخمسة ملايين دولار تقرضها لـ«الأعمال الصغيرة» والمنظمات غير الربحية. وتستعد شركة جنرال اليكترك العملاقة لاستضافة اجتماع في ولاية أوهايو «لتشجيع نمو الشركات متوسطة الحجم». لكن رويترز اقتبست من الاقتصادي بمعهد أبحاث السياسة الاقتصادية بواشنطن، جوش بيفنس، قوله تعليقا على مبادرات كهذه: «إنه استعراض في الأغلب. فالشيء الوحيد الذي سوف يحسن وضع العمالة في العامين المقبلين هو سياسة اقتصادية شاملة». والجدير بالذكر أن دعم «المانحين» الأميركان والأوروبيين لـ«الأعمال الصغيرة» والمشاريع الفردية في الدول العربية يأتي في رأس أولوياتهم، كما هو الحال مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «يو اس ايد» على سبيل المثال.
والمفارقة المفجعة أن هناك من نجح في دفع بعض الحراك الشعبي العربي إلى الاستنجاد بتدخل الحكومات الغربية التي تحاصر شعوبها الثائرة عليها وتقمعها، بالضد من كل منطق، إذ كيف يعقل لحكومات تضطهد شعوبها، وتحتل أو تدعم احتلال أوطان الغير، أن تدعم شعوب الأمم الأخرى في حراكها من أجل التحرر السياسي والاقتصادي!
واللافت للنظر أن حرف الحراك الشعبي العربي عن مساره وتحريف أهدافه قد أعماه عن القاسم المشترك الحيوي الذي يربطه بـ«حركة احتلوا الوول ستريت» التي أصبحت عالمية الآن. ومن الواضح أن هذه الحركة التي تصف نفسها بأنها «حركة بلا قيادة»، أو «حركة مقاومة لا قيادة لها» كما وصف امتداد هذه الحركة في جنوب إفريقيا نفسه، سوف يقود عدم وجود قيادة لها إلى إجهاضها وحرفها عن مسارها، حيث تبدو اليوم جماهير ماركس ولينين من العمال والملايين المتساقطة من الطبقة الوسطى التي أفقرتها العولمة الرأسمالية في الغرب تتحرك دون قيادة النظرية الماركسية وأحزابها الشيوعية. وبصورة مماثلة سوف يقود غياب أي قيادة نظرية وسياسية إلى عدم تنظيم الحراك الشعبي العربي وحرفه عن مساره.
ويتضح انحراف هذا المسار، بالمقارنة مع «حركة احتلوا الوول ستريت»، في عدم وضوح التوجه الاجتماعي للعوامل الاقتصادية التي فجرت الحراك العربي في المقام الأول، وهو حراك في «شعبويته» تعبير واضح عن «الصراع الطبقي»، وبالتالي كان المفترض أن تكون خنادق الصراع واضحة بين التسعة والتسعين في المائة من المحرومين وبين الواحد في المائة التي يطالب الحراك بإسقاط نظامها السياسي.
الخطر الداهم
لكن هذا الحراك في بعض ساحاته يكاد ينحرف عن هذا التناقض الرئيسي باتجاه صراعات ثانوية، فيتخذ في بعضها طابعاً دينياً أو يدفع إليه، فيثير انعكاسات سلبية على وحدة صفوف الحراك نظرا للتعددية التاريخية الدينية والطائفية والمذهبية، ويتخذ في بعضها الآخر طابعاً «ليبرالياً» يتحدى الإيمان الديني للشعب أكثر مما يتحدى التيارات الدينية السياسية، بحيث يكاد يتحول الصراع الطبقي في جوهره إلى صراع ديني – ليبرالي، مما ينذر باستنساخ اقتصادي للنظام السياسي الذي أسقط أو ما زال الحراك يجهد من أجل إسقاطه، وبحيث يكاد الحراك الشعبي ينسى حقيقة أن الواحد في المائة التي يسعى إلى إسقاط نظامها السياسي لا دين لها أو طائفة أو مذهب، وفيها من كل الأديان والطوائف والمذاهب، وترتبط مصالح جميعها بالعولمة الرأسمالية، وبالتالي فإنها الوحيدة التي لها مصلحة في التدخل الأجنبي لدول العولمة، وهي الجهة الوحيدة التي لها مصلحة في عسكرة الحراك الشعبي العربي، فالقلة المحتكرة للثروة والسلطة هي الوحيدة التي بحاجة إلى السلاح والتدخل الأجنبي لحمايتها وللتعويض عن فقدان التأييد الشعبي لها. لذلك فإن الدعوة إلى عسكرة الحراك الشعبي والمطالبة بالتدخل الأجنبي باسم الحراك ذاته هما دعوة ومطالبة تغطيان على المستفيد الوحيد منهما، والتسعة والتسعون في المائة ليسوا بحاجة لهما، وبالتأكيد لن يكونوا هم المستفيد منهما.