أسباب ومخاطر الهجرة الداخلية
مشهد الهجرة والنزوح من الأرياف والمحافظات المعدومة والفقيرة إلى العاصمة دمشق مشهد معتاد وأمر مألوف منذ عشرات السنين، ولكنه تضاعف مرات كثيرة في الآونة الأخيرة، حيث ينزح الشباب بالمئات إلى العاصمة التي أرهق كاهلها الازدحام والتضخم السكاني حتى وصل عدد سكانها الآن إلى سبعة ملايين نسمة.
مشكلة النزوح الداخلي لم تأتِ من عبث أو من فراغ، بل كان وراءها محفزات ودواع اقتصادية واجتماعية متعددة منها انعدام الاستثمارات الصناعية والمشاريع الاقتصادية في تلك المناطق، وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية. وهذه الأمور كافية لتمثل عوامل طرد تدفع بالشباب إلى التفكير بترك الأراضي والنزوح من المحافظات البعيدة إلى المدن. وهذا النزوح كان عشوائياً وغير منظم، ومعظمهم لم يستطيعوا التأقلم مع المدينة والانتقال إلى حياة ومرحلة جديدة وحياة اجتماعية مختلفة، فانتقلت طباع البادية والأرياف إلى المدن وحافظت على عاداتها وتقاليدها وأعرافها وعصبيتها دون أي تغيير،
الكثيرون كانوا مرغمين على النزوح وحافزهم الأساسي هو البحث عن العمل، فغادروا أصولهم وهربوا إلى العاصمة ساعين لتأمين الدخل اللازم لاحتياجات الأسرة، وبما أن طلب العمل والحاجة الملحة إليه، وانخفاض المستوى المعيشي الاقتصادي أو الفقر المطلق الذي تعيشه معظم المناطق التي نزح أهلها نحو مناطق جذب السكان، فإن أولى المشكلات التي يواجهها المهاجرون هي السكن، حيث يضطر الكثير منهم في معظم الأحيان إلى النوم في الخلاء، وفي أماكن العبادة أو الحدائق ريثما يستطيعون أن يجدوا سكناً جديداً، وقد تكون المشكلة مضاعفة إذا كانت العائلة بالكامل قد قررت النزوح مع رب الأسرة، وهذا ما يجعل الأسرة شبه مشردة إلى أن تجد مسكناً أو مأوى، والكثيرون منهم عندما عجزوا عن تأمين مساكن خاصة بهم أقاموا تجمعات (وادي المشاريع، مزة جبل، القدم، ركن الدين) في مساكن عشوائية قاموا بتأسيسها بأنفسهم، ومعظم هذه المساكن قد لا تتوفر فيها المطابخ أو الحمامات، ولا تتوفر فيها مياه الشرب، وإن بعض الأسر يمكن أن تقطن مع غيرها في منزل واحد، وهذا الواقع السيئ يجعلهم يرضون بالأجور الزهيدة في العمل، ما يؤثر سلباً على اليد العاملة حيث تصبح أسعار اليد العاملة أقل بكثير مما كانت عليه، حيث يصل أجر أي عامل عادي نصف ما كان يتقاضاه قبل هذه الفترة.
ومن أبرز أسباب النزوح الأخرى إلى دمشق ضعف النظام الصحي والخدمات الصحية في باقي المحافظات المهملة مثل ديرالزور والرقة ودرعا. قال لي أحد الموظفين من مدينة البوكمال التابعة لمحافظة ديرالزور: «إن الخدمات الصحية لدينا سيئة جداً والأطباء قليلون جداً وجميعهم من المتخرجين الجدد حيث لا توجد لديهم الخبرة الكافية للتعامل مع معظم الأمراض الصعبة المنتشرة في المنطقة، ولا توجد لدينا في المنطقة سوى مشفى واحدة إذا استطعنا أن نقول عنها كلمة مشفى تجاوزاً، فهي تفتقر لجميع الأدوات والأجهزة الطبية، ولا توجد فيها مراقبة حقيقية أو إشراف حقيقي وجميع أطبائها لا يمتلكون الخبرة ولا الكفاءة».
لعل هذا الكلام دليل واضح على أن توزع الخدمات الصحية في سورية يعاني من اختلالات وفجوات كبيرة على مستوى المحافظات فلا يزال معظم سكان الريف محرومين من توافر المراكز والوحدات الصحية الواقعة ضمن مسافة خمسة كيلومترات، ويشكل التوزيع غير العادل للخدمات عبئاً على صحة الأرياف، وهو أحد أبرز المسائل التي تدفع بسكان هذه المناطق للنزوح إلى المدن.
وزاد في المشكلة نزوح المئات إلى المدينة بهدف التعلُّم، حيث لا تتوافر في المحافظات النائية جامعات والطلاب مرغمون على الذهاب إلى دمشق من أجل الدراسة، أما بالنسبة للتعليم الأساسي والثانوي فالمدارس في المحافظات البعيدة قليلة وأحيانا بعيدة عن أماكن السكن، والمعلمون غائبون دائماً، والتسرب الدراسي منتشر، فالأمية واسعة في هذه المناطق، وقد يكون وراء نزوح البعض مواضيع أخرى كالزواج أو المشاجرات.
غالباً تدفع الإناث ثمن النزوح أكثر من الشباب وتعانين من المشاكل والضيق والتضييق أكثر منهم، فالأنثى لا تعرف المدينة ولا تعرف شيئاً عنها، ولا تعرف مصيرها المجهول في تلك المنطقة الغريبة عنها، وهي ترجو واقعاً أفضل قد لا تحصل عليه في ظل ظروف قاسية في المدينة.