قراءة في خلفيات (الافتراق) السعودي الأميركي

قراءة في خلفيات (الافتراق) السعودي الأميركي

بعد رعايتها قوى الثورة المضادة واندلاع «الربيع العربي» سارعت السعودية إلى سحب «800 مليار دولار» دفعة واحدة من المصارف الأمريكية،

في نهاية شهر آذار 2011، من مجموع تراكم ثروة بلغ 3500 مليار دولار لحسابها في أمريكا، جلبت لها متاعب سياسية مؤقتة لما شكلته من تداعيات على الاقتصاد الأمريكي أدت إلى هبوط قيمة الأسهم الأمريكية.

استندت بوصلة السياسة السعودية منذ عدة عقود إلى «مبدأين»: الولايات المتحدة هي قوة عظمى باستطاعتها توفير الحماية للعائلة الحاكمة، وأن الولايات المتحدة تعتمد على تدفق النفط إلى أسواقها من الجزيرة العربية. واستمر العمل بالاستناد إلى هذه الثنائية بنجاح نظراً لتقاطع مصالح الطرفين، إذ راعت الولايات المتحدة بعض المصالح السعودية في سياستها الشرق أوسطية وحوض الخليج العربي ومناطق أخرى، سيما وأنها كانت تصب في خدمة المصالح الأمريكية العليا مما يستدعي توفير الحماية لها عند الحاجة.
العلاقة التاريخية وإمكانية التعارض
ينشأ تعارض بين مصالح الأطراف المعنية أحياناً نظراً لتغير الظروف والقوى اللاعبة، سيما وأن المنطقة العربية لم تشهد وضعاً من عدم الاستقرار طيلة القرن المنصرم كما هي عليه راهناً. وتيرة الحراك الشعبي في البلدان العربية مقرونة بالتطرف والإرهاب العابر للحدود الإقليمية يهددان استقرار عدد من دول المنطقة. كما أن جهود إيران تقترب من إنجاز هدفها بالحصول على قنبلة نووية لو أرادت ذلك. السياسة الأميركية، بالمجمل، يشوبها التخبط والفوضى كأفضل تعبير عن انكفاء قوتها التي بشرت بها كقطب أحادي على مستوى الكون. كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى بروز عوامل الوهن والإعياء على القوات العسكرية الأمريكية والتي، امتداداً، لم تعد على ذات الهيبة والمكانة السابقة التي روجت لها طويلاً.
بروز أمريكا كمنتج عملاق للطاقة
شكل اعتماد الولايات المتحدة على تدفق النفط «السعودي» أحد مرتكزات ثوابتها السياسية، وحفزها لإنشاء «قوات خاصة للتدخل السريع»، في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي لتوفير الحماية العسكرية للتحكم بمصادر وتسويق الطاقة. ونظراً لطبيعة حجم اقتصادها الضخم وإفراط اعتماده على الحركة الدائمة ووسائل النقل الخاصة، لم يكن بوسعها توسيع هامش التنقيب واستخراج النفط من عمق خزان أراضيها ليواكب وتيرة تنامي الاستهلاك، على الرغم من تعدادها كأحد المنتجين الرئيسيين لمصادر الطاقة في العالم، النفط السعودي كان أقل كلفة وربما تم استغلال إنتاجه لأقصى مستوى ممكن كي تتجه أمريكا لاحقاً للتحكم مجدداً بالأسواق العالمية استناداً إلى مخزونها الهائل من موارد الطاقة.
شكلت هذه الخلفية عاملاً أساسياً محركاً لتوفير أمريكا الحماية لآبار النفط «السعودية» لضمان الولاء، بل تبعية السعودية لتحقيق مصالحها. في هذا الإطار، يمكننا رؤية تحرك إدارة الرئيس أوباما سياسياً بشكل حثيث في ملفات المنطقة كتعبير عن التعويض لتراجع النفوذ الأمريكي، دشنته في رعايتها «لاستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل».
العامل الآخر في تباين المصالح السعودية والأمريكية هو ما توصلت إليه تقنية استخراج النفط بالتفتيت الصخري من تطور والآفاق الواعدة لزيادة إنتاج أمريكا من النفط، معطوفة على زيادة الإنتاج في آبار النفط التقليدية، لا سيما في ولاية تكساس، مما يضع الولايات المتحدة في مرتبة جديدة لتبوأ موقع أحد المصدرين الكبار للطاقة على المستوى العالمي.
من اليقين أن تلك التطورات ستترك تداعياتها على عموم دول مجلس التعاون الخليجي التي تهاونت مجتمعة بتبديد ثرواتها الطبيعية بسرعة قياسية. وقد سجلت بيانات الاستيراد الأمريكي من النفط تراجعاً ملحوظاً لشهري كانون الثاني وشباط من السنة الجارية، إذ استوردت من الدول الخليجية معدلات أقل مما كانت عليه العلاقة على امتداد 20 سنة مضت. وقد تنبأت وكالة الطاقة الدولية، في شهر تشرين الثاني 2012، إن إنتاج الولايات المتحدة من النفط سيفوق معدلات إنتاج الدول الخليجية مجتمعة كأكبر منتج للنفط مع حلول عام 2020. ونتيجة لتعزيز قدرة الولايات المتحدة الإنتاجية لصناعاتها النفطية «غير التقليدية»، من المتوقع أن تتربع أمريكا على مركز الصدارة في إنتاج النفط لسنوات خمس مقبلة.
على هذه الخلفية، لا ينظر لدول الخليج النفطية أن تلعب دوراً مؤثراً أو قوياً في المدى الأبعد. إذ أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن واردات الولايات المتحدة من نفط الشرق الأوسط ستتراجع من معدل 1.9 مليون برميل يومياً، عام 2011، إلى ما لا يتعدى 100 ألف برميل يومياً عام 2035 – أي ما يشكل نحو 3% من مجموع استيرادها النفطي.
وعليه، تتطلع العائلة السعودية إلى البحث عن زبون وحليف دائم على المدى البعيد، والذي تشير التقديرات الراهنة ان الصين يمكنها ان تلعب هذا الدور.
تطويق فشل السياسة الخارجية الأمريكية
في الظروف الدولية الاعتيادية يبرز استبدال زبون «نفطي» بآخر كأمر لا يثير قدراً من الجدل، إلا أن المأزق «السعودي» في مبادلة موقع اميركا بالصين، نفطياً، ينطوي على تعقيدات جمة بالنظر الى طبيعة القوة العسكرية الصينية التي لا توازي مثيلتها الاميركية في توفير،أو الرغبة لتوفير، قدر حماية شامل لقطاع النفط السعودي. وما يفاقم الأزمة أيضاً عامل تفكك السياسة الخارجية الاميركية في عهد الرئيس اوباما مما أدى لبلورة عدة نقاط ملتهبة في الإقليم، يتعين على «السعودية» التعامل المباشر معها عوضاً عن إيلاء الأمر إلى عهدة الولايات المتحدة كما كان يجري دوماً.
من بين القضايا والملفات والتحديات البارزة نشأت الأزمة المصرية وحالة عدم الاستقرار في أكبر دولة عربية، عسكرياً وبشرياً وحضارياً، بجوار «السعودية،» التي ترعى ظواهر بروز التطرف الإسلامي برمتها منذ اعتلاء الثورة الايرانية سدة الحكم، 1979، وعدم الرغبة في استيلادها في ساحات أخرى لما تشكله من تهديد وجودي على كيانها.
دور الوضع المصري..
من نافل القول إن سياسة الرئيس اوباما نحو مصر اتسمت بالتقلب وعدم انتظام مسارها: إذ «قبلت» التخلي عن عمادها الأساسي في شخص الرئيس المخلوع حسني مبارك، وحافظت على دعم وتوطيد حكم جماعة الاخوان المسلمين، الأمر الذي دفع الإدارة إلى توجيه نقدٍ قاسٍ للقوات العسكرية المصرية ووزير دفاعها اللواء عبد الفتاح السيسي، مع ملاحظة عدم انقطاع سيل الدعم الأجنبي بالكامل.
لم يكن بوسع اوباما إلا الإعلان عن تعليق المناورات العسكرية المشتركة المقررة مع القوات المصرية، والتلويح بتعليق مؤقت لبرنامح المساعدات الاميركية للقوات المسلحة المصرية. بيد أن اتخاذ مسار أو إجراء أكثر وضوحاً مما تقدم لا يلوح في الأفق، الأمر الذي وفر قدراً من الاطمئنان لجماعة الإخوان بأن عودتهم للسلطة لا تزال واردة وبقاء التعويل على استمرار دعم ادارة الرئيس اوباما لهم. وهذا العامل بالذات هو ما أدى إلى تفاقم الأوضاع مجدداً ووقوع مزيد من الضحايا نظراً للمراهنات الخاطئة من الأطراف الموالية للولايات المتحدة.
التوجه السعودي نحو مصر، رغم ما ينطوي عليه من مغامرة تبرز تباينه مع توجهات السياسة الأميركية، كما تؤشر على مدى القلق السعودي من تعاظم قوة الاخوان المسلمين في إدارة أهم وأكبر دولة عربية. ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الاميركية بالقاهرة، جمال سلطان، قوله إن التوجه السعودي الجديد «ليس بدواعي التوسع. فالسعوديون يلجأون لمثل تلك الإجراءات بدافع الخوف وليس بدافع الجشع.»
يرى الجيل الصاعد للحكم في السعودية أن مصالحه في مصر ستكون في مأمن تحت حكم تسيطر عليه القوات المسلحة بدلاً من نظام ينادي بالخلافة الإسلامية مركزها تركيا العثمانية.
 الحكم أو الجزم على أحقية السياسة السعودية «الجديدة» سابق لأوانه، سيما وأن معالمها لم تكتمل بعد، وخاصة لعدم استقرار مركز وهوية الملك القادم بعد العاهل الراهن، عبد الله بن عبد العزيز، وتحديد الهيئات ومراكز القوى الداعمة له. مع كل تلك العوامل، ينبغي الإقرار بأننا نشهد نوعاً من التحول في بعض تطبيقات السياسة الخارجية السعودية للابتعاد بعض الشيء عن السياسة الأميركية في المنطقة، سيما وهي تترنح أمام بروز أقطاب دولية أخرى هامة، تزاحمها على قيادة عالم متعدد الأقطاب.

المصدر: مركز الدراسات الأميركية     والعربية – المرصد الفكري / البحثي قاسيون - بتصرف