العصر الكربوني الثالث 2/2
ترجمة : نور طه ترجمة : نور طه

العصر الكربوني الثالث 2/2

بدأ عصر النفط في عام 1859 بالتزامن مع بداية عمليات الإنتاج التجاري في غرب ولاية بنسلفانيا، لكن الانطلاقة الحقيقية له أتت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديداً أثناء النمو الهائل الذي شهدته ملكية السيارات.

على الرغم من الدور الهام الذي لعبه النفط في مجالي الإضاءة والتشحيم إضافةً لتطبيقات أخرى، إلا أنه بقي -عملياً- تابعاً للفحم. واستمر على هذه الحال إلى أن أصبح في الفترة التي تلت الحرب المصدر الرئيسي للطاقة في العالم. حيث ارتفع الاستهلاك العالمي من10  ملايين برميل نفط يومياً في عام 1950، إلى 77 مليوناً في عام 2000. أما اليوم، فقد بات النفط يغطي حوالي 97% من مجموع الطاقة المستخدمة في النقل حول العالم.
النفط والولايات المتحدة
لقد ترافق الازدهار النفطي مع توسّع كبير في القوة الأمريكية على الصعيد العالمي نظراً  للاحتياطات النفطية الضخمة التي كانت تمتلكها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى كونها أول من أتقن تكنولوجيا استخراج النفط وتكريره، ناهيك عن كونها أكثر الدول نجاحاً في الاستفادة منه في مجالات كثيرة ومتنوعة كوسائل النقل والتصنيع والزراعة والصناعات العسكرية. لقد تسبّب كل ما سبق بتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى أغنى وأقوى دولة في القرن الحادي والعشرين. الأمر الذي سمح لها بمراكمة مستويات مذهلة من الثروة، ونشر جيوشها وقواعدها العسكرية في جميع القارات، وبالتالي إحكام سيطرتها على كل من النقل الجوي العالمي والممرات البحرية. لكن وعلى الرغم من ذلك كله، فقد لاقت أمريكا -لاحقاً- الآثار السلبية ذاتها التي واجهتها بريطانيا عندما أفرطت في اعتمادها على الفحم.
عصر النفط والغاز «غير التقليديين»
لقد اتسم عهد النفط التقليدي بمميزات عديدة وفي ما يلي أهمها :
نمو هائل في مجال النقل الجوي والبري، توسّع عمراني كبير طال مناطق شاسعة من العالم، مكننة كل من الزراعة والحرب، تفوق عالمي للولايات المتحدة، بداية التغيّر المناخي.
ومن الجدير بالذكر أن هذا «النفط التقليدي» ليس متجدداً أي أنه في طريقه إلى الزوال يوماً ما. ووفقاً لتصريحات الوكالة الدولية للطاقة، فإن الحقول الرئيسية التي توفر حالياً الحصة الكبرى من النفط العالمي ستفقد ثلثي إنتاجها على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة، حيث سيتراجع إنتاجها الصافي من (68 مليون) برميل يومياً في عام 2009، إلى (26 مليون) برميلاً فقط في عام 2035.
وتضيف الوكالة بأنه سيتم اكتشاف موارد نفطية جديدة لتحلّ محل الإمدادات المفقودة، إلا أن معظم هذه الموارد ستكون ذات طبيعة غير تقليدية. وستحوز خلال العقود المقبلة حصةً متزايدة من مخزون النفط العالمي، إلى أن تصبح -في نهاية المطاف- المصدر الرئيسي للتوريد عوضاً عن النفط التقليدي. وينطبق الأمر ذاته على ثاني أهم مصدر للطاقة في العالم وهو الغاز الطبيعي، حيث أخذ المعروض العالمي منه بالتقلص.
لقد أصبحنا نعتمد وبشكل متزايد على مصادر توريد غير تقليدية، ولا سيما تلك الموجودة في القطب الشمالي وفي أعماق المحيطات إضافةً للصخر الزيتي المُستخرَج بواسطة تقنية «التكسير الهيدروليكي (المائي)».
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى ما تم إثباته -عبر المقارنة- من أن الوقود غير التقليدي (زيوت ثقيلة، رمال قطرانية، ..) يحتوي على نسبة عالية من الكربون تفوق تلك التي يحتويها النفط التقليدي، وبالتالي فإن هذا الوقود الجديد يطلق كمية أكبر من ثاني أوكسيد الكربون عند احتراقه. وهذا يعني أنه وكلما ازداد استهلاك الوقود الأحفوري، ستزداد كميات غازَي الميثان وثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، مما سيساهم في تسريع ظاهرة الاحتباس الحراري.
مشكلة العصر الكربوني الثالث 
لقد تبيّن أن إنتاج كل من النفط والغاز «غير التقليديين» يتطلب كميات كبيرة من المياه بغرض استخدامها في تقنيات التنقيب الحديثة كالتكسير الهيدروليكي، وأيضاً لتسهيل نقل وتكرير هذا النوع من الوقود. الأمر الذي يشكّل تهديداً متزايداً بتعرّض المياه للتلوث، ناهيك عمّا سيجري من تنافس على الوصول إلى إمدادات المياه بين المزارعين والسلطات المحلية وغيرهم من الأطراف. كما أن التأثيرات الكبيرة -وربما غير المعروفة- التي ستنتج عن انتقال النفط والغاز من «تقليديين» إلى «غير تقليديين» لن تقتصر على الشقّين البيئي والاقتصادي فحسب، بل ستمتد إلى الشؤون السياسية والعسكرية.
يشكّل الدور الحاسم الذي تلعبه الشركات الأمريكية والكندية في تطوير تكنولوجيا الوقود الأحفوري الحيوية إضافةً لامتلاك أمريكا الشمالية لبعض أكبر الاحتياطيات الغازية والنفطية غير التقليدية في العالم، عاملين مهمين في تعزيز القوة العالمية للولايات المتحدة على حساب منتجي الطاقة المنافسين كروسيا وفنزويلا اللتين تواجهان ارتفاع سقف المنافسة مع الشركات الأمريكية الشمالية، و أيضاً على حساب الدول المستوردة للطاقة كالهند والصين اللتين تفتقران إلى الموارد والتكنولوجيا اللازمة لإنتاج الوقود غير التقليدي.
مالعمل؟
لا بد من التنويه بدايةً إلى أنه وخلافاً للتوقّعات التي صدرت عن العديد من المختصين في مجال الطاقة مع بداية هذا القرن، فإن أياً من النفط والغاز لن ينضب قريباً.
مع اتساع الاستثمارت الضخمة في قطاع النفط غير التقليدي وازدياد الاعتماد العالمي على الوقود المستَخرج منه، فإن المصارف وشركات الطاقة والجهات الاقتصادية الأخرى ستجني أرباحاً طائلة. أما بالنسبة لنا -الناس-  فإن معظمنا لن يتمتع بهذه الفوائد، بل سنواجه بدلاً عنها المشقة والمعاناة اللتين ستصاحبان كلاً من ازدياد حرارة كوكبنا، وندرة إمدادات المياه -المتنازَع عليها- في مناطق عديدة، وتلاشي المساحات الطبيعية الغنية.
إذاً، ما العمل؟ لا شك أن الدعوة إلى المزيد من الاستثمار في الطاقة الخضراء أمرٌ ضروري، إلا أنه غير كافٍ في ظل الإصرار الذي تبديه الدول المهيمنة على تطوير مختلف أنواع الوقود غير التقليدي. كما أن إطلاق حملة تدعو لفرض قيود بغية الحد من انبعاثات الكربون هو أمرٌ ضروريٌ أيضاً، لكن الإشكالية هنا تتلخص بالانحياز المؤسساتي الواضح والعميق تجاه الطاقة غير التقليدية.
إن المطلوب اليوم، بالإضافة إلى ما ذكرناه، هو حملة كبرى تهدف إلى فضح المخاطر الجسيمة التي تتسبب بها الطاقة غير التقليدية، بالإضافة إلى مهاجمة وتشويه صورة كل من يختار الاستثمار في هذه الأنواع من الوقود عوضاً عن بدائلها الخضراء المتوافرة.
لقد تم بالفعل تنفيذ بعض هذه الجهود، حيث بدأت أعداد من الطلاب بإطلاق حملات بغرض إقناع أو إجبار كلياتهم وأمناء جامعاتهم على سحب ومنع قيام إدارات هذه الجامعات من الاستثمار في أي من شركات الوقود الأحفوري. ومع ذلك، فلا تزال هذه الحملات قاصرة. لذا يجب إطلاق حملة شاملة كبرى قادرة على تحديد ومقاومة جميع المسؤولين عن الاعتماد المتزايد على الوقود غير التقليدي.
إن كل ما قاله أوباما عن «ثورة تكنولوجية خضراء» ليس له أي صدى على أرض الواقع، فما زلنا حتى الآن محاصرين في عالمٍ يسيطر عليه الوقود الأحفوري بأنواعه المختلفة. أما الثورة الحقيقية الوحيدة التي تجري الآن هي ثورة الانتقال من نوع وقود معيّن إلى نوع وقود مختلف.
إذا أراد أحد التعرّف على كيفية صنع كارثة عالمية، فإن ما يجري بلا شك هو أفضل إجابة.  إذا أرادت الإنسانية تجاوز هذه المرحلة، فعليها بدايةً أن تتعامل بذكاء أكبر مع موضوع الوقود الجديد، ومن ثم أن تعمل بكل قوتها على اتخاذ خطوات تفضي إلى تقصير عمر العصر الكربوني الثالث من جهة، وتسريع ظهور عصر الطاقات المتجددة من جهة أخرى. وإلا، فسنصل إلى يومٍ لا يبقى فيه شيء لم يحترق سوى أنفسنا !!

عن (غلوبال ريسيرتش)

 هوامش :
*مايكل كلير : أستاذ دراسات الأمن والسلام العالميين في جامعة نيوهامشر الأمريكية.