محطات تاريخية بمناسبة ذكرى تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال (1)
في الثامن عشر من آذار عام 1938 عقد العمال اجتماعهم الذي دعت إليه اللجان العمالية في دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وباقي المدن الكبرى، والذي استمر حتى يوم 22 منه، حيث تحول هذا الاجتماع لمؤتمر تأسيسي أسفر عن تشكيل الاتحاد العام لنقابات العمّال ومقرّه دمشق، والذي أصبح منذ ذلك الوقت الإطارَ التنظيمي لنقابات العمال العديدة التي تشكّلت في معظم المحافظات والمدن بين عامي 1925 وحتى 1938. وقد كان توقيع المعاهدة السورية الفرنسية عام 1937 وقيام الحكومة الوطنية لأوّل مرة بمثابة الدافع المحفِّز الأكبر الذي دفع بالعمّال للإقبال على تنظيم أنفسهم وتحويل اجتماعاتهم السرّية وشبه السرّية إلى اجتماعات علنية، رغم وجود نصوص قانونية تمنع ذلك، وفعلت تلك الاجتماعات فِعلَها، حيث تشكَّلتْ لجان خاصة مهمتها البحث والعمل على توحيد الحركة النقابية في جسد نقابي واحد، تكلَّل بمؤتمر التأسيس في تجسيد عمليٍّ لوحدة النضال الوطني والطبقي لعمال سورية وحركتهم النقابية.
لخَّصَ المؤتمرُ مطالبَ العمّال في تلك الفترة وتقدَّم بها للمجلس النيابي والحكومة ومن هذه المطالب:
ضمان الحريات النقابية وتحديد ساعات العمل وتنظيم دفع الأجور في مواعيد ثابتة، ودفع التعويضات حين التسريح والحالات الطارئة، والحد من استخدام عمالة الأطفال والأحداث، ومراقبة أمكنة العمل، وتعيين درجات العمل، ومنح الإجازات السنوية والراحة الأسبوعية، وتحديد الحالات والمخالفات الخطرة التي تسمح بطرد العامل دون تعويض.
العمّال في وجه الاستعمار الفرنسي
استطاع العمّال تحقيقَ هذا الإنجاز من خلال اكتسابهم لأعلى درجات التأييد والدعم جرّاء نضالهم ضدَّ الانتداب الاستعماري، في ربط أصيل بين النضال الطبقي النقابي والوطني ضدّ الاستعمار وأدواته ومرتكزاته الاقتصادية والسياسية والفكرية، وفي تحدٍّ للقوانين التي سَنَّتْها السلطة الاستعمارية بهدف حرمان العمّال ونقاباتهم من العمل السياسي، والمجاهرة بالأهداف الوطنية والسياسية والطبقية.
وازداد العمل النقابي غنى وعمقاً بتزايد القمع الاستعماري وبنمو النضال الجماهيري، الذي أصبحت الحركة العمالية السورية أحد فصائله الأساسية، وكثيراً ما تحوّلت النضالات المطلبية من أجل زيادة الأجور وتحسين معيشة العمّال إلى المطالبة الصريحة بحماية الصناعة الوطنية وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحماية الوحدة الوطنية، والمطالبة بالاستقلال ورحيل المستعمر عن الوطن.
كلّ ذلك لم يكن ليتم إلّا من خلال تكوين الاتحاد العام لنقابات العمّال في سورية، ممّا شكّل في النهاية نواةَ طبقةٍ عاملة ذات دور تاريخي كبير في مفاصل عديدة من تاريخ سورية خلال الاستقلال وبعده.
دور العمال في مواجهة الدكتاتورية
بعد 11 عاماً من إعلان تشكيل الاتحاد العام لنقابات العمّال، وثلاثة أعوام على الاستقلال، شهدت البلاد انقلاباً عسكرياً هو الأوّل من نوعه، قام به حسني الزعيم، وقبل أن يجفَّ حبرُ بيانات الانقلاب انفضحتْ أهدافُه المشبوهة عندما أعلن عن نيّته توقيعَ اتفاقية (التابلاين)، كونه أمسك بجميع السلطات بعد اعتقال رئيس الحكومة، وحلّ المجلس النيابي، ماضياً بإقامة دكتاتورية عسكرية فرديّة. فقوبلت إجراءاته بسخط وغضب ورفض من القوى السياسية الوطنية والاجتماعية، وخاصة اليسارية منها، والتي بدأت بالتواصل مع الحركة النقابية والطلابية بصورة سرّية من أجل القيام بعمل مشترك ضد الحكم الدكتاتوري الوليد الذي اغتصبَ السلطة دون الرجوع للشعب، حيث حان وقت إسقاطه مع كل القوى اليمينية التي تسانده، والتي عملتْ على تغلغل عناصرها المشبوهة داخل المؤسسات والمديريات التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية والجمارك، كي تقوم بدورها التخريبي؛ من خلال فتح أبواب الاستيراد أمام البضائع والمنتجات الأجنبية التي تزاحم المنتجات الوطنية، بالتنسيق مع شركات تجارية احتكارية. وهكذا تصاعدت الموجة الأولى من حملات الإضراب والتظاهر، التي نظمها عمّال السّكك الحديدة في حمص وعمّال النسيج في حلب، لتتوالى بعد ذلك الإضرابات في معامل الغزل والنسيج في المدن الأخرى، وأسفرت عن التصادم مع عناصر الدرك والشرطة. فتعرَّضَ العمّال للضرب والقمع والاعتقال، وأعقبت ذلك موجاتُ إضرابٍ عديدة، تجلّى فيها نشاط القوى العمالية والفلاحية والطلابية، وفي عدة محافظات كدمشق وريفها وحماة واللاذقية، نظراً للمعاناة الكبيرة لمجمل الشرائح فيها، ولنشاط الأحزاب الوطنية التحررية ضمنها. ولم يستطع ذلك النظام الصمود طويلاً لأكثر من ستة أشهر، أمام الضغط الشعبي المستمر، رغم الدعم الأمريكي والغربي له، وخاصة شركات النفط الاحتكارية، لينتهي بانقلاب سامي الحنّاوي ومقتل حسني الزعيم ورئيس وزرائه. وأعلن الحنّاوي بأنه سيعيد السلطة إلى الشعب، وعهد لهاشم الأتاسي تشكيل وزارة ائتلافية من جميع الأحزاب، مهمتها تسيير الأعمال، والإشراف على إجراء انتخابات لجمعيةٍ تأسيسيّة، ووضع دستور جديد للبلاد، وإطلاق الانتخابات العامّة التي جرتْ بعد ثلاثة أشهر من العام نفسه. وفي الخامس من أيلول 1950 نُشِرَ الدستور السوري، يتضمن 166 مادة، قال في مادته 26 بوضع تشريعٍ للعمل يحدّد الأجورَ وساعات العمل والعطل المأجورة، ومسؤولية الدولة بتوفير فرص العمل، لتكون هذه المادة وغيرها مؤشِّراً على وزن الطبقة العاملة، ومن ورائها القوى الوطنية اليسارية في الوصول إلى دستور 1950.
النقابات وأهمية المرحلة
مرّت منذ أيام الذكرى 87 لتأسيس الاتحاد العام لنقابات العمّال، والذكرى 100 لتشكيل أوّل نقابة عمالية على مستوى البلاد، لنستذكر بهما ليس تاريخنا العمّالي النقابي كجزء من تاريخ سورية فحسب، بل ولنضعَ نصبَ أعيننا المهام الآنية والمستقبلية. فالحركة النقابية اليوم تمرّ باختبار عصيب على كافة الأصعدة، خاصة بعد أن أُنهِكتْ قواها وأُضعِفَ دورُها، خلال عقود الهيمنة والاستبداد وسنوات الأزمة الوطنية الشاملة ضمناً، حيث لم تستطعْ طوال تلك السنين الطويلة منعَ الهزائم المتلاحقة، سواء الطبقية والسياسية والمعيشية منها، حيث حَشَرَها خصومُها في أضيق الزوايا، ومنعوا عنها الهواء والماء، وراهنوا على موتها التدريجي البطيء، كونهم قرأوا تاريخَها وعلموا أهميّتها، فكلُّ سلطةٍ جديدة بدءاً من سلطات الاستعمار الفرنسي، مروراً بسلطات الانقلابات العسكرية المتتالية، وانتهاءً بسلطة نظام الأسد الأب والابن، وضعت ضمن أهدافها الإمساك بالتنظيم النقابي، ولَيَّ عنقِه والتحكمَ به، كونها غير قادرة على إنهاء وجوده ومحو تاريخه. وكل إنجاز حققته الطبقة العاملة والحركة النقابية لم يأتِ إلّا بشقّ الأنفس، وكنتيجة لعمل أبنائه المناضلين الحقيقيّين، الذين حافظوا على درجة من الممانعة منعت تصفيته بالكامل. واليوم وبعد سقوط سلطة النظام المعادي للطبقة العاملة، يبدأ أمامنا طريقان لا ثالثَ لهما: فإمّا طريقُ وحدة البلاد والتحرر والعدالة الاجتماعية والنهوض، وإمّا التقسيم والخراب بلا عودة. وكما حدّدت الطبقةُ العاملة خياراتِها الوطنية خلال تاريخها الطويل، فإنها ستبقى في طليعة المجتمع السوري المناضل الساعي للحرية والكرامة والعدالة.
- المَراجع: الطبقة العاملة وحركتها النقابية – عرض تاريخي توثيقي – إصدار الاتحاد العام لنقابات العمال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1219