لماذا يرفضون الإجازة القسرية
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

لماذا يرفضون الإجازة القسرية

منذ أن بدأت قرارات الحكومة المؤقتة بالصدور تباعاً لم يكن أحد يتخيل، حتى المتشائمين منهم، هكذا قرارات لا من حيث الكم ولا النوع، ولا من حيث الآليات والمعايير. والطامة الكبرى كانت بسرعة اتخاذها وعدم قانونية إجراءاتها. وذلك رغم التمهيد الإعلامي الكبير والكثيف لها، الذي ارتكز على عناوين عريضة غير محددة أو واضحة، وكأنها قوالب جاهزة صادرة عن قناعات ذاتية ممزوجة بتصورات بعيدة عن الواقع بحد ذاته، مثل إعادة الهيكلة ومحاربة الفساد والتخلص من الترهل، وبأن ثلث موظفي قطاع الدولة وهميّون وهم عبارة عن فائض... إلخ. وأصبحت هذه العناوين مبرّرات وذرائع لإطلاق مئات القرارات المتتالية بحق مئات آلاف الموظفين والعمال العاملين في القطاع العام الحكومي وبجميع القطاعات من عمال المطاحن حتى أطباء الأعصاب والمهندسين. ورغم التراجع عن بعضها أو تعديلها هنا أو هناك فإنّها لم تفلح في إصلاح مساوئها الكبرى، بل عبّرت عن افتقادها للصواب لافتقادها للمعايير والشرعية القانونية لأنّها انطلقت من أهداف عامة وعناوين غير مدروسة وغير واقعية على مبدأ «منقطّع الأصابع بعدين نعدّها».

اختلفت القرارات الصادرة وتم تصنيفها من قبل العمال بعد صدورها، منها ما سمّي بكفّ اليد وهناك الفصل وعدم تجديد العقود، والإجازات القسرية المأجورة، وهناك أيضاً قرارات تجديد العقود لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة وفق الحاجة على حد قولهم، ولدينا أيضاً التقاعد المبكر لمن أتم 25 سنة. وأغلب هذه القرارات خرجت بشكلها الأول شفهياً عبر التبليغ المباشر أو عبر «الواتساب» وتم تدارك ذلك بالأشهر والأسابيع اللاحقة وخرجت القوائم المُروَّسة بأسباب القرار والجهة المصدرة للقرار ومبرراته، التي ارتكزت بغالبيتها على مواد انتقائية من قانون العاملين، أو وفق مقتضيات الحاجة وقرارات حكومة تصريف الأعمال التي شرّعتها لنفسها. لا يمكن إنكار أنّ بعض القرارات القليلة وخاصة بكفّ اليد والفصل قد أصابت بعض الموظفين الفاسدين والوهميّين، أو كما تم تسمّيتهم بالأشباح، لكن ذلك لا ينفي بل يؤكّد الخسائر الجانبية الكبرى المتمثلة بذهاب الصالح بجريرة الطالح بل إنّ هناك قرارات أطاحت بالصالح وأكرمت الطالح وثبتت أركان وظيفته وفساده المعروف من قبل زملاءه، وهذا لم يكن ليحدث لو ارتكزت تلك القرارات على معايير وآليات قانونية ومهنية مدروسة وعلمية، وإنْ قيل بأنّ هذه القرارات كانت نتيجة تقييم، فلا يخفى على أحد بأنّ ما سمّي بالتقييم الذي أجري شكليّاً ببعض الأماكن لا يشبهه بشيء سوى بالمسمى، فلا لجان مؤهلة للتقييم ولا معايير عامة واضحة ومعظم من كان قائماً على التقييم يحتاج بحدّ ذاته لتقييم ومراجعة، لذلك وجب على الحكومة الحالية أو القادمة تجميد جميع قرارات الفصل وعدم تجديد العقود، وتشكيل لجان مختصّة تضم التنظيم النقابي وخبراء حقوقيين وإداريين ومهنيّين يضعون بنوداً علمية لتقيم الأداء خلال العمل، وهو شرط أساسي له لا أنْ يجري وهم في منازلهم ينتظرون نتائج أقل ما يقال عنها بأنها فوضوية ومزاجية وغير علمية.

خشية العمال نابعة من وعيهم

من أكثر القرارات صدوراً كان قرار الإجازة المأجور لمدة ثلاثة أشهر على الراتب الحالي والتي طالت عشرات الآلاف من العمال في القطاع الإنتاجي ومثلها في القطاعات الخدمية وآخرها القطاع الصحي تحت بند غير فعال والذي أصبح حديث الشارع بالأسبوع الأخير نظراً لخروج الاحتجاجات في أكثر من محافظة ومدينة سورية ولعدة أيام متتالية وصرح بعض المسؤولين وهم يعبّرون عن استغرابهم من هذه الاعتراضات فهي على حد قولهم «إنما هي إجازات مأجورة توفر عليكم الوقت وأجار المواصلات، شو بدكم أحسن من هيك؟ ونحن خلال هذه الأشهر سنقيم واقع المنشآت والمديريات ومن نحتاجه سنعيده لعمله ومن لا نحتاجه سنعيد توظفيه في أماكن شاغرة حتى لو كانت خارج ملاكه لأننا نريد أن يكون فعالاً»، وطبعاً لم يكن لهذا التصريحات وقعٌ إيجابي عن العاملين في معظم القطاعات ممّا أثار استغراب المسؤولين وحتى بعض النقابات دون أن يعلموا حقيقة الموقف العمالي بهذا الخصوص.

الخوف من الخصخصة

تعددت أسباب رفض هذه القرارات والمبررات والتصريحات عن العاملين التي طالتهم هذه القرارات ولكنها تطابقت ببعض الجوانب؛ أولها الخشية من تجاوزات قانونية كونهم يرون عدم قانونية الإجازات لعدم ورودها بقانون العاملين الأساسي وبأنه في حال تغيبهم عن عملهم لمدة تتجاوز 15 يوماً يجعلهم بحكم المستقيلين وبالتالي يعتبرون أن هذا فخ قانوني لا يريدون الوقوع فيه ورغم أن بعض القانونيين أقروا بأنها ما دامت إجازة مأجورة وصادرة بقرار فهذا ينطبق عليه قانونياً وجودهم على رأس عملهم ولا يعتبرون غائبين، لم يسبب لهم القناعة والارتياح الكافي، وأما ثانياً عدم الثقة بالوعود التي ضمنت عدم فصلهم كونهم لمسوا التخبط والفوضى بإصدار القوائم ثم تعديلها أو تغييرها للفصل ببعض المؤسسات، وكان هناك دواعٍ جوهرية لعدم القبول بقرار الإجازة المأجورة؛ أهمها نهج الخصخصة الذي يستمر تداوله والتصريح به، بل انتقلَ للتطبيق ببعض القطاعات بعد قرار الحكومة الأخير بوضع عشرات المعامل على قائمة الاستثمار وهذا ما جعل العاملين بها يخشون ذلك ويرون بأنّ قرار إرسالهم للمنزل ليس إلّا للتخلّي عن هذه المنشآت وبالتالي التخلي عنهم لاحقاً وبأيسر الطرق.

إقصاء العمّال أسوأ الأفعال

من الجوانب التي ظهرت بطروحات العمال الرافضة للإجازة المأجورة هي الجوانب المعنوية؛ فارتباطهم بوظائفهم وأماكن عملهم وترابطهم الاجتماعي ضمنها له قيمة معنوية كبرى، وأبلغ مثال لذلك عشرات التعليقات التي خرجت على وسائل التواصل الاجتماعي، المعبرة عن عدم قبولهم لأخذ رواتبهم دون عمل وبأن كرامتهم لا تسمح بذلك، بل هم راغبون بالعمل والبناء والاستمرار والقيام بواجبهم الوطني والمهني، وبأن قدرتهم على النهوض بواقع عملهم رغبة طال انتظارها وهم طامعون باستثمار هذه الفرصة لتغيير واقع منشآتهم ومعيشتهم أيضاً، خاصة مع الآمال بانفراجات تدريجية بالواقع الاقتصادي مما سينعكس على قيمة أجورهم وبالتالي وضعهم المعيشي اللاحق.
إن أي إقصاء لرأي العاملين بالقطاع العام، وعدم مشاركتهم بصناعة القرار، كما حدث وما زال يحدث، هو عين الخطأ، وسيولّد نتائج وتداعيات كارثية على القطاع العام وعامليه معاً، وعلى السلطة أيضاً، وهذا ما يجب على النقابات التنبّه له والإسراع بالانخراط بالقرار، وحماية القطاع العام وعمّاله وموظفيه. ورغم كل ما يعانيه القطاع العام من تدهور تهالك ما زال به الخير المتمثّل بعمالٍ لا مثيل لهم بالعزيمة والخبرة والروح الوطنية العميقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1217