أيها العمال اسمعوا كلام أبو عمر
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

أيها العمال اسمعوا كلام أبو عمر

يُخرِجُ أبو عمر من جيب بنطاله «الأثري» بضعة آلاف من الليرات ويدسُّها بيد زوجته طالباً منها الدّعاء له، فتنهمر عشرات الدعوات من قلب محروقٍ مليء بالعزيمة والحماس – «الله يعوض عليك، الله ينصركم ويحميكم ويرد الظلم عنكم، ولا تنسى تجيب الخبزات من الفرن معك أنت وراجع!». أطبقَ بابَ البيت وراءه بعزم وحماس، ونزل بهمة على درجات البناء حاملاً ملفوفات من الكرتون ليصل إلى الشارع ويركب «ميكرو باص» ينقله إلى العاصمة، كونه يسكن في مدينة قطنا بريف دمشق التي تبعد عن عنها 20 كم. أخذ أبو عمر يحدِّثُ نفسَه طوال الطريق إلى ساحة يوسف العظمة عند مبنى المحافظة «ما بحكّ جلدك إلّا ضفرك، لازم يعرفوا أنو نحنا ما منسكت عن حقنا، وأنو لحمنا مرّ كتير، شو بدهم فينا تَرَكوا كلّ هالحرميّة ولحقونا على لقمتنا، أنا بفرجيهم، إنْ شالله ما يتأخّروا الشباب، ضروري يجي الكل ونكون كتار». يصعد زميلُه إلى الميكرو عند مفرق معضّمية الشام، ويلقي التحية عليه ويسأله وقد بدا على وجهه القلق والتردّد: «كيف الهمة اليوم؟»، فيجيبه بثقة وتفاخر: «عال العال، ما في أحسن من هيك، وإنْ شالله ما نتأخر عالاعتصام».

يصل أبو عمر وزميلُه إلى الموقع الذي تمَّ الاتّفاقُ عليه لينضمَّ إلى عشراتِ الزُّملاء المتجمِّعين فيه، يستقبلونَه بوجوه بشوشة وحماسٍ واضح، وكأنّهم كانوا بانتظار أحدِ الأبطال أو المشاهير، يلتفُّون حولَه ويسألونَه عن اللافتات وعن «كمالة» الموظفين ولماذا لم يأتوا بعد، يتنقّل بنظره بين الوجوه لمعرفة الحاضرين ويُخرِج هاتفَه المحمول من جيبه ويبدأ سلسلةً من الاتصالات لعشرات الزملاء، وتبدأ معالم الخيبة والغضب بالظهور على وجهه مُخفياً كلَّ ذلك في حديثه أو صوتِه، كاظماً غيظَه بحكمة ومسؤوليّة. يبدو أن عدد الحاضرين للاعتصام لن يتجاوز 60 عاملاً، فيقوم بإخبار العمّال المجتمّعين بذلك، وبأنّ باقي الموظفين المتضرِّرين الذين وعدوا بالمشاركة لن يأتوا اليوم، لتعمّ فوضى التعليقات والرّدود لدقائق طويلة مليئة بالانتقاد والاتهام بالتخاذل والخوف، وضرورة العودة للمنازل والخروج من المكان، وإنهاء صفحات ومجموعات «الواتس» التي ينسِّقون عليها، ولتتفقَ الأغلبيةُ بنهاية الأمر على عدم جدوى بقائهم، وبأنّ هذا العددَ الخجول سيُضعِفُ مطالبَهم ويجعلهم لا يصلون إلى شيء أبداً. لم يكن صمت أبو عمر خلال الدقائق الطويلة من النقاش الحادّ إلّا فرصةً ليستوعبَ الذي حصل بعقلٍ بارد وينظِّمَ أفكارَه ويصيغ موقفه الذي ينتظره الجميع.

الخطيب القائد

يحمل أبو عمر حجراً كبيراً ويضَعُه على طرفِ أحدِ الأرصفة ويعتليه، آخِذاً وضعيَّةَ الخطيب، ويطلُبُ مِن الجميع الاقترابَ مِنه لأنّه يريد أنْ يقولَ لهم شيئاً، وبعد أنْ يشكّلوا حوله نصفَ دائرة، ويعمَّ الصّمت المصاحِب للانتظار، يبدأ أبو عمر خطابه قائلاً:
«يا شباب، يا زملائي الأحباء وزميلاتي المحترمات، نحنا منعرف بعض من زمان، نحنا عِشرة عمر، بعرفكم واحد واحد، وبتعرفوني منيح. قضينا عمرنا بهالوظيفة خدمنا فيها هالناس كل الناس، ما كنا نسأل حدا منهم انت من وين ولا انت موالي أو معارض. وكانت مديريّتنا متل البلد فيها كلّ التنوع من كلّ المحافظات. كنا نجي عشغلنا تحت الخطر نرجع على بيوتنا يا دوب معنا حق الخبزات. وقت يمرض حدا من ولادنا ننط من مستوصف لمستوصف وإذا كان الدوا غالي نعمل لمّية بيناتنا لنساعد بعض. أكَلْنا من نفس الصحن وشربنا من ابريق شاي واحد. نستنى آخر الشهر لحتى المديون من زميلو يرجّعلو الدِّينات. ما بحياتنا كتبنا تقارير ببعض. ووقفنا بوش المديرين اللي كان كتير منهم فاسد واللي كانوا يقبضوا بالسر وبالعلن. صبرنا كتير واتحملنا اللي ما حدا بيتحمّلو، واليوم لازم ما ننسى هالشي، نحنا مهدَّدين بوظايفنا وكرامتنا ولقمة ولادنا. القصة مو بس قصة وظيفة وراتب، القصة فيها كرامة. نحنا مو مجرّد أرقام بتنجرد على برنامج (الإكسيل)، ولا فائض ولا فلول نظام ولا كمالة عدد، ولا جايين نشحد عبواب المسؤولين، أو نطلب حسنة أو مَكرمة قيادة. نحنا أكبر من هيك، نحنا سوريّين وبس. وكل يومين لح انزل لهون واعتصم لو بقيت معتصم لحالي».

الظلم واحد ولازم نكون كلنا واحد

وتابع أبو عمر كلامه: «وأنا عم اسمع عياطكم وانزعاجكم من رفقاتكم اللي ما أجوا، فكرت منيح ليش هيك صار؟ مع أنو قالوا انو جايين. وعرفت ليش... لأنو الناس، لسّا الناس لابسها الخوف ولأنو لساتهم مفكرين انو كلمتهم مالها وزن، وما بتعمل فرق. لأنو لسا علقانة بذاكرتهم ممارسات القمع والعنف. وفي منهم ما معهم أجار الطريق يوصلوا لهون. فطوّلوا بالكم على رفقاتكم، انتوا هون مشان تعلّموهم وتأثّروا فيهم، وتشجعوهم لينزلوا مرة ومرتين وتلاتة. لأنو القصة هيك بتبلّش، هي نواة أول. بتتذكّروا كيف بلّش الحراك بعشرات الأشخاص؟ بعدين صاروا يعبوا الساحات! وهاد شغلنا اليوم. كل اعتصام لمعمل أو مديرية عم ينزل 60 أو 100 عامل، هدول لازم يتجمعوا مع بعض. ويوم ورا يوم بصير الاعتصام أكبر، لأنو القرارات وحدة والظلم واحد. بس نحنا لساتنا مفرَّقين. وحتى لو رجَّعُوا على الوظايف ناس، وتركوا ناس، حنضلّ كلنا إيد وحدة، ونكمل اعتصامات. ومتل ما بتعرفوا أنا ما طلع فيّي أيَّ قرار، وكنت أوّل واحد ضد القرارات، لأنّو لازم نكون إيد وحدة. لأنو لقمة ولادنا وحدة».
فيهتف المعتصمون معاً: «واحد واحد واحد، عمّال سورية واحد».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1211