حال الحرفيّين اليوم

حال الحرفيّين اليوم

قُدِّرَتْ أعداد الحرفيين في سورية حتى نهاية عام 2011 بنحو 750 ألف حرفيٍّ، وساهمت الصناعات الحرفيّة بـ 60% من الناتج المحلّي، وقد وصل عدد المنشآت الحرفية في الصناعات الكيماويّة والغذائية إلى 100 ألف منشأة.

وكانت سنوات الثمانينيّات والتسعينيّات مِن القرن الماضي العصرَ الذهبيّ بالنسبة للحرفيّين في سورية، وازداد هذا القطاع اتّساعاً حتى باتَ يشكّل 73% من القوى العاملة، ولكن منذ عشر سنوات تقريباً بدأ توجيهُ ضرباتٍ قاصمة للحرفيّين، بسبب السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، التي ألغت مبدأ حماية المنتج الوطني واتّبعت سياسةً في الانفتاح الاقتصادي على حساب المنتَج الوطني، أدَّتْ إلى إغراق البلاد بالبضائع المستورَدة، إلى جانب مِضيّ الحكومات المتعاقبة بسياسة رفع الدعم عن المواد الأوّلية وخاصّة المحروقات والكهرباء، وفرض ضرائب عشوائية مرتفعة على الحرفيين، ممّا أدى إلى إغلاق العديد من المنشآت الحرفية وإفلاسها لعدم قدرتها على المنافسة. فعلى سبيل المثال أدّى استيراد البضائع التركية إلى ضرب صناعة الموبيليا في سورية، وإغلاق الآلاف من ورش الخياطة بسبب الألبسة المستوردة، عدا عن تراجع القطاع الحرفي الصناعي والغذائي الذي مُنِي بخسائر فادحة (مع العلم أنّ هذه البضائع السورية كانت تتمتّع بجودة أعلى من الكثير من نظيراتها المستوردة).
مع انفجار الأزمة السورية عام 2011، وعدم التوصّل إلى حلّ سياسيّ لها، وتحوُّلها إلى نزاع مسلَّح وتوسُّع رقعتِه لتشمل مختلف أنحاء البلاد، خرجت 80% من المنشآت الحرفية عن العمل. وقدّرت خسائرها بشكل أوّلي بمليارات اللّيرات نتيجة تعرُّضها للقصف والتدمير أو السرقة. وكان لمحافظات حلب وريف دمشق وحمص النصيب الأكبر من هذا الدمار، وقد صرح رئيس اتحاد غرف الصناعة عام 2015 بأن هناك أربعة آلاف منشأة صناعية وحرفية تعمل في حلب من أصل أربعين ألف منشأةٍ كانت قبل الأزمة.
أما المنشآت الموجودة في المناطق الآمنة أو التي استطاع أصحابها إخراجَها من المناطق الساخنة، فهي بحالٍ يرثى لها، فهي لم تعد قادرة على إعالة عائلة واحدة بعدما كانت تعيلُ خمس عائلات على الأقل، وأصبح الاستمرار بعملها شبه مستحيل بسبب الأوضاع الأمنية وإغلاق الطرق وارتفاع تكاليف النقل والإنتاج وصعوبة توفير حوامل الطاقة اللازمة (كهرباء، ومازوت وفيول) وارتفاع أسعار المواد الأولية إلى مستويات خياليّة واحتكارها، وانخفاض قيمة العملة وتراجع القدرة الشرائية، وفقدان أسواق التصريف، لخروج أغلب المراكز الحدودية عن سيطرة الدولة، كمعبر التنف مع العراق ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن.
هذه الحال اضطرّت العديد منهم إلى إغلاق منشآتهم وبيعها، والنزوح إلى البلدان المجاورة كتركيا أو لبنان والأردن، حيث تعمل تلك الدول على جذب نخبة الحرفيين السوريين لتدريب المواطنين والعمالة في بلدانها على أيدي الحرفيين السوريين، فسورية تحتل ترتيباً من بين المراتب الثلاث الأولى على مستوى العالم في حرف صياغة الذهب وصناعة الرخام والشرقيّات والحلويات والأطعمة وغيرها. وقد عمدت الدول الأوروبية إلى التركيز على استقطاب الحرفيّين من ذوي اختصاصاتٍ معيَّنة وقدّمت إغراءات كبيرة لهم للّجوء، بعد أن أصبح عددٌ كبير منهم بلا عمل نتيجة الأزمة، حيث يتم منحهم إقامات ويتم دمجهم بصورة أسرع من غيرهم للاستفادة منهم في مصانع دول اللّجوء ومعاملها ممّا يقلّل من احتمال عودتهم.
ومَن لم يستطع مغادرة البلاد من هؤلاء لم يجد سوى أن يتّجه إلى قطاع الخدمات وخصوصاً مع تدنّي الرواتب والأجور في المعامل الكبيرة، حيث باتوا يعملون كسائقين أو بائعين على البسطات. ومنهم من لم يترك حرفتَه ولكنّه لم يجد سوى الرصيف ليقيم عليه ورشته البسيطة مع عدته المتواضعة، كما فعل حرفيّو صيانة السيارات، والخيّاطون الذين قاموا باستئجار سيّارة قديمة مغلَقة ووضعوا فيها ماكينتَهم الوحيدة يمارسون عملهم فيها.
نتيجةً لذلك باتت اليوم أغلب المؤسسات والمصانع، سواء في القطاع العام أو الخاص، تعاني من نقص حاد في الأيدي العاملة الفنّية والخبيرة، وبات من الصعب جداً العثور على حرفيٍّ ماهر في أيّ مهنة.
هذه الثروة البشرية الهامّة التي أُهدِرَت وتمّ التفريط بها من قبل حكوماتنا المتعاقبة، لن يتم تعويضها بسهولة أبداً، ممّا يؤدّي إلى إعاقة عملية الإعمار في المستقبل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1204
آخر تعديل على الأربعاء, 11 كانون1/ديسمبر 2024 14:18