الطبقة العاملة منهَكة لكن لا تموت
رغمَ إنهاكِهم وضعف أجسادِهم والوهن المؤقَّت في أرواحهم، ورغم تراكم خيبات الأمل والخذلان والحرمان الذي يعيشونه معاناةً يوميّة بل لحظيّة، ورغم اكتشافهم المتزايد لزيف بعض الوعود، ورغم الكوارث المتتالية التي تكاد لا تنتهي - رغم كل ذلك استمرّوا ونجحوا في البقاء على قيد الحياة أملاً بيومٍ موعود يستعيدون فيه صوتهم ورزقهم وكرامتهم ومستقبل أطفالهم ووطناً يعيدون بناءه كما بنوه على مرّ العصور والتاريخ البعيد منه والقريب.
لن يختلف اثنان على الحال الذي فُرِضَ الوصول إليه على الطبقة العاملة والأغلبية الكادحة التي لا تملك إلّا أجر عملها، تلك الحال التي لن تجد في قواميس اللغة من مفردة لوصفها أدقّ من الإنهاك الناتج عن تعبٍ وشقاء وتهميشٍ طويلٍ شديد، يشبه بشكلٍ كبير ما يصيب المسجونَ المحكوم حكماً مؤبّداً مع الأشغال الشاقة، حيث يجتمع التعبُ الجسدي مع الروحي فَتَهِنُ العزيمةُ ويتلبَّدُ الأفقُ وتتعرقل الأحلامُ والآمال. ربما سيرى البعض أنّ ذلك مبالغٌ فيه ويحمل تمادياً في الوصف والتوصيف، لكن إذا ما نظرنا إلى يوم عاملٍ من عمالنا بتفاصيله الدقيقة كافةً، سيختلف الرأي لا محالة؛ هذا العامل الذي يبدأ يومه بذلٍّ وينتهي بحسرةٍ وخوف، هل تتخيّل أنَّ اليومَ الجيد والسعيد بالنسبة له هو حين يجد «ميكرو» أو «باص» يوصله إلى عمله أو يرجعه منه؟! سيكون محظوظاً إذا انتظرَ نصف ساعة أو أكثر قليلاً تحت جسر الرئيس أو موقف سانا أو نهر عيشة أو كراج الست، سيطير فرحاً إنْ لم يجبَر على دفع 15 ألفاً أجرة «تكسي سرفيس»، إنّ معاناة مواصلاته لعمله فقط تعتبر عقوبةً يوميّة لا مفرَّ منها يجتهد كي ينال أضعافها لا أكثر، فمهما فعل سيتذوّق طعمَ الذُّلّ فيها ذهاباً وإياباً، وإنْ اختارَ المشيَ أو الدرّاجة الهوائية، فيبقى الذلُّ والشقاء وتتغيّرُ الوسيلةُ ليس إلّا.
لا تراهِنوا على موتِها
لنأخذ لحظةَ خروجه من المنزل وهو يمدّ يده إلى جيبه الفارغ إلّا من آلافٍ معدودات، ليترك مصروف البيت أو مشهد رجوعه خاليَ الوفاض من كيسِ فاكهةٍ أو علبةِ حلويّات أو حتّى حليبٍ وقطعة جبن، أو لحظةَ يطلبُ ولدٌ من أولاده حاجةً ما أو مصروفَ جيب للجامعة والمدرسة، أو حين يعجز عن تدفئة منزله أو دفع فواتير «الأمبير» وثمن البطاريات، أضفْ على ذلك إذا رغبتَ ساعات الوقوف على فرنٍ مِن الأفران أو الانتظار في العيادات الشاملة أو افتراش الرصيف أمام مشفى الأطفال العامّة في دوّار المواساة. وماذا عن الأعياد والألعاب والألبسة التي تحتاج لثروة كي تشتريها؟
إن الفقر المستمر الذي أصاب العمّال واضطرّهم للعمل لساعات طويلة وأبعدهم عن أيّ متنفسٍ روحيّ يجدّد طاقتَهم وينعشُ حيويّتهم، وغياب كفاف غذائهم وصحّتهم، أثقلَ على أجسادهم وأرواحهم، ناهيك عن إحساسهم الدائم بالعجز والتقصير بمسؤوليّاتهم نحو عائلاتهم، وانغلاق الأفق أمامهم. كلُّ ذلك أنهكَهَم وأخمدَ شعورَهم بأملِ الخَلاص والنجاة، وإنّ كلَّ مَن تسبَّبَ أو راهن على ذلك قد أصابَ، ولكنّه أخطأ حين لم يرَ تلكَ القوّة الانفجارية الكامنة في طبقةٍ ما أضاعت طريقَها يوماً ولم تمتْ يوماً إلّا في أحلامِ ناهبيها لا غير.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204