«عمال البقشيش» رهائن الإكراميات
هل سمعتم عن عمال بلا أجور؟ ولا نقصد أولئك المتطوعيّن بالأعمال الخيرية، ولا ربّات البيوت العظيمات المنهكَات في أعمال بيوتهن، ولا الأزواج الذين يقومون بأنفسهم بصيانة خدمات البيت من كهرباء وصحّية وغسيل سجّاد، ولا عن عمال مأجورين من المفترض أنهم يعملون مقابل أجرٍ ما، أيّاً كانت قيمته الشحيحة، بل عن عمّال يعتمدون على ما يسمَّى بـ«الإكراميّات» استناداً إلى «الكَرَم»، وهم بذلك يقعون تحت رحمة طبائع الزبائن وقراراهم، لتبقى هذه الشريحة العمالية معلَّقة بالهواء ومحرَجَةً من مبادَرة الزبون أو سؤاله وهي أيضاً لا تدري نصيبها من المال في آخر يومها الشاقّ.
«حظّك يا أبو الحظوظ»
يلجأ أرباب الأعمال الصغيرة والمتوسطة لاتّباع سياسة الأجور الصفرية للعاملين ببعض الاختصاصات، والتي غالباً ما تكون خَدميّة وغير إنتاجيّة، كون الصناعيّين والمهنيّين يلجؤون لمعادلةٍ أخرى ألَا وهي الأجرُ على القطعة، كحال أغلب معامل وورشات الخياطة والجوارب مثلاً، أو على المتر كحال مِهَن البناء والإكساء، وكذلك العاملون في العتالة مثلاً، حيث يحسب الأجر وفق وزن الحمولة أو ارتفاع البناء وعدد الطوابق وغيرها من الحسابات. وهنالك نموذج آخر يتمثل بالعمل الساعيّ حيث تكون الأجور مرتبطةً بساعات العمل الفعليّة. وهناك العاملون بنظام النسبة من الربح أو الإيرادات لموظَّفي التسويق والمبيعات، ومندوبو المبيعات الجوّالون الذين لهم حكاية خاصة نفرد لها موادّ أخرى. وكل النماذج السابقة «كوم» وعمال البقشيش «كوم» آخر، لأنهم نادراً ما يكونون قادرين على ضمان دخلهم اليوميّ والتنبؤ الصحيح به.
«اللي بيطلع من خاطرك»
يتوزع عمال الإكراميات كما أسلفنا على القطاع الخدمي بشكل خاص، فتراهم في مغاسل السيّارات وفي المقاهي، ومَصافّ السيارات التابعة للمنشآت الاستثمارية الخاصة، وعلى أبواب المنافع الصحّية فيها، والشباب «العزّيمة» التي تراهم بالأسواق كنسخةٍ مستحدَثة من ظاهرة «تفضّلي يا ست». كما يمكن رصد أعداد كبيرة منهم في خدمات التوصيل للمحالّ التجارية كالبقالة والخضار ومواد التنظيف، وهؤلاء يختلف وضعهم عن عمال التوصيل العاملين لدى شركات التوصيل المنظَّمة (الديلفري) بجزء أساسي هو قيمةُ أجر التوصيل المضافة على فاتورة البضاعة التي يوصلِها عمّال شركات التوصيل هؤلاء؛ إذ إنّها لا تندرج ضمن مفهوم البقشيش أو الإكراميات بل تُعتبَر أجرة توصيل متغيّرة بتغيّر قيمة الفاتورة والمسافة المقطوعة، وبالتالي يتحرر فيها عامل التوصيل من الإحراج الذي تسببه معادلة الإكرامية التي عنوانها الأبرز «اللي بيطلع من خاطرك».
عُرف سائد باتَ قانوناً والمواد الدستورية لا تُنفَّذ
تعتبر هذه الشريحة العمّالية (أيْ العاملين مقابل بقشيش فقط) الشريحةَ الوحيدة المحرومة من أجرٍ دوريٍّ معلوم تتّكئ عليه في برمجة حياتها المعيشية والإحساس بالحد الأدنى من الأمن المعيشي الغائب أصلاً، فرغم تدني الأجور (الدوريّة) وعدم قدرتها على تغطية الحد الأدنى من المعيشة إلّا أنها تبقى مَعلومة، ويمكن إدخالها ضمن معادلة «التدبير» الإعجازية، ولكن أن يتحول الأجر لـ«رَمية زَهْر» فتلك مصيبة تضاف لمصائب الأجر. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فالراتب الدوري الثابت والمعلوم يؤمِّن حفظ ماء الوجه إلى حدٍّ ما، ويحقق مستوى ما من الكرامة، في حين تبقى الإكراميّات أشبه ما تكون بالهبة أو الصَّدَقة رغم أنّها ليست كذلك، فهي أجرٌ مستحَقٌّ بامتياز بُذل من أجله الوقتُ والجهد، ولكن أرباب الأعمال أرادوه أن يَخرج «بقشيشاً» من جيب الزبون بدل أنْ يُخرجوه من جيوبهم الرّابحة، مُحتجِّين بما لا تنفع معه حُجَّة. وإنْ كانت طبيعةُ هذه الأعمال في مجتمعاتنا المتكافلة الشّرقية تُدِرُّ على العاملين بها بعضَ الإيرادات الإضافيّة، فإنّ ذلك لا يبرِّئ أرباب العمل من واجبهم البديهيّ بإعطاء العاملين حقَّهم المشروع والمكتسَب بأجرٍ عادل حقيقي أسوة بحق أرباب العمل -غير العادل- بالأرباح، ويجب أن يتوقف هذا العرف السائد الذي صنعه رأس المال عبر عقود طويلة من سيادته.
نعلم أنّ أصحاب الرِّفعة والسعادة من المسؤولين الحكوميين وأعضاء مجلس الشعب يرتادون المطاعم والمقاهي بكثرة، ونعلم بأنهم يعرفون واقع هذه الشريحة العمّالية كمعرفتهم بالطبقة العاملة جمعاء، ولكنهم يتجاهلون ما يعلمون؛ فلا يحركون ساكناً من أجل تغيير حالهم. فلا المشرِّع يشرِّع ولا المنفِّذ ينفِّذ وكأنَّ موادّ دستور البلاد التي كفلت حقوقَ كلّ هؤلاء شُطِبَت من أذهانهم وبرامجهم ومسؤوليّاتهم وبقيت حبيسةَ الورق حتى تموت بالتقادم أو الخذلان.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1201