هل تطوّرت قوانين العمل لمصلحة العمّال؟
تعددت قوانين العمل التي أُخضعَت لها الطبقة العاملة منذ نشأتها الأولى، أي منذ انفصالها التنظيمي عن أرباب العمل وتأسيس أول نقابة مستقلة للعمال ترعى شؤونهم وتدافع عن حقوقهم. وكان في مقدمة هذه الحقوق يوم عمل من ثماني ساعات، حيث كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى مغيبها وفقاً لقانون العمل العُثماني الذي حَرَّم على العمال تأسيس نقابات مستقلة عن أرباب العمل.
وكان يجرّم من يقوم بهذا الفعل، ويتعرّض صاحبه أو أصحابه للملاحقة والسجن، مما جعل العمال وطلائعهم النقابية تعمل بشكل سرّي حتى في ظل الاحتلال الفرنسي، حيث بقي العمل بقانون الشغل العثماني ساري المفعول إلى أن استطاعت قوى الطبقة العاملة الناهضة أن تفرض تعديلاً على القانون تم بموجبه السماح للعمّال بتأسيس نقاباتهم المستقلة، ولكن بإذنٍ مِن سلطات الاحتلال الفرنسي وتحت رعايته المباشرة ليشمل الاجتماعات التي تعقدها النقابات أو المؤتمرات التي تحدّد خطط عمل النقابات وأشكال تحرّكها في مواجهة الظلم الذي يتعرض له العمال من أرباب العمل المحليّين أو من الشركات الأجنبية العاملة تحت حماية الاحتلال ووفقاً لقوانينها الخاصة.
صراع مكشوف
لقد تطوّر الصّراعُ بين البرجوازية والطبقة العاملة وأصبح على المكشوف من الطرفين، لإيجاد قانون عمل ينظم العلاقة التعاقدية بين الشاري والبائع لقوة العمل، وكل طرف يسعى لتحسين شروطه الخاصة وفقاً لموازين القوى التي تتشكل على الأرض باعتبار الساحة مفتوحة للنشاط السياسي الواسع للأحزاب والقوى السياسية باتجاهاتها المختلفة من اليسار واليمين والوسط، فقد أتاح هذا الانفتاح للطبقة العاملة هامشاً واسعاً نسبياً من التعبير المستقل عن مصالحها وحقوقها بما فيها شروط عملها غير الإنسانية التي كانت تعمل ضمنها، ولكن السؤال الطبيعي هو: هل كان بإمكان الطبقة العاملة السورية أن تحقق جزءاً مهمّاً من مطالبها بقواها الذاتية فقط ضمن الظروف وموازين القوى التي سادت ما قبل الاستقلال وما بعده؟
إنّ ميزان القوى الجديد العالمي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية بوجود الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وبوجود أحزاب وطنية تقدمية تتبنى مصالح الطبقة العاملة وتنخرط في النضال معها، قد لعب دوراً مهمّاً في مساعدة الحركة النقابية مِن حيث نشر الوعي بين صفوفها، وتطوير آليات عملها وصياغة برامجها المطلبية وتأمين الدعم الأممي لحقوقها «الأممية النقابية الحمراء»، دون التدخّل في قرارها الذي يعبّر عن مصلحة أعضائها ومَن تمثّلهم. إنّ كل ذلك قد أكسب الحركة النقابية والحركة العمالية تجربة وخبرة مكنتهما من انتزاع الكثير من المطالب والحقوق التي انعكست لاحقاً في قانون العمل رقم «279» الذي صدر عام 1946، وهو أوّل قانون يجري فيه الاعتراف بحقوق الطبقة العاملة، وفي مقدمتها حق العمال في الإضراب كما جاء في المواد «166،167،168» مِن قانون العمل الذي تنصُّ مواده تلك على: «إذا حصل خلاف بين العمال ورب العمل بشأن أيّ موضوع كان، وأدى الخلاف بالعمال على العزم على الإضراب فلا يجوز لهم اللجوء إليه، كما لا يجوز لرب العمل تسريحهم ولا توقيف العمال قبل نفاذ المعاملات والأصول اللاحقة المبينة»، كذلك تم تثبيت يوم العمل من ثماني ساعات وغيرها من الحقوق الأخرى التي كان يطالب بها العمال وخاضوا من أجلها معارك حقيقية في مواجهة أرباب العمل والحكومة التي تمثل مصالحهم، وتقمع الحركات الاحتجاجية والإضرابات المتتالية التي كان يقوم بها العمال كردٍّ على رفض أرباب العمل تنفيذ حقوق العمال التي جاء بها قانون العمل.
بداية الهيمنة على الحركة العمالية
وبقي الصراع مستمراً على هذه الحال إلى أنْ جاءت الوحدة السورية المصرية وطرحت برنامجها «الاشتراكي» الذي تمّ بموجبه الإصلاح الزراعي وتأميم المعامل والمشاغل المتوسطة، وفي سياق هذا البرنامج تم طرح قانون العمل «91» وقانون التأمينات ألاجتماعية حيث جاء في الكثير من مواده متخلفاً عن القانون السابق، وخاصةً ما يتعلق بالحريات النقابية ومنها حق الإضراب الذي لم يأت على ذكره القانون، واعتبره جرماً يستوجب العقوبة، والموجبات لهذا الموقف من حق الإضراب هو أن النظام السياسي يتبنّى «الاشتراكية» وبالتالي فإنّ حقوق العمّال مؤمَّنة ومكفولة بالقانون، ورُفِعَ بهذا الخصوص الكثير من الشعارات التي تعبر عن الاشتراكية كما كان يراها النظام السياسي للوحدة وأصبح هو ربّ العمل الوحيد تقريباً. جاء في الكتاب الوثائقي الذي أصدره الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية «الطبقة العاملة السورية وحركتها النقابية»: «وقد حدد قانون العمل رقم /91/ عدد المهن التي يجوز لها أن تؤسس نقابات خاصة فيها بـ/41/ مهنة. ثم جرى بعد ذلك تعديل على هذا الرقم فأصبح /59/ مهنة. وعلى الرغم من التعديلات اللاحقة التي طرأت على هذا القانون، فقد ظل دون المستوى الذي كانت تنشده الطبقة العاملة، والذي يمكّنها من تكريس حركة نقابية قوية ومستقلة تماماً عن السلطة وتدخّلات الأجهزة الأمنية في شؤونها الخاصة، وتكون قادرة على تحقيق التلاحم الكامل بين العمال». وبهذا السلوك السياسي والأمني جرت مصادرة الحركة النقابية والهيمنة على كوادرها من خلال شرط الانتساب للاتحاد القومي إذا ما أرادوا الترشح لعضوية المكاتب التنفيذية والقيادية.
في ظل السياسة الليبرالية
وبقي هذا القانون مطبقاً على عمّال القطاع العام والخاص إلى أنْ استُبدل به قانونُ العاملين الموحَّد بالنسبة لعمال القطاع العام، الذي تضمَّن في موادّه ما يشبه قانون الطوارئ وخاصةً المادة /137/ التي يجري الآن استخدامها على نطاق واسع في تسريح العمال تسريحاً تعسفياً، دون مبرر قانوني أو إنساني يجيز التسريح أو يجيز الدفاع عن حقوق العمال المسرَّحين، الذين لا حاميَ لحقوقهم. حتى النقابات المفترض أنها المدافع والحامي لحقوقهم لم تستطعْ تأمين عودتهم إلى عملهم، وهي تعلم بالظلم الواقع عليهم جرّاء خسارتهم لعملهم الذي يؤمّن قوت عائلاتهم. وفي المقلب الآخر من قوانين العمل الجائرة التي ألحقت ظلماً عظيماً بحقوق العمال، وجعلت حقهم في العمل في مهبّ الريح، قانونُ العمل الجديد رقم /17/ الذي هو ثمرة فاسدة من ثمار السياسات الاقتصادية الليبرالية، حيث تضمّن في متنه العديد من المواد التي تجيز لربّ العمل أن يسرّح العمال تسريحاً تعسفياً حتى لو حصل العامل على حكم قضائي صريح يقضي بعودته إلى العمل، حتى بتنا نرى الآن عشرات الألوف من العمال المسرَّحين من عمّال القطاع الخاص في ظلّ الأزمة الوطنية الراهنة التي تعصف بالبلاد والعباد ونعيش فصولها الآن، والتي يمكن اعتبار قضية العمال العاطلين عن العمل والمسرَّحين، بسبب إغلاقات الكثير من المعامل ولأسباب أخرى، جزءاً من أجزائها.
إنّ الخبرة والاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من تجربة الحركة النقابية والحركة العمالية مع قوانين العمل: إنّ الطبقة المهيمنة سياسياً واقتصادياً تنتج القوانين التي تتلاءم مع مصالحها الاقتصادية والسياسية وتحققها، ومن هنا نجد أنه كلّما كانت الطبقة العاملة ممسكة بزمام أمورها ومستقلة في قراراتها ومنخرطة بقوة في الدفاع عن مصالح أعضائها، كلّما استطاعت أن تعدّل في موازين القوى الحقيقية، بما يجعلها قادرة على فرض برنامجها المطلبي والسياسي. وبهذا الموقف تصبح الحركة النقابية مركز استقطاب لشرائح أخرى في المجتمع متضرّرة من السياسات الرأسمالية المتوحشة، لتصبح في النهاية –إذا ما استطاعت تأمين الشروط الضرورية التي تمّ ذكرها- القوة الأساسية في المجتمع القادرة على تغيير ميزان القوى لمصلحتها، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ونِسب النمو المطلوبة في الإنتاج الحقيقي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1175