عودة الكفاءات المهنية بين النظرية والتطبيق

عودة الكفاءات المهنية بين النظرية والتطبيق

لا يخفى على أحد حجم الآثار والتأثيرات الكارثية التي ضربت البلاد جرّاء الحرب والأوضاع الأمنية خلال السنوات السابقة، سواء من ناحية تدمير البنى التحتية، فقدان البلاد خيرة أبنائها جرّاء الحروب والقصف والاشتباكات، ناهيك عن البؤس الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه جل أبناء الوطن.

هجرة الكفاءات المهنية.. ضربة قاضية للاقتصاد الوطني

إضافةً إلى التدمير الذي تعرض له الاقتصاد الوطني، من خسارة آلاف الهكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة، ومن دمار معظم المصانع الأساسية، ناهيك عن التدمير الممنهج لبعض المهن التي تعتبر رئيسية في نمو الاقتصاد (الدواجن، الزراعة، حتى الصناعة) جرّاء السياسات المتبعة، فإن الخسارة الأشد عنفاً والأكثر تأثيراً بالمعنى الإستراتيجي، هي خسارة البلد لخيرة عمالها المهنيين وغير المهنيين خصوصاً وإن البلاد هي بحاجة لهم أكثر من أي وقت مضى لانتشال الوطن ممّا هو فيه، فاذا كان هناك من هو قادر على إعادة البلاد إلى ما كانت عليه وتفعيل اقتصادها والنهوض فيه، فهم العمال ثم العمال ثم العمال.
استقبلت معظم الدول العربية وغير العربية الأيدي العاملة السورية الماهرة بالمعنى المهني ولنا في تركيا والعراق ومصر ولبنان أمثلة واضحة، فعملية هجرة الأيدي العاملة قائمة إلى يومنا هذا منذ بدأت مع بداية الأيام الأولى للأزمة. فأي عامل ذي خبرة مهنية بهذه المهنة أو تلك فرّ هارباً خارج حدود الوطن من أجل تأمين حياته وحياة أسرته، والأكثر ألماً أن معظم هؤلاء العمال من أصحاب المهن الأكثر تأثيراً بالاقتصاد الوطني (عمال النسيج، عمال الموبيليا، الكفاءات الزراعية، عمال ومهندسين البناء، عمال الغذائيات والمطاعم). لا يوجد معمل أو مصنع في هذه الدول إلا وبات يحتوي عمالاً سوريين يمثلون النخبة المهنية من بين مجمل العاملين، وما من مصنع يفتخر بتجربته الناجحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلا وكان عموده الفقري من أمهر العمال السوريين.
وما يزيد الأمر سلبيةً أن جزءاً مهماً من هؤلاء قد مضى على هجرته أكثر من ثماني سنوات ما يعني أنه أمّن استقراراً مهنياً واقتصادياً له ولعائلته، الأمر الذي يجعل من عودتهم إلى البلاد (مع افتراض تأمين أسباب العودة) أمراً معقداً يصعب تنفيذه، وذلك بالتوازي مع حاجة البلاد لهم في مرحلتها القادمة وإعادة إعمارها والنهوض بها.

كيف تتم عودة العمال؟

إن أي جهة مسؤولة وصاحبة قرار بالبلد تهدف إلى النهوض بالبلاد بشكل عام، وإنعاش الاقتصاد الوطني بشكل خاص لا بد لها من العمل على عودة الكفاءات المهنية بمختلف الاختصاصات إلى بلدهم ووطنهم، وأي جهة تدّعي هذه الادعاءات ما لم يتم ترجمة هذا الكلام على أرض الواقع بالعمل على عودة العمال، هي جهة مدعيه ولا يهمها أي شيء مما تدعيه ولا تجيد سوى إلقاء الشعارات الخلبية واللف والدوران.
إن العمل على عودة العمال يبدأ أولاً من تحديد أسباب الهجرة والعمل على نسف هذه الأسباب وتقويضها وأي كلام أو فعل غير ذلك، هو مجرد كلام ليس له علاقة بأي معيار آخر، بل على العكس يكون هدفه تعميق وتثبيت الأمر الواقع من خلال تعزيز هذه الأسباب بدلاً من نسفها، وبالتالي مزيد من تسرب الكفاءات المهنية.

ما هي أسباب تسرب العمال وهجرتهم؟

بالنظر الى الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها البلاد بسبب نخب المال المتحكمةـ يجدر أن يكون السؤال لماذا يبقى العمال؟ هل من أجل الحد الأدنى للأجور الذي لا يتجاوز 92,979 ليرة؟ هل كرامة المواطن مضمونة في وطنه؟ حدث ولا حرج، معايير بقائه على قيد الحياة مضمونة؟ المشافي العامة ليست مشافيَ، والمشافي الخاصة مخصصة فقط لأصحاب المال، ناهيك عن ارتفاع معدل الجرائم من القتل والخطف وإلخ..، إضافة إلى أوضاع البلد الخدمية، من ماء وكهرباء وتعليم وقائمة الأسباب تطول وتكاد لا تنتهي ولا يسعنا هنا إلا أن نذكر بعض الأمثلة التي توضح بالمطلق هول الأوضاع المعيشية والخدمية التي تعاني منها البلاد، والسبب الأساسي والجوهري لكل هذا، هو اتباع السياسات الليبرالية المتوحشة والهدف منها هو محاباة قلة قليلة من أصحاب المال على حساب وطن بأكمله.

النموذج والنهج الاقتصادي

يشكل أبناء الطبقة العاملة العنصر الأساسي في إعادة الإعمار والنهوض بالبلاد وانتشالها مما هي فيه، العمال هم حجر الزاوية فيما يخص هذا الأمر وهم القادرون على التضحية بكل ما يمكن التضحية به في سبيل إنقاذ ما تبقى وإعادة ما فقدته البلاد، العمال ولا أحد غيرهم من سيقود ويرجع سورية إلى سكة النمو والازدهار والتقدم.
تبنّي نموذج اقتصادي يؤمّن توزيعاً عادلاً للثروة ويلبي متطلبات أبناء الطبقة العاملة ويؤمن لهم ولأسرهم الحياة الكريمة بالحد الأدنى، عبر استطاعتهم تأمين متوسط تكاليف المعيشة الذي يقدر اليوم بما يزيد عن 5,760,000 ليرة شهرياً، ويحفظ حقوقهم عبر تفعيل دور النقابات العمالية، ويحافظ على سلامتهم من خلال السياسات الصحيحة والفعالة للتأمين الاجتماعي والتأمين الصحي، تبني هكذا نموذج اقتصادي هو الخطوة الأولى التي تجعل من عودة العمال ذوي المهارات والكفاءات المهنية أمراً واقعياً يمكن تحقيقه، وبالتالي يجعل بالضرورة من إعادة إعمار البلد وإنقاذها حلماً واقعياً يمكن الوصول إليه بأقصر فترة زمنية ممكنة.

نسيان ما فقدته البلاد وتدمير ما تبقى

إن الحكومة وفيما يخص إعادة الإعمار ترى خلافاً لكل ذلك، فهي ترى أنه من أجل إعادة الإعمار لا بد من تبنّي السياسات التي ليس لها علاقة بإعادة الإعمار والنهوض بالبلد، من أجل النهوض بالاقتصاد الوطني لا بد من تدمير ما تبقى من القوى المنتجة، ومن أجل ضمان عودة الكفاءات المهنية لا بد من تعزيز أسباب هجرتهم ودفعهم إلى عدم التفكير بالعودة.
وبناء على رؤية الحكومة الحالية التي تسعى بكل قوتها «للنهوض» بالاقتصاد الوطني، فهي فعلياً تصب جل تركيزها على العوامل الأكثر تأثيراً بنهوض الاقتصاد، أولاً هي تسعى جاهدة وأهم هذه العوامل (عودة الكفاءات المهنية، دعم القطاع الزراعي، دعم القطاع الصناعي، دعم قطاع التعليم) واستناداً إلى بيانات الحكومة وتحديداً الموازنة العامة للدولة في السنوات الأخيرة الممتدة من 2010 حتى 2020 والتي نوضحها من خلال الجدول التالي:

1124

نستنتج أنه من أجل النهوض بالزراعة وإعادة زراعة آلاف الهكتارات التي باتت غير مستثمرة جرّاء سنوات الحرب لا بد من تخفيض حصة القطاع الزراعي من الموازنة العامة بنسبة 82.8%، ومن أجل إنقاذ الصناعة علينا أن نقوم بتخفيض حجم الإنفاق على القطاعات الصناعية بنسبة 67.4%. وانطلاقاً من ضرورة دعم التعليم بمختلف أشكاله بما يوائم مع رفد سوق العمل بالعمالة الماهرة لا بد من تخفيض حصة قطاع التعليم بنسبة 83.6%، وسعياً من الحكومة إلى عودة الكفاءات المهنية التي تسربت بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية، لا بد من العمل على أهم العوامل التي تؤثر بهذا الاتجاه (عامل الضمان الاجتماعي) وذلك عبر تخفيض حجم الإنفاق المقدر لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بنسبة 85% فقط لا غير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124
آخر تعديل على الأحد, 28 أيار 2023 21:25