ليس عملاً وإنما خيار وحيد
أثناء البحث عن موظفي الخدمات والتنظيف لا تجد المشافي الخاصة والعامة خياراً أفضل من التعاقد مع شركات الخدمات لمد المشفى بكوادر النظافة، وذلك بسبب الميزات المتعددة لهذا الخيار بالنسبة لإدارة المشفى وأهدافها الربحية، فمسؤولية هؤلاء الموظفين تقع على عاتق إدارة شركات الخدمات بالدرجة الأولى، وإدارة المشفى بالدرجة الثانية، ناهيك عن انخفاض تكلفة هذا الخيار بحكم تدني أجور عمال النظافة بشكل مخيف جداً، علماً أن العامل هنا يتقاضى أجراً شهريا لا يتجاوز 250,000 ليرة فقط لا غير في أحسن الأحوال.
مع الأسف يعتبر العامل في هذه المهنة من أشد العاملين بؤساً وفقراً وعوزاً سواء من الناحية المادية أولاً، أو من الناحية المعنوية ثانياً، فالجميع تقريباً يعتبر وجود هؤلاء العمال أمراً طبيعياً ومفروغاً منه، بل حتى هناك من لا ينتبه إليهم أصلاً، على الرغم من أهمية العمل الذي يقومون به، فهو لايقل أهمية عن عمل الأطباء أو الممرضين، فهؤلاء العمال هم المسبب المباشر لنظافة المشفى والحفاظ عليها وعلى سمعتها، حتى وإن نظرنا إلى الأمر من جهة الجدوى الاقتصادية والربحية فإن نظافة المشفى تعتبر من أهم المعايير من وجهة النظر المرضى.
بيئة عمل مهددة للحياة
ناهينك عن تموضع العمال بين سندان إدارة الشركات ومطرقة إدارة المشافي، يقف جيش عمال النظافة من كلا الجنسين ومختلف الأعمار على خطوط التماس المباشرة أثناء تنظيفهم الممرات وغرف المرضى ودورات المياه، في مواجهة معظم الجراثيم والفيروسات متسلحين بمواد التنظيف الكميائية التي لا تقل خطورة عن خطورة ما يتعرضون له من فيروسات وجراثيم، مهددين بالإصابة بالأمراض التي يمكن أن تكون مهددة للحياة، وتحديداً إذا ما كان العامل قد تجاوز العقد الخامس من عمره، إضافة إلى ذلك، فإن يوم العمل هنا يمتد إلى ثماني ساعات يومياً مع وجود المناوبات الليلة. كل ذلك مقابل الأجر الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال 250,000 ليرة شهرياً، وبدون أية تعويضات عن طبيعة العمل التي لا تقل خطورة عن أية مهنة أخرى بل تكاد تكون أخطر بسبب ما يتعرض له العامل في ظل العوز المادي وسوء التغذية واستزاف الجسد واستهلاك قوته ومناعته.
سياسات الأجور والإسراف في تدنيها
القائم على تحديد الأجور لهؤلاء العمال لا يمت إلى أخلاقيات العمل بصلة لا من قريب ولا من بعيد، فهو إما أن يأخذ بعين الاعتبار في حساباته الدقيقة الإكراميات التي يمكن أن يشحدها هؤلاء من المرضى نتيجة تدني الأجور، وكأنه فعلياً يدرس هذه الاكراميات أكثر من دراسته للأجور نفسها، فلا عجب إن كان يفترض من ذاته دخلاً شهرياً عادلاً من وجهة نظره، ويقوم بتوزيع هذا الدخل على الراتب الشهري من جهة، وعلى الإكراميات من جهة أخرى، ولا عجب أيضاً لو افترض متوسط عدد الإكراميات اليومي ومتوسط قيمة الإكرامية، وبالتالي يصل إلى نتيجة مفادها أن الراتب الشهري يجب ألّا يتجاوز هذا الحد أو ذاك.
أو أنه يدرس ملياً الأوضاع الاقتصادية والمعيشية البائسة فيقوم بتحديد الراتب الشهري بهذا الحجم المرعب من التدني، معتمداً ومسبباً مباشراً في تحويل هؤلاء العمال إلى متسولين بالمعنى الحرفي للكلمة، يبحثون عن ليرات إضافية من هذا المريض أو ذاك من خلال طلبهم المباشر وغير المباشر والمذل في كل الأحوال للإكراميات من المرضى.
وفي كلتا الحالتين فإن هذا الأجر لا يأخذ بعين الاعتبار سمو هذه المهنة وأهميتها المعنوية والمادية، فهو في تحديده هذه الأجور يضرب عرض الحائط كل ما يمكن ضربه من مسؤولية اجتماعية تجاه العمال والمرضى على حد سواء، إضافة إلى استهتاره بالقيم الأخلاقية والاجتماعية في سبيل زيادة ومضاعفة أرباحه أكثر وأكثر.
الأجر وتجديد قوة العمل
بالنظر إلى طبيعة العمل الخاصة بهذه المهنة فإن معيار تجديد قوة العمل مرتفع نسبياً، وذلك بسبب ما تسببه هذه المهنة من أمراض وآفات تقصر متوسط العمر الافتراضي للعامل وبقائه على قيد الحياة، وإضافة إلى تكاليف معيشته التي تقدر بحدها الأدنى بما لا يقل عن 2,000,000 ليرة شهرياً، فإن هذه التكاليف المعيشية قابلة للارتفاع بسبب الحاجة المستمرة للأدوية من صادات حيوية وفيتامينات وإلخ التي تستمر الحكومة المبجلة في رفع أسعارها دون كلل أو ملل، فعلبة الفيتامين اليوم يتجاوز سعرها 50,000 ليرة، والصادات الحيوية الفعالة يتجاوز سعر العلبة منها حاجز 20,000 ليرة وهي في أحسن الأحوال تكفي ل20 يوماً فقط لا غير، والأمر المفروغ منه أن العمال بحاجة دائمة لمثل هذه الأدوية نتيجة لما يتعرضون له ويواجهونه من فايروسات وجراثيم وأمراض، وعلى اعتبار أن العامل منهم بحاجة إلى علبة واحدة من كل دواء فإن حاجته الشهرية من أدوية فقط تشكل ما يقارب 28% من راتبه الشهري، وهذا بغض النظر عن تكاليف المعيشة الأخرى من مواصلات وأكل وشرب وإلخ.
الخلاصة
إن كل ما يتعرض له أي عامل بشكل عام وهؤلاء العمال بشكل خاص من بؤس وعوز وفقر هو نتيجة مباشرة للسياسات الليبرالية المتوحشة التي انتهجتها الحكومة في بلادنا، وما ينتج عنها من خصخصة إضافية تكاد تشمل كل القطاعات الإستراتيجية وغير الإستراتيجية. وإن خصخصة قطاع الصحة بهذا الشكل وتحويل غاياته من غايات اجتماعية وإنسانية بحتة إلى غايات ربحية مافيوية همها الأول والأخير الميزان الرابح في نهاية كل سنة مالية على حساب أجور الأطباء ومجمل العاملين، بل حتى على حساب حياة المرضى أنفسهم في بعض الأحوال، من شأنه أن يهمش عمال النظافة والخدمات في المشافي بهذا الشكل المخزي، فالمستثمر من وجهة نظره المشوهة لا يرى في هؤلاء سوى عمال نظافة لا يعطي أية أهمية لدورهم الوظيفي الذي يكاد يتساوى مع دور أهم الأطباء والممرضين، الأمر الذي يؤدي إلى تحطيمهم وتدميرهم إنسانياً ومادياً ومعنوياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1115