التهام الحقوق.. يمنع الاستقرار (1)
لطالما أسمَعَنا آباؤنا وأجدادنا وأرباب العمل و(شيوخ الكارات) عبارات وأمثال وحكم توجيهية من الإرث الشعبي كمقولات ( الثبات نبات) (والقدم النقالة مو شغالة) و (الأرض الواطية بتشرب ميتها ومي غيرها)... إلخ، إلّا أن هذا الموروث وبغض النظر عن الموقف منه ومن صانعيه الأوائل لا يمكن إنكار تأثيره في تشكيل الوعي الجمعي للعمال، الذي بدأ بالتخلي عنها تدريجياً ليدخل مرحلة أخرى هي نتاج التغيرات المستمرة في واقع العمل والعمال.
يشتكي أرباب العمل في القطاع الخاص بشكل عام، وغير المنظم بشكل خاص، من ظاهرة عدم ثبات العمالة لديهم، ويردون أسباب ذلك بشكل رئيس إلى خروج العمال عن القواعد الأخلاقية للعمل من جهة، وظروف سوق العمل الفوضوية من جهة أخرى، متغاضين عن حصتهم الكبيرة بتكريس هذه الظاهرة التي باتت واضحة، فقلما نرى عاملين يثبتون على رأس عملهم لمدة طويلة فما الأسباب الحقيقية وراء التنقل المستمر للعمال؟
تأخذ هذه الظاهرة شكلين، أولهما: التنقل من موقع عمل لموقع آخر ضمن المهنة نفسها أو ضمن القطاع ذاته، وثانيهما: التنقل من مهنة لأخرى ومن قطاع لآخر، ورغم الميل النفسي والمعنوي للعامل باتجاه الثبات والاستقرار في عمل وموقع واحد إلّا أن هذا الميل لم يعد كافياً منفرداً لتثبيت العمالة في مواقعها لمدة طويلة، إذ إن العوامل الاقتصادية والاجتماعية المفروضة كرهاً على عمال القطاع الخاص بالإضافة إلى سلوك أرباب العمل ومنهجهم الربحي الهاضم للحقوق، يشكلان عوامل أساسية في تفشي هذه الظاهرة واتساعها يوماً بعد يوم، وتبقى الأوضاع الاقتصادية العامة المسيطرة على البلاد سيدة الموقف ومنبع البلاء على الإنتاج والعمال.
فوضى الإنتاج فوضى للعمالة
تتعرض العملية الإنتاجية لمجمل عوامل تؤدي لعدم استقرار الإنتاج بها وخاصة في المنشآت المتوسطة والصغيرة التي تعجز وفق إمكاناتها المحدودة نسبياً عن التصدي لمجمل العوامل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: عدم استقرار سعر الصرف، وفوضى تدفق المواد الخام، واضطراب أسعارها وتحكم المحتكرين بها، ناهيك عن المشاكل المستمرة في استقرار الطاقة الكهربائية الحكومية، وصعوبة تأمين المحروقات للمولدات من مازوت وبنزين، أضف إلى ذلك عدم وجود أسواق تصريف نشيطة ودورية للمنتجات المصنّعة لضعف القيمة الشرائية للمجتمع السوري، وتراجع التصدير الخارجي لأدنى مستوياته، وفي حين استطاعت معظم المنشآت الكبرى من مواجهة هذه العوامل بنسب متفاوتة ونجحت في التقليل من انعكاسات الوضع العام، وحققت مستوى جيداً باستقرار العمال لديها، دون أن تتغلب عليها بشكل كامل، فإن كان لتنقل العمال الدائم ارتباط عميق بالوضع الاقتصادي العام في البلاد فإن عوامل أخرى لها دور كبير وأساس.
التنقل ضمن القطاع الواحد
يعتبر غياب الحق القانوني للعامل بتسجيله بالتأمينات الاجتماعية من قبل أرباب العمل في القطاع الخاص كفيلاً بفقد العامل للإحساس بالارتباط بمكان عمله، فوجوده تحت المظلة التأمينية يجعله متمسكاً بهذا المكسب الذي لن يستفيد منه إلا على المدى البعيد، هذا من جانب، وضمان تعويض إصابة العمل من جانب آخر، وهذا ما يرفض أرباب العمل الاعتراف به، كما أنهم ينكرون دور الأجور الشحيحة بترك العمال لعملهم والتوجه لأقرب منشأة تعطيهم أجراً أعلى أو مكافأة أو حافزاً، ففي مثل هذه الظروف المعيشية الكارثية التي تمر بها الطبقة العاملة لن يوفر العمال أية فرصة تزيد من دخلهم حتى وإن كانت زهيدة، وللمواصلات أيضاً دور في ذلك، حيث يلعب مكان وجود المنشأة ودرجة صعوبة المواصلات وأسعارها دوراً إضافياً، لذلك نرى بأن المنشأة التي تؤمن مواصلات لعمالها هي الأكثر استقرار بالعمالة كماً ونوعاً، كل ما سبق يحدث ضمن المهنة الواحدة أو القطاع نفسه، بمعنى آخر: إن تنقل العمال من قطاع لآخر له عوامل إضافية تضاف إلى مجمل العوامل السابقة.
عقلية الربح تلتهم الحقوق
لا يمكن إنكار ضرورة استقرار العمال وثباتهم على رأس عملهم لمدة طويلة لمصلحة العمل والعمال على حد سواء، ولكن لا يمكن إنكار العوامل الأساسية والضرورية للوصول لذلك، وكل تلك العوامل لا ترتبط بالعامل الذاتي لليد العاملة، بل على العكس تماماً تتمركز وتتجمع عند الحكومة وسياساتها الاقتصادية الاجتماعية، ومدى دعمها للقطاع الإنتاجي وللطبقة العاملة بالوقت عينه، إضافة إلى تغيير نهج أصحاب العمل كبيرهم قبل صغيرهم هذا النهج الذي يستولي على معظم الحقوق في سبيل الغاية الأعظم وهي الربح، إنّ تحميل العامل ما لا يحتمل ما هو إلّا هروب من المسؤولية، وكل من يعتقد بأنه قادر على تدوير الإنتاج وإنعاش الاقتصاد الوطني بمعزل عن حقوق كاملة للطبقة العاملة مجرد غبي، وفي أحسن الظروف وأهم، وللحديث صلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 919