الطبقات الشعبية تنتفض.. هذا طريقها
مع تعمق الأزمة للرأسمالية، وانعكاس نتائجها المباشرة والقاسية على الشعوب في بلدان المركز الرأسمالي والأطراف، بدأ حراك شعبي واسع، افتتحته الطبقة العاملة بردها المباشر على إجراءات قوى رأس المال تجاه حقوقها، التي فقدتها، وكانت المتضرر الرئيس من الأزمة الاقتصادية، حيث فقدت الكثير من المكاسب التي حصلت عليها في مرحلة توازن القوى التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الإمبريالية الأمريكية، حيث كانت الرأسمالية مضطرة حينها لتقديم تنازلات للطبقة العاملة في مجرى صراعها الضاري مع المعسكر الاشتراكي، الذي كان يقدم قوة المثل للعمال في العالم، وذلك جعل النقابات والعمال في المراكز والأطراف الرأسمالية يناضلون من أجل انتزاع المزيد من المكاسب التي تحقق الكثير منها، فلعبت دوراً رئيساً في رفع مستوى معيشة العمال، عبر زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وتحسين الرعاية الصحية والاجتماعية بعد الوصول إلى سن التقاعد..
ولكن هذا الدَّلال والرفاهية العالية التي عاشها العمال وعاشتها الشعوب الأوروبية لم تستمر طويلاً، خاصةً بعد تبني الرأسمالية في المراكز للنظرية الليبرالية في الاقتصاد، وترافق ذلك مع هجوم واسع شنته على النقابات متبعةً سياسة العصا والجزرة، ما أدى إلى اختراق واسع من جانب الرأسمالية للكثير من الاتحادات النقابية التي أخذت تساوم على مصالح الطبقة العاملة ومكاسبها، وهذا جعل الطبقة العاملة تخسر قوة رئيسة في مجابهتها ومقاومتها للسياسات الليبرالية التي تعمل على تجريد العمال من المكاسب، وخاصةً تلك المتعلقة بالعمل الدائم.
لقد اعتمدت الليبرالية في سياستها تجاه العمال: (أنه لا عمل دائماً ولا ضمانات دائمة) مما أدى إلى ازدياد كبير في نسب البطالة والمهمشين والمشردين الذين فقدوا فرص عملهم، وأصبحوا بلا مأوى، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يعيشون على ما يُقدَّم لهم من إعانات من الجمعيات الخيرية في اللباس والطعام وخلافه.
الرأسمالية تعلمت بخبرتها الطويلة في المجابهة مع الحركات النقابية والعمالية أنها لا تستطيع تنفيذ سياساتها الاقتصادية في النهب إذا لم تسيطر وتحتوي الحركات النقابية، فعملت على تقديم الامتيازات والرشاوى لها، وإشراكها في إدارة المجمعات الصناعية، حتى أصبحت هذه النقابات اليمينية جزءاً من منظومة القمع الرأسمالي في وجه أية تحركات عمالية تحدث، وتساوم على أجور العمال وحقوقهم، وتسوف في تنفيذ مطالبهم.
إن موازين القوى السائدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وما قبيل الانهيار، كانت تسمح للقوى الرأسمالية بتنفيذ سياساتها تجاه الطبقة العاملة وقواها الحية، التي أخذت تنظم نفسها وتعيد ترتيب صفوفها مع اشتداد التناقضات وتعمقها وتجذرها في المراكز الرأسمالية، وحتى في أطرافها، خاصة وأن قطاعات واسعة من القوى الشعبية بدأت تنضم إلى الطبقة العاملة في احتجاجاتها وإضراباتها، مما زاد في عمق أزمة النظام الرأسمالي، ونقل الحراك إلى داخله، وأظهر عمق التناقضات التي بدأت تفعل فعلها منذرة بتحولات اجتماعية وسياسية قد تطيح بالمخططات والبرامج الرأسمالية، التي ما انفكت تسعى من خلالها للخروج من أزمتها العميقة عبر تفجير بؤر التوتر المختلفة في العالم، وتحديداً في منطقتنا الممتدة من بحر قزوين إلى المتوسط، ولكن إذا ما استطاعت الطبقة العاملة والقوى الشعبية الأخرى التي تضررت من النهب الواسع، والمتضامنة في احتجاجاتها مع الطبقة العاملة، أن توحد صفوفها وتحدد أهدافها بدقة وتصعِّد من نضالها اليومي، وهذا ما نشاهده الآن في الحراك الشعبي الكبير الذي بدأ في فرنسا وبعض الدول الأوربية الآخرى، وهو باتساع وتعاظم.
إن ما يجري من حراك شعبي وعمالي واسع يؤكد التنبؤ العلمي العام المستند إلى قاعدة معرفية واسعة في اكتشاف عُمق الأزمة الرأسمالية وتطور تناقضاتها، التي ستفضي إلى عودة الجماهير إلى الشارع، واتساع تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية، إذ بدأت تطرح في شعاراتها ضرورة النضال ضد الرأسمالية وقوانينها المتوحشة التي أدت إلى إفقار الشعوب، بما فيها شعوبها، واغتناء وإعادة تمركز الثروة بيد ما نسبته 1% من السكان على حساب الأغلبية العظمى منهم.
إن حركة الطبقة العاملة من خلال الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات تُكسِب الحراك الشعبي جذريته في مواجهة النظام الرأسمالي، وذلك بسبب تناقض مصالحها العميقة مع الاستغلال الرأسمالي الذي يبدو أنه «أبدي» كما كان يسوق له بعض منظري الإمبريالية.
إن التناقض الأساسي بين (العمل ورأس المال)، والذي لن يُحَلّ إلّا بالإطاحة الكاملة بعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وتحقيق الاشتراكية التي ستؤمِّن العدالة الاجتماعية، وتنفي الاستغلال والنهب لجهود وعرق الملايين من العمال العاملين في المجال الذهني والعضلي، وتحقيق الديمقراطية الحقيقية للمنتجين.
إن القوى الرأسمالية أخذت تستشعر الخطر المحدق بها من جراء نزول الجماهير إلى الشارع، فهي تعمل على إجهاضه بمختلف الوسائل والسبل، عبر تشويهه ووصفه بالتخريب تارة، ومواجهته بعنف تارة أخرى، ويلعب الإعلام الرأسمالي دوراً مهماً في التقليل من أهمية الحراك الطبقي الشعبي، بعدم تغطيته إعلامياً، ويساهم معه الإعلام الرجعي العربي الذي له باعٌ طويل في تسويق السياسات الإمبريالية الاستعمارية في منطقتنا، والتي يُظهرها بأنها سياسة مدافعة عن الشعوب وتسعى إلى تحقيق حريتها، والحقيقة هي أن تلك السياسات تسعى إلى قتل شعوبنا واستلاب حريتنا ونهب خيرات أوطاننا التي سندافع عنها حتى الرمق الأخير.
إن العصر الآن هو عصر الشعوب الثائرة من أجل حريتها وكرامتها وسلامة أوطانها..