القواعد الآمرة أم الحرية التعاقدية؟؟
قانون العمل هو قانون مركب، متعدد العناصر تتداخل فيه مكونات اجتماعية واقتصادية وسياسية . فقانون العمل يحدد شروط الوجود لأهم طبقة من طبقات المجتمع، ويحدد طريقة وأسلوب حياتها، في أدق التفاصيل الشخصية والعائلية والاجتماعية والثقافية، فهو يتدخل في قضايا الأجور وتوقيت العمل والراحة الأسبوعية والأجازة السنوية والحالات المرضية، بالمختصر: قانون العمل يحدد الوضع الإنساني أو اللا إنساني لحياة العمال .
نشأة مبدأ الحرية التعاقدية
انتشر مذهب الحرية في أواخر القرن الثامن عشر، وأجتاح العالم الأوربي خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، وكانت الحرية تعني: أن الإنسان له الحق أن يفكر ويعبر ويتصرف كما يشاء، ومن ضمن الحرية كان اعتماد مبدأ الحرية الاقتصادية التي تقوم على المطالبة بكف يد الدولة عن التدخل بالشؤون الاقتصادية، وأن تدع هذه الفعاليات تنظم نفسها من تلقاء نفسها.
استعمل المبدأ الحقوقي القائم على الحرية التعاقدية، وسلطان الإرادة الحرة، في عقود العمل دون السماح للدولة بالتدخل بعلاقات العمل ولم يسمح للدولة إصدار قانون ينظم علاقات العمل، ونص مبدأ الحرية التعاقدية على أنّ الفرد حر في ترتيب الالتزامات على نفسه كما يشاء، مستعملاً إرادته الحرة،وباتت نتيجة لذلك المجابهة فردية بين رب العمل والعامل،فالعامل يناقش بنفسه شروط العمل كلها وبدون تدخل أو ضغط من أية جهة كانت وشروط العمل تحدد بعقد العمل باتفاق الإرادتين، ولا مجال لتعديل تلك الشروط لصالح العامل إلا من خلال مقدرته على المساومة والمقاومة الفردية، حيث من مستلزمات مبدأ الحرية التعاقدية عدم تدخل الدولة كمحام مدافع عن العمال، وأصبح تحديد يوم العمل لكلٍ من العامل والأجور والراحة الأسبوعية الاتفاقات الفردية هي التي تحددها فقط.
نتائج تطبيق
مبدأ الحرية التعاقدية
أصبحت الطبقة العاملة أكثر الفئات الاجتماعية معاناة وتأثراً نتيجة تلك المفاهيم عن الحرية والمساواة،فكانت المساواة في الواقع العملي نظرية، وبالنصوص لا بالظروف،وقد أظهر الواقع أن المساواة في التعبير عن الإرادة نظرية بحت،فالتعاقد لا يجري بين طرفين على قدم المساواة،لأن أحدهما عامل وفي شروط اجتماعية واقتصادية أدنى بكثير،وليس له سوا أجره للعيش منه ولا يستطيع الانتظار دون عمل،وفي المقابل هناك صاحب عمل مسلح بشكل أفضل برؤوس أموال وسلطان معنوي ومركز اجتماعي وهو بذلك يملي شروطه من مركز القوة،ومن خلال المزاحمة الحرة و بالاستناد إلى قانون العرض والطلب يفرض أجوراً زهيدة وشروط عمل قاسية بغية تخفيض تكاليف الإنتاج.
إن مبدأ الحرية التعاقدية قاد إلى ظلم اجتماعي، لانعدام المساواة الحقيقية لأن الناس في المجتمع الفردي غير متساويين، لا في الظروف ولا في الكفاءات الطبيعية ولا في القوة الاقتصادية،ولا بد من تدخل المجتمع ممثلاً بالدولة والقانون لتلافي عدم المساواة الطبيعية التي لا ينبغي أن يكون المرء مسؤولاً عنها.
ومن خلال تلك الطروحات التي طرحها أنصار مذهب الحرية التعاقدية، آل العمال إلى حالة مثيرة من البؤس والفقر والجوع، وكان العمال يسكنون في أكواخ قذرة وأصبحت الحياة بالنسبة للعامل هي أن لا يموت فقط، وانتشرت الأوبئة والأمراض، وارتفعت نسبة الوفيات في الأوساط العمالية.
وقد راكم القرن التاسع العشر سلسلة من الأزمات الاقتصادية، تجاوزت إطار الطبقة العاملة ذات القدرة الاستهلاكية المحدودة لتؤثر على مالكي الإنتاج ووسائله ولتوجد خللاً في الاقتصاد القومي للدول التي أخذت بمبدأ الحرية الاقتصادية والحرية التعاقدية.
وهم الإرادة الحرة
إنّ الأخذ بالمذهب الفردي، والنتائج التي ترتبت على تطبيقه، استوجب التخلي عن مبدأ سلطان الإرادة في علاقات العمل، خاصة وأن العقد أصبح ضمن شروطه تلك، وسيلة لفرض الظلم وتمكين القوي من التحكم بالضعيف، وأن ادعاء الحرية والمساواة في التعاقد ليسا إلا وهماً لأمرين لا وجود لهما في الواقع أمام تفاوت قوى أطراف العقد وأمام متطلبات العدالة، فقد تزعزع مبدأ سلطان الإرادة وتأكد واجب تدخل الدولة دون ترك علاقات العمل إلى محض الإرادة التعاقدية.
تراجع مبدأ الحرية التعاقدية
أمام هذه العوامل كان الصراع يشتد بين قوة العمل ورأس المال ومذهب الحرية يتراجع، والأزمات تستحكم إلى درجة لم يعد في وسع الدولة أن تبقى معها مكتوفة الأيدي، وكان لا بد من التدخل إلى جانب الضعاف اقتصادياً لتعويض الخلل وإقرار التوازن، وفعلاً تدخلت الدولة في جميع مجالات العمل وعلاقاته، ليشهد العالم بعد ذلك مرحلة التشريع الاجتماعي للعمل وتدخل الدولة.
القانون رقم 17
الحكومة السورية وتماشياً مع سياستها الليبرالية الاقتصادية أخذت بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، في قانون العمل رقم 17 لعام 2010 وتركت العمال وحدهم في مجابهة أرباب العمل الذي أعطاهم القانون أيضاً صلاحيات واسعة حيث بات في يدي رب العمل الحل والربط وهو الخصم والحكم في الوقت نفسه، وهو ما تسبب بمآسي لحقت بالطبقة العاملة، فالقانون كان بمثابة خطوة رجعية أعادتنا قروناً إلى الوراء حيث عاد العامل عبداً عند رب العمل لا إنساناً، لا يحصل إلا على الفتات وبما يمنعه من الموت فقط وازداد عدد المقيمين في العشوائيات وانتشرت عمالة النساء والأطفال وفقدت الطبقة العاملة القدرة الشرائية وانخفضت نسب النمو والاستهلاك، وبات تدخل الدولة لتعديل قانون العمل مع ضرورة وضع قواعد عمل آمرة لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، ضرورة وطنية من أجل السلام الاجتماعي والتطور الاقتصادي.
قانون العمل
قانون السلام الاجتماعي
فالواقع يؤكد أنه: لا يمكن الفصل بين التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وهكذا لا بد من توجيه السياسة الاقتصادية بسياسة اجتماعية واعية، فالتطور الاقتصادي يجب أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف اجتماعية، ولا يجوز أن يكون غاية بحد ذاته، ولتحقيق غايات خاصة، فتحقيق العدالة الاجتماعية للعمال يكون عاملاً في التضامن والتلاحم الاجتماعي والاستقرار السياسي فإرساء الاستقرار والسلام الاجتماعي وتجنب النزاعات، مرتبط بتقدم قانون العمل، من حيث تلبية مواده للحقوق الأساسية للعمال، بما فيها حقهم بالإضراب وحقهم في عمل دائم وأجر عادل، الذي بموجبه يمكن تحسين ظروف الإنتاج وشروط العمل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 809