خذوا مشروعكم الصغير وأعطونا أجراً حقيقياً
يعصرون أدمغتهم ليستخرجوا أفكاراً اقتصادية (مبتكرة) , يروجون لها أينما حلوا, يوفرون لها التسويق الإعلامي, يُغالون في ذكر محاسنها, يدعمونها بالأرقام والإحصائيات, ويطلقونها بفم ملآن: أبشر أيها المتعطل عن العمل سنعطيك مشروعك الخاص.
يتفق الجميع على ما وصل إليه اقتصادنا الوطني من وضع كارثي عام, وهذا يشمل بالتأكيد سوق العمل كونه أحد مكونات هذا الاقتصاد وتخرج الرؤى والأفكار من كل حدب وصوب فتختلف أشكالها و(أمبلاجها) وتتفق مضامينها فلا أحد من أصحابها في وارد الدخول لجوهر انكساراتنا الاقتصادية, ولن تجد ذاك الراغب بالمساس أو الحديث أو حتى الإشارة لمعادلة الناتج المحلي التي تميل بوضوح للكفة الرابحة (الطابشة) أي الطرف الذي يمثل أصحاب الأرباح على حساب الكفة الأخرى والطرف الآخر المثقل بالفقر أي أصحاب الأجور. لذلك سارعوا في إخراج سياساتهم من الدروج الصدئة فنثروا ملفاتهم وأضابيرهم العتيقة وحلولهم القديمة التي طالما عملوا جاهدين لفرضها علينا كقانون التشاركية مثلا حيث غلفوه بمغلف جديد مزركش بالورود وألوان قوس قزح وأخذوا يطبلون ويزمرون به فهو كما يدعون سينقذ الاقتصاد الوطني وعمالنا الصامدين.
مشاريع صغيرة
آخر تلك (الإبداعات) التي صرعونا بها تشجيع قيام المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر عبر قروض ميسرة تمنح للراغبين بإطلاق مشروعهم الخاص. والهدف حسب قولهم تحريك عجلة الإنتاج الوطني وتخفيض نسب البطالة لحدودها الدنيا مما سيساهم في تنشيط الحركة التجارية وزيادة الاستهلاك وبمعنى آخر تسريع حركة إعادة الإنتاج وتدويره خاصة أن هذه المشاريع الصغيرة إن انطلقت فأبواب النجاح مشرعة أمامها على مصراعيها حسب ادعائهم أيضا وإذا أردنا أن ندخل في كل تلك المحاور فإن ذلك يحتاج لصفحات عديدة من المؤكد بأننا سنقوم بإنجازها لاحقاً ولكن الجانب الذي يحتاج لإضاءة هنا ينطلق من السؤال التالي: هل هذا الطرح في مصلحة العمال المتعطلين عن العمل؟ وهل تلك القروض هي طريقهم للخلاص من البطالة ومن الأجور الشحيحة؟.
من جَرّب المُجرب
قبل أن يأخذ الاقتصاد الوطني مساره الليبرالي بشكل فعلي و واضح في البلاد كانت المشاريع الصغيرة تملأ البلاد طولاً وعرضاً، وحدها دمشق وريفها كانت تحوي ألاف المشاغل الصغيرة والورش من خياطة وجلديات ونجارة ...الخ وكذلك كانت هناك مئات العائلات التي تعمل في بيوتها بالخياطة والتريكو ومهن أخرى عديدة, وبالطبع فإن أصحاب هذه المشاريع كانوا في الحقيقة عمالاً بها، يعملون بيدهم ويعيلون عائلاتهم التي ضمنت لهم تلك المشاريع الخاصة معيشتهم الكريمة وضروراتها الأساسية ولكن ما أن بدأت نتائج السياسات الاقتصادية الليبرالية تنعكس وتتراكم حتى بدأت تلك المشاريع بالانهيار التدريجي كيف لا؟ والبضائع التركية والصينية اجتاحت الأسواق وأغرقتها بالإضافة للمنتج المحلي المصنع بالمعامل الكبيرة والشركات الضخمة فكيف سيكون صاحب الورشة المنتجة للأحذية الذي يملك ثلاثة أو أربع آلات (موديل قديم ونص عمر ) قادراً على منافسة معامل الصين وتركيا ومعامل المستثمرين المحليين وحيتان السوق؟.
الليبرالية تطيح بالمشاريع الصغيرة
لقد شهدت السنوات الخمسة ما قبل الأزمة إغلاق وتصفية ألاف المشاغل والورش والمعامل الصغيرة بفعل النهج الاقتصادي الذي مضت فيه الحكومة تماشياً مع مصلحة أصحاب الأموال والمستثمرين فتوسعت البطالة وتراجع الإنتاج الصناعي على حساب النشاط التجاري والاستيراد واستغل الكثير من الصناعيين والتجار الوضع المزري لأصحاب الورشات والمشاغل فألحقوهم بمعاملهم وتجارتهم مقابل نسب ضئيلة لا تتعدى سقف الأجور فيما انتشر عمال المشاريع المخسرة لأرصفة المدينة كعمال (فعالة) أو لقطاع الخدمات يصبون الشاي ويجلبون الفحم.
عصفور باليد أحسن ...
يخطئ من يظن أن للعمال مصلحة في هذه الأطروحة المضللة فما هي إلا أطروحة يجري تسويقها مع أخواتها كي تزيح الطبقة العاملة عن الحل الوحيد الذي ينفي السبب ويمسك بالجوهر وهو قابل للتنفيذ يبدأ بالقطع النهائي مع السياسات الاقتصادية السابقة لتعود الدولة لدورها بالحياة الاقتصادية الاجتماعية وتعمل على تغير معادلة الدخل الوطني فتأخذ من حصة الأرباح وتضعها في حصة الأجور، وبالمحصلة فرصة عمل مؤمنة وكريمة مع أجر كافٍ وحقوق كاملة خير من التورط بقرض من أجل مشروع صغير سيبتلعه الكبير.