عمل .. عمل  حتى الرمق الأخير

عمل .. عمل حتى الرمق الأخير

يبلغ الستين من العمر فيحال على التقاعد, ربما يكون ذلك هو المنطق السليم, فقد آن له أن يرتاح ويستمتع بما «ادخره» من تعبه الطويل, لكن الواقع غير ذلك تماماً, فمعظم هؤلاء العمال الكهول, ستراهم على رأس عملهم في مشاغل ومنشآت القطاع غير المنظم.

 

حين وضعت قوانين العمل، المنظمة للعلاقة بين العمال وأرباب العمل، تضمنت في موادها، عدد السنوات التي من المفترض أن يقضيها العامل في عمله، وكذلك السقف العمري الكفيل بالحفاظ على استمرار الإنتاج وفاعلية عمل العامل، ويعتبر سِنّ التقاعد من أحد معايير العدالة الاجتماعية في هذا القانون أو ذاك.

وقد حدد قانون العاملين الأساسي رقم 50 سن التقاعد بـ 60 عاماً، أو من قضى 25 عاماً في الخدمة، كحد أدنى، ليستحق العامل بعدها معاشه التقاعدي، الجزئي أو الكامل، الذي قضى سنوات شبابه في ادخاره، والذي من المفترض أن يؤمن له حياة كريمة وعزيزة في شيخوخته، التي غالبا ما تكون مملوءة بالوهن والأمراض التقليدية من سكر وضغط وآلام المفاصل.

تقاعد أم شيء آخر؟

يشمل إجراء التقاعد العاملين في القطاع العام جميعهم وفق أحكام القانون رقم 50، وفي القطاع الخاص وفق أحكام القانون رقم 17، والمسجلين حكماً بالتأمينات الاجتماعية, فيحصلون بموجبه على معاشهم التقاعدي، الذي من المفترض أن يغطي احتياجاتهم المعيشية كاملة، ومنها الطبابة، كونها أصبحت على نفقتهم، بعد أن كانوا يحصلون عليها قبل تقاعدهم من خلال التأمين الصحي. فإن كان الأجر أصلاً قبل التقاعد غير كافٍ لتأمين أدنى الضرورات المعيشية, فكيف به بعد أن اقتطع منه النسبة القانونية, عدا عن الارتفاع المستمر لتكاليف المعيشة, ومن البديهي أنه في ظل هذا التآكل المستمر للقيمة الشرائية للأجور وتدني المعيشة, ألّا يستطيع المتقاعد إعالة نفسه، وألّا يجد من هو قادر على إعالته من أبنائه العاجزين هم بذاتهم عن تأمين معيشة أُسرهم،  لذلك يشمر العامل المتقاعد عن ساعديه و(يقصد الكريم) بعمل ما في القطاع غير المنظم  كي يحفظ شيبته وكرامته.

( آخر همٍّ ها للحكومة)

في القطاع غير المنظم، لا وجود لمصطلح التقاعد، ولا وجود للمتقاعدين، إلا من رحم ربك، ومَنّ عليه بسنين من (البحبوحة) فادخر مبلغا من المال، يكون رأسماله في مشروع صغير يحميه خلال شيخوخته، وهذا ما لم يعد متاحاً منذ زمن ليس بقصير, وتحديداً حين بدأ الاتجاه الاقتصادي للحكومات بالمضي عنوة باتجاه السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي تمادت في تغليب مصالح أصحاب الأرباح على مصالح أصحاب الأجور، فأخذت من جيوب العمال مصروف أولادهم، وتأمين (كبرتهم) لتضعها فوق أرصدتهم البنكية، فلم يعد للعمال خيار سوى العمل والعمل, مهما طالت السنون. ومهما زاد العمر, وشابت الرؤوس، فلا معين بعد الله سوى عرق جباههم, فالحكومة الموقرة آخر همّها أجور عمالها في القطاع العام ومتقاعديها، فكيف من هم بالقطاع الخاص؟.

عزة أنفسهم 

لا تغني عن إنصافهم

لا يحق لأحد أن يَمُنّ على المتقاعد بمعاشه التقاعدي، فهذا حقه وهذه أمواله المقتطعة من أجره الشهري على مدى سنوات الخدمة، ولا يمكن لأي أحد أن يدعي بأن القانون أنصفه، وبأن الحكومة قدمت له الحماية الاجتماعية، فالحياة الكريمة لعمالنا الذين تقاعدوا واجب على الحكومة، بدءاً من زيادة القيمة الشرائية لمعاشهم التقاعدي، مروراً بالرعاية الصحية الكاملة والمجانية لهم، وليس انتهاءً بتقدير خدماتهم والاستفادة من خبراتهم العلمية والمهنية والفنية، واستثمارها في معاهد التدريب والتأهيل والإدارة, وتهيئة الإجراءات الاقتصادية الاجتماعية والحقوقية القانونية، للحفاظ على حقوقهم وكرامتهم، بدل الاتكال على عزة نفس هؤلاء، الذين تورمت أيديهم وأرجلهم، وأفنوا صحتهم، كي يأكلوا لقمتهم بالحلال، وبالحلال فقط.