في مدينة عدرا العمالية: التلوث يتفشى.. والحكومة ماتزال صامتة!
حملة رسمية أطلقت مؤخراً حول تلوث الأراضي الزراعية بسبب أكياس النايلون التي تغطي مساحات كبيرة في المدن والأرياف كافة.
من الجميل الاهتمام بالبيئة وهو الهدف الذي تسعى إليه كافة الدول العالم. ولكننا تناسينا التلوث الناتج عن المنشآت الصناعية في القطاع الخاص تحديداً، وما سببته وتسببه من أضرار للاقتصاد وللعاملين فيها والقاطنين حولها، خصوصاً وأن الآلاف من تلك المنشآت تنتشر في الأحياء السكنية، وهذه حقيقة واضحة لا يستطيع أحد إنكارها أو التستر عليها، غير أن ما يثير الدهشة والاستغراب أننا لدى الحديث عن حلول لهذه المشاكل نتجاهل الأسباب التي أدت إلى حدوث التلوث، وإلى إقامة هذه المنشآت بين البيوت السكنية.
تجاهل الإنسان:
وإذا كان هناك تجاهل لأسباب إقامة هذه المنشآت (وهي بالتأكيد أقيمت بعد أن دفع أصحابها رشاوى للبلديات ولجهات أخرى) فإن هناك تجاهلاً للمشكلة الأخطر في القطاع العام. أي الأمراض المهنية التي تفتك بالعمال في كافة المواقع الإنتاجية، مع تجاهل كلي لمبادئ للسلامة المهنية والأمن الصناعي، رغم وجود القوانين والتشريعات التي لو نفذت لحققت الأهداف الوطنية في مجال حماية اليد العاملة من الأمراض المهنية.
ويشير الاتحاد العام لنقابات العمال في تقاريره إلى أنه حقق نقلة نوعية في التثقيف والتوعية بأهمية السلامة والصحة المهنية، تتناسب مع مستوى التطور التقني والتكنولوجي الحاصل في سورية، وما ترتب على ذلك التطور من أهمية للسلامة والصحة المهنية، كوسيلة لتطوير قدرات العمال على التعاون مع التقنيات الصناعية، وذلك من خلال تخريج مشرفي صحة وسلامة مهنية من المعاهد النقابية وهنا نسأل:
أين مواقع هؤلاء؟ وإذا كان منهم من تخرج فهل قام ويقوم بدوره المباشر؟
الجواب نجده لدى جيش المرضى في كافة المؤسسات الإنتاجية.
الأرقام تتحدث:
في الشركة العامة للإطارات يتعامل العامل مع /100/ مادة أولية أكثرها كيميائي وخصوصاً في قسم الخلطة، وقد دخلت هذا القسم منذ سنوات لدقائق، وبعد خروجي منه فوجئت بأن الغازات اخترقت ثيابي وأصبح لون جسمي أسود بالكامل، فما بالنا بالعامل الذي يعمل لعشر ساعات يومياً في هذا القسم، أيضاً في قسم التحاليل المخبرية هناك عشر عاملات أجهضت الواحدة منهن مرات عديدة. وعلى كل في الشركة /1400/ عامل، هناك أكثر من /500/ يحملون تقارير طبية تطالب بإبعادهم عن العمل الإنتاجي، والإدارة لا تملك قرار الإبعاد، وكذلك الوزير، وهم ينتظرون الرحمة.
وفي شركة الأسمدة وفي المصفاة في حمص وبانياس وفي شركة الحديد وفي المناجم وكافة الشركات الإنتاجية آلاف المرضى والإصابات المهنية، والكلفة السنوية للعامل الواحد المشمول بالطبابة في الجهات العامة هي بحدود /4498/ ل.س سنوياً، وهذا الرقم يختلف من جهة إلى أخرى، وباعتماد أرقام السنوات السابقة والبالغة /1.7/ مليار ل.س تبلغ كلفة الطبابة في القطاع العام الاقتصادي /55/ مليون ل.س، وفي القطاع الإداري هنا نجد أهمية الضمان الصحي، ولكن الحكومة تتلكأ في إصداره وذلك بسبب منعكساته الإيجابية على العمل والعمال بشكل مباشر.
حسين الأحمد أمين الشؤون الصحية في الاتحاد العام لنقابات العامل يقول في هذا الموضوع:
«تسعى أمانة الشؤون الصحية بشكل دائم لتعفيل دور الصحة والسلامة المهنية، ودور مفتشي الصحة المهنية، لمالها من دور في حماية العامل من التعرض لإصابات العمل والأمراض المهنية وتحسين شروط وظروف بنية العمل، وقد وجه الاتحاد العام بالنقاط التالية:
التعاون والتنسيق مع الإدارات العامة لمعالجة أسباب إصابات العمل والتقيد بإجراء الفحوص الطبية.
توجيه النقابات للقيام بجولات ميدانية على المؤسسات العامة والخاصة بمشاركة مفتشي الصحة والسلامة المهنية لرصد الواقع الصحي فيها.
دعم لجان السلامة والصحة المهنية والتأكيد على قيامها بدورها.
زيادة عدد مفتشي الصحة والسلامة المهنية.
تطبيق الاتفاقيات والتوصيات الصادرة عن منظمتي العمل الدولية والعربية بخصوص الأمن الصناعي والسلامة المهنية.
والبيئة أيضاً:
ويتابع أمين الشؤون الصحية قائلاً: كلما اتسع قطاع الصناعة كلما اتسع حجم الملوثات الفيزيائية والكيميائية والحيوية، بالإضافة إلى وضعية أماكن العمل التي لا تتوفر فيها الشروط الأساسية للصحة مثل التهوية والضوء ونوعية البناء، مما يؤدي لتلوث بيئة العمل بشكل خاص، إضافة إلى تلوث البيئة بشكل عام. وقد أصبح التلوث واضحاً في كل مكان، وتعتبر دمشق بشكل خاص من أكثر مدن العالم تلوثاً.
وقد تسارعت الجهات الوصائية لإيجاد حل ما، وتم إحداث الهيئة العامة لشؤون البيئة، وتشكيل اللجنة الوطنية للبيئة ووضع إستراتجية عامة للجنة الوطنية للبيئة لدراسة الوضع البيئي والعمل على الحفاظ على بيئة نظيفة سليمة ومعافاة. طبعاً حدثت هذه التطورات وهذه الإنجازات منذ أكثر من خمس سنوات، وبعد ذلك أنشئت وزارة دولة لشؤون البيئة، وأحدثت مديريات للبيئة في كافة المدن. ولكن حتى الآن لازالت اللجان تدرس، ولا زالت التصريحات تؤكد، ولا زالت القرارات تصدر وجميعها قبض الريح، وعشرات الآلاف من العمال يعانون من مختلف الأمراض، والخاسر هو الاقتصاد الوطني، ولو سألت أي عامل في أية شركة إنتاجية عن دور لجان الصحة والسلامة المهنية ومهماتها لأجابك فوراً أنه لا يعرف شيء عن هذه اللجان ودورها!!
في عدرا العمالية:
من لم يمت بالسيف مات بغيره، البحر من وراءكم وعدرا العمالية أمامكم.
العامل يتعرض للتلوث في عمله في غياب السلامة المهنية والأمن الصناعي، ولكن في مدينة عدرا العمالية يتعرض وأسرته للتلوث والموت البطيء.
/25/ ألف مواطن، مما تبقى من عمال القطاع العام الذين فازوا بامتلاك بيوت من خلال عقود إذعان مع مؤسسة الإسكان والمصرف العقاري، ينعمون بيوتهم بعد كدح /8/ ساعات عمل و/3/ ساعات مواصلات وسط أسراب من الذباب والناموس القادم من محطة الصرف الصحي والمطاحن من الجهة الغربية للمدينة، وتقتحم مداخن شركة الأسمنت الثلاث شرق المدينة العمالية لتنفث كل مدخنة في الساعة الواحدة /7/ أطنان من الغازات السامة. تنشر سحابة سامة فوق المدينة تلوث الأرض والزرع والإنسان. وفي الجهة الشمالية محرقة لوحدات عسكرية تنفث سموم /120/ مادة كيمياوية تدخل في صناعة الإطارات والأحذية ومخلفات الجيش لتنتشر الأبخرة والروائح.
ويفصل المدينة عن مستودعات الغاز والنفط، حيث يتسرب الغاز مع التلوث الناتج عن معمل المنظفات، طريق دولي يسمونه طريق الموت يتقاطع مع المدينة الصناعية التي باتت تضم عشرات المعامل، ورحمة بسكان دمشق أمرت الجهات الوصائية بنقل الدباغات إلى عدرا لتكتمل حلقات التلوث بروائح الجلود والأصبغة والمواد السمية.
ويقف جبل الثنايا بشموخ ليفصل أوتوستراد دمشق حمص عن المدينة العمالية، وقبل سنوات كان ينفث الأبخرة مع أصوات الانفجارات التي يتسبب بها تجار البحص والرمل الذين منعوا من العمل، والآن يتواسطون للرجوع إلى هذا الجبل.
اكتملت الحلقة
وهكذا اكتملت الحلقة في مدينة يقطنها أكثر من /25/ ألف مواطن من ذوي الدخول المحدودة يعملون في شركات إنتاجية وصناعية في القطاع العام. ويبدو أن الجهات الوصائية لم تكتف بمعاقبة العمال في الشركات التي يعملون فيها من ناحية إهمال السلامة المهنية والأمن الصناعي بل هي تعاقب الآن عائلاتهم وأطفالهم من خلال التلوث في عدرا العمالية.
المهندس أيمن حاج أحمد رئيس المكتب الفني بالبلدية يقول: «منذ أن أنشئت عدرا العمالية والتلوث موجود بسبب شركة الأسمنت التي تنفث مئات الأطنان من الغازات يومياً، ومن محطة الصرف الصحي ومن حرق النفايات، وهذا التلوث خارج عن إرادتنا وقد وجهنا كتب عديدة ومراسلات إلى الجهات الوصائية ولكن لا حلول حتى الآن»
وحول واقع البلدية يقول: الضاحية تضم /25/ ألف إنسان، وتتوسع سنوياً، ولكنها تعامل على أنها قرية صغيرة تضم /50/ إنساناً، لذلك لا موارد ولا إمكانيات نهائياً.
ويقول المواطن محمد توتنجي: «الضاحية تفتقر إلى الخدمات بشكل عام، فيها حديقة مغلقة منذ /15/ سنة والنظافة معدومة والمواطن يحرق الزبالة للخلاص من الذباب، وغبار الأسمنت تسبب في أمراض عديدة بين الأطفال خصوصاً. وتنتشر الروائح وأسراب الذباب في شوارع وبيوت المدينة العمالية».
قبل أكثر من عامين قال وزير الصناعة إنه قد تم توقيع عقد مع شركة نمساوية لإحضار فلاتر لمعمل الأسمنت، ومدة التوريد /18/ شهراً، والآن بعد /30/ شهراً لم يتم التوريد، ولازالت المداخن تنفث سمومها في الشركة، والعمال وأطفالهم يعانون العديد من الأمراض (سرطانات، التهاب جلد، ضيق تنفس) سحابة من غبار الأسمنت تغطي المدينة بالكامل، الأشجار تحترق، والغبار يغطي الوجوه. ولكن الاجتماعات تعقد يومياً للبحث في شؤون البيئة والحديث الدائم عن هذا الإنجاز العظيم (السكن العمالي)، والمدينة تتوسع كل عام، والمرضى يزدادون عدداً، والخاسر هو الإنسان.