العمال السوريون في تركيا: استغلال حتى آخر «سُعرة حرارية»..!

العمال السوريون في تركيا: استغلال حتى آخر «سُعرة حرارية»..!

تواصل الأزمة السورية الكشف تباعاً عن أوجه جديدة لها. من بينها أزمة العمال السوريين في تركيا الذين يقاسون أسوأ الظروف، من حيث تدني الأجور، وطول يوم العمل، وارتفاع تكاليف الحياة. وسط تواطؤ حكومي تركي ليس طارئاً أو غريباً مع أرباب العمل، وصمت وتجاهل إعلامي متعدد الوجوه. 

 

لا تحتاج ظلال الحرب السورية الثقيلة وأصداؤها المرعبة إلى تأشيرات خروج حتى تجتاز حدود البلاد إلى خارجها. هي تنساب خارجة مع كل هارب من جحيم هذه الحرب المجنونة، تقيم حيثما يقيم الهاربون، تجثم على صدورهم، وتعشعش في زوايا المخيمات والأكواخ الفقيرة.

يخال الهارب من جحيم الحرب أنه قد أفلت من فِخافها، لكنه سرعان ما يجد نفسه يغوص مجدداً في أوحال الجوع والعناء والاستغلال البشع بمختلف أشكاله.

يتكرر سيناريو الجحيم هذا على ملايين السوريين في بلدان الجوار، الذين يعيشون في أزمات قاتلة، لا يجري التركيز عليها في وسائل الإعلام بقدر تكرار البكائيات حول «الأعباء» التي تتحملها حكومات تلك البلدان، واستعراض آلام السوريين فقط في إطار التسول و«الشحادة» على حالهم..

السوريون في تركيا

تتحدث إحصائية رسمية تركية صدرت بعد إغلاق الحدود أمام النازحين وفرض الفيزا على السوريين، عن وجود 2.75 مليون سوري في تركيا، يتوزع نصفهم تقريباً في محافظات اسطنبول وغازي عنتاب وأورفة. فيما ترجح التقديرات أن الرقم الفعلي أكثر من ذلك بكثير، ذلك أن الرقم المذكور أعلاه يشتمل فقط الحاصلين على «بطاقة الحماية المؤقتة» أو ما يسمى (الكيملك). في حين أن قسماً كبيراً من السوريين المقيمين في تركيا لا يحمل وثيقة تثبت وجوده فيها ويعد «مخالفاً» في إقامته.

الغالبية الساحقة من اللاجئين السوريين في تركيا يعملون في ظروف قاسية وبأجور متدنية، وساعات عمل طويلة، ودون ضمانات قانونية، أو تأمينات اجتماعية، وذلك ضمن تواطؤ واضح بين الجهات الحكومية التركية وأرباب العمل في أهم المدن التركية، مضمونه السماح باستثمار السوريين، كَيدٍ عاملة رخيصة وبلا قيود حقوقية وقانونية، بالرغم من كونها مدربّة وذات أهمية عالية كرأسمال بشري، وتوجد نسبة معتبرة منه حاملة للشهادات الجامعة ومدربة أكاديمياً.

بالأرقام..

يتوزع مئات الألوف من العمال السوريين في مدينة اسطنبول مثلاً، على آلاف الورشات والمعامل. وتبلغ  وسطياً أجرة العامل السوري في الورشات والمصانع حوالي 1000 ليرة تركية (350$) شهرياً. مع العلم أن الحد الأدنى للأجور في تركيا 1300 ليرة تركية (450$). وتمتد ساعات العمل في هذه الورشات والمصانع إلى 12 ساعة عمل يومياً، تتخللها نصف ساعة غداء.

أما بالنسبة لتكاليف المعيشة، فتحتاج أية أسرة سورية لكي تؤمن قوتها اليومي في مدينة مثل اسطنبول إلى ما لا يقل عن 2700 ليرة تركية (حوالي 900$)، بحسب معظم من التقتهم «قاسيون»، يتوزع المبلغ ثلاثة أثلاث وسطياً بين أجار منزل، ومعيشة ومصاريف أخرى كأقساط دراسية وضرائب. هذا عدا التكلفة الأولية لاستئجار منزل وتأثيثه ودفع ضرائبه، وتعادل تقريباً (1500$). لذا تحتاج الأسرة إلى وجود 3 أو 4 أشخاص عاملين، كي تتحمل نفقات استئجار منزل لأول مرّة (تأمين لصاحب العقار، وضرائب باهظة في البداية للكهرباء والماء والغاز)، والاستمرار لاحقاً.

العمل.. أو لا خيار

التكاليف الأولى لاستئجار بيت «تقصم الظهر لمدة سنة تقريباً، نوصل خلالها الليل بالنهار عملاً، وتثقل كاهلنا الديون»، يقول أبو يحيى، من مدينة حلب لـ«قاسيون». ويروي: «أعمل أنا وزوجتي وابنتي الكبرى حتى نتمكن من حمل مصروف البيت. فلكي تعيش في مدينة مثل اسطنبول عليك أن تصل ليلك بنهارك عملاً، وإلا فليس أمامك من خيار سوى أن تعود إلى جحيم الحرب إذا استطعت، أو أن تذهب إلى المخيمات ( مخيمات اللاجئين السوريين، جنوب تركيا)، الأشبه بالسجون كي تقضي نهارك واقفاً في الطوابير، وتعد النجوم ليلاً بلا دراسة أو حياة أو عمل..».

يصبح الحمل ثقيلاً عند وجود أبناء طلبة في العائلة، فأجور التدريس باهظة وليس بمقدور غالبية الأسر تدريس أبنائها. تقول إحدى السيدات: «عندما كنا نعيش في سورية قبل الحرب، كنت ربة منزل، وبناتي الثلاث كنّ طالبات، اليوم أنا وبناتي عاملات في مشغل خياطة لمدة 12 ساعة في اليوم، أعمارهن 13 و15 و16 سنة، كل منا نحن الأربعة تحصل على أجرة صبي في تركيا، حوالي 800 ليرة تركية. أَكلّ هذا كي نعيش فقط؟ ما فائدة العيش إن لم يكن هنالك أملٌ بأن الفتيان يدرسن ليعشن حياة أفضل؟!».

الحلوى هي الحل..!

وليست الحال بأفضل بالنسبة للشباب العازبين أو الأشخاص الذين يقيمون دون عائلتهم في تركيا. فهؤلاء بمعظمهم يعيشون في ما يسمى بـ«السكن الشبابي». والذي هو عبارة عن نُزل متواضع تؤجر فيه الأسرّة وليس الغرف. يقول ع. الأفندي، شاب عشريني من إدلب، لـ«قاسيون»: «أدفع كل شهر 350 ليرة تركية أجرة للسكن الشبابي، وأعيش بـ450 ليرة وأرسل 150 ليرة (50 $) لوالدتي في الداخل السوري». يشرح الشاب تفاصيلاً أكثر: «في السنة الماضية حاولت أن أوفر من أكلي وشربي 100$ في الشهر، وبالكاد كنت آكل. أما الآن فلا جدوى من توفير هذا المبلغ لأنك ما تكاد تجمعه حتى تنفقه، ولأن حياتنا باتت دورة مغلقة ولا أفق لشيء..».

في السكن ذاته يعيش أبو خليل، رجل دخل حديثاً في عقده الخامس ولا تزال زوجته وأطفاله في سورية، يروي لـ«قاسيون» ضاحكاً عن «نضالاته» ضد ربّ العمل، وكيف أفلح في توحيد كلمة العمال السوريين والأتراك حيث يعمل، في ورشة خياطة وكوي، ومطالبته بتقليل ساعات العمل من 12 ساعة ونصف حتى 11 ساعة لأن قوى العمال خارت ولا يمكنهم المواصلة. فكان أن «فَهمهم» رب العمل و«دلّلهم» فأحضر حلوى رخيصة رديئة الصنع، و«وزعها كمكافئات دون أن يقلل ساعات العمل. ساعياً لزيادة طاقاتنا بواسطة السكريات التي في الحلوى».

قانون خُلّبي

ولكي تسقط الحكومة التركية عنها الذريعة أصدرت قراراً بمنح تراخيص عمل نظامية للسوريين في تركيا، وينص هذا القرار على السماح لأرباب العمل الأتراك بتشغيل السوريين بما لا يتجاوز الـ10% من مجموع العمال، وتسجيلهم في الضمانات الاجتماعية ودفع الضرائب عنهم. واستثنى القرار بعض الفئات من العاملين، كالعاملين في المجال الطبي والتعليمي والقانوني.

هذا القرار الذي يبدو حلاً في شكله، هو الذي يفسح المجال للتشغيل الجائر للسوريين، ذلك أن السوريين يضطرون للاستعجال في بيع قوة عملهم لتأمين مصاريفهم يوماً بيوم، ولا يعد التقيد بالأطر التي يضعها القانون خياراً متاحاً  بالنسبة لهم، وهي قوانين لا ينفذها ببساطة أرباب العمل، فيما تتغاضى الحكومة عن تشغيلهم غير القانوني للسورين. أما إذا جرى أي خلاف بين العامل ورب العمل فسيتم فصل العامل بالأحوال جميعها لأنه قانونياً لا يجب أن يعمل ضمن الشروط المذكورة فيما سلف.

«الصدقة والإحسان»

يغلب على الخطاب الرسمي التركي في تعاطيه مع قضية اللاجئين السوريين طابع إشاعة  حالة من «التصدق والإحسان»  اللفظي على السوريين، توازياً مع التغاضي عن حقوقهم وأزماتهم المعيشية. وهو الأمر الذي يخفي وراءه مسألتين أساسيتين: الأولى: هي محاولات استجلاب دعم دولي مالي  عبر قضية اللاجئين السوريين من خلال الإبقاء على أزماتهم الخانقة وأحوالهم البائسة. والثانية: تشغيل المال السياسي من خلال تمكين بعض الجهات «الخيرية» و«الاجتماعية» من أوساط المعارضة السورية المتشددة التابعة للقرار التركي في التغلغل في أوساط السوريين من خلال الصدقات والعطايا.

لا يزال ملف الأحوال المعيشية الصعبة لعموم السوريين في تركيا، وخصوصاً العمال، كغيره من الملفات العالقة في الأزمة السورية، ينتظر حله جذرياً وبالعمق من خلال الحل السياسي الذي يفسح المجال أمام ملايين السوريين للعودة إلى سورية، والمشاركة في بناء نموذجهم الخاص الذي يطمحون إليه. والخروج من هيمنة إرادات حكومات الحرب وأمراء سوقها السوداء.

 

آخر تعديل على الأحد, 16 تشرين1/أكتوير 2016 13:53