إصابة المياومين.. (أعطوهم قرشين)
وقع ما كنا قد توقفنا عنده مراراً وحذرنا منه تكراراً، فأحد عمال الأفران الاحتياطية تعرض لإصابة قاسية فدخل المجهول وتاه بين أوجاع الإصابة والمعيشة، وما بين متاهات القوانين وضبابية الطريق المؤدي لاقتلاع الحقوق.
العامل المصاب والزميل النقابي
مرة أخرى، وخلال الشهر الماضي، يتعرض واحد من العمال المياومين في أحد الأفران الاحتياطية الموجودة في دمشق خلال الشهر الماضي لإصابة خطيرة في يده اليمنى، وذلك بعد أن علقت بإحدى الآلات مما أدى لتعرضها لتهشم وكسور متبدلة عدة، وعلى الفور قام بعض زملائه بإسعافه لمستشفى ابن النفيس الحكومي، ومن حسن حظ العامل المصاب وجود زميل له من بين المسعفين يمارس عملاً نقابياً ويتمتع بالاطلاع الكافي على الحقوق الأساسية للعامل، فطلب أن تحضر الشرطة وأن يكتب ضبط بالحادثة والإصابة بالتاريخ والساعة، فتجاوبت إدارة المستشفى معهم وكذلك فعل كاتب الضبط مما مكنهم من الحصول على تقرير طبي رسمي يسمح للعامل المصاب أن يتابع مهمته القادمة، ألا وهي الحصول على حقه في إصابة العمل، ولكن كيف الوصول لهذا الحق البديهي فهذا ما لا يعرفه العامل وزميله النقابي.
من يعوض العامل
لا يعلم العامل المصاب بعد ما تداعيات إصابته وما إذا كانت ستؤدي لعجز ما في يده، كونه ما زال في مرحلة العلاج، فيده التي تهشمت احتاجت لعملية جراحية وتركيب صفائح معدنية تكفل مشرف الفرن بدفع ثمنها التي تجاوزت 200 ألف ليرة، ويعتبر هذا السلوك من المشرف سلوكاً متعارف عليه بالتعامل مع هذه الحالات طوال الوقت على مبدأ (عطوه قرشين وراضوه)، وهو مطابق للسلوك المتبع في القطاع الخاص غير المنظم، ولكن ماذا بعد دفع القرشين من سيدفع أجرة العامل المصاب طوال فترة غيابه ونقاهته، ومن سيعوضه إذا ما سببت له الإصابة عجزاً ما يمنعه من العمل لاحقاً، ومن سيدفع ثمن الأدوية (وما أكثرها وأغلاها) التي يحتاجها، ممن سيطلب ومن سيحاسب، وإذا ما لجأ للقضاء كونه يمتلك الأوراق المطلوبة لرفع دعوى قضائية ينال خلالها حقوقه فعلى من سيقيم هذه الدعوى، على الوزارة المعنية أم على لجنة الأفران الاحتياطية أم على رب عمل ليس برب عمل، أم أن دماءه التي نزفت وعظامه التي تكسرت ستذهب (هدرا بين القبائل)؟.
اللجنة النقابية لا يعنيها الأمر!
يحاول العامل المصاب خلال هذه الفترة، ومن خلفه زميله النقابي، تلمس الطريق ومعرفة الإجراء الذي لا بد من اتخاذه كي لا تضيع حقوق العامل، وتبدو هذه المهمة صعبة للغاية، فقد شهد العاملان حالة مماثلة حدثت في أحد الأفران الاحتياطية في ريف دمشق، حيث بترت يد أحد العمال بنوعية الآلة نفسها التي أصيب بها (عاملنا) ولم تصل للنهاية المرجوة، فالقرشين الذين أخذهما العامل ذاك لم يكفيا سوى مصروف شهر أو شهرين وبعدها (فتح فمه للهواء)، ولهذا يخشى الزميلان أن يصيبهما ما أصابه، متأملين أن يحدث انفراج قريب لوضعهما المستعصي إذا ما قاما باللجوء للتأمينات الاجتماعية لفهم موقفهما القانوني وإمكانية تحصيل حقهم بالطرق القانونية، ويلفت الانتباه موقف اللجنة النقابية في اللجنة العامة للأفران الاحتياطية، حيث اعتبرت نفسها ممثلة للعمال المثبتين فقط دوناً عن المياومين، وهذا يعتبر مخالفاً لقانون التنظيم النقابي ولروح العمل النقابي.
كيف يكون العامل رب عمل؟
تتبع الأفران الاحتياطية للجنة خاصة بها تسمى اللجنة العامة للمخابز الاحتياطية، وهي من تضع مشرفين على الأفران، وهؤلاء المشرفون يتمتعون باستقلالية كبيرة، ومن أحدها تشغيل العمال في الفرن الذي يشرف عليه فيشغل العدد الذي يحتاج إليه الإنتاج المخصص له، ليس كعمال ثابتين رغم أن الفرن من الأملاك العامة، وليس كمؤقتين أو بعقود سنوية، بل كعمال مياومين لا يخضعون لأي قانون ينظم العلاقة بينهم وبين رب العمل، والذي بالحقيقة ليس إلا موظف لدى القطاع العام في مزاوجة عجيبة بين كونه عامل ورب عمل في آن معاً يشغل ويسرح, يكافئ ويحسم, ويحدد قيمة الأجر، وبالنتيجة فإن المشرف هو فعلياً رب عمل في هذا الشق من الأمر، وأما بالشق المتعلق بواجباته اتجاه (عماله) فلا واجبات عليه، سواء رغب في ذلك أو لم يرغب، فلا مستند قانوني للارتكاز عليه كون العمالة الموجودة في الأفران تعمل تحت بند العمالة المياومة المحرومة من أبسط الحقوق، على رأسها التسجيل بالتأمينات الاجتماعية التي تضمن إصابة العمل مما يضع العمال تحت رحمة ضمير هذا المشرف أو ذاك.
النقابات تطالب
والحكومات تطنش
طالت معاناة العمال المياومين في الأفران الاحتياطية كثيراً، وبُحت أصوات النقابين في المؤتمرات وعلى المنابر، ولم يخل تقرير من ذكرهم والمطالبة بحقوقهم المحجوبة عنهم، ولكن لا أحد يجيب ولا يأتي رد منطقي على ذلك، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن وراء الأكمة ما وراءها، فالآلية العامة للأفران الاحتياطية مثيرة للشبهة بدرجة كبيرة، ويكفي أن تنصت للعمال أنفسهم وهم يتحدثون بخباياها الكثيرة وزواريبها الضيقة، وأسرار مادة الخميرة والمعدلات الحسابية لمادة الطحين وشيفرة المازوت ...الخ، لتكتشف بأن الجانب المتعلق بالعمال حلقة من سلسلة متينة من الخلل الإداري والقانوني والمؤسساتي، هناك من هو حريص على عدم حل أية حلقة فيها كي لا تفرط السلسلة ويتوقف رزقهم (الحرام) وأي رزق؟ رزق منهوب من عرق العمال، وعلى حساب رغيف الخبز, قوت السوريين وحصانتهم الأخيرة من الجوع.
لحمهم ليس رخيصاً
نعتقد بأن بقاء هؤلاء العمال بدون قانون ينظم العلاقة بينهم وبين رب العمل (الحكومة) هو الطامة الكبرى التي تمنعهم من تحصيل أدنى حقوقهم، وهم بذلك سيبقون خارج مظلة التأمينات الاجتماعية التي تحميهم من إصابات العمل والوفاة والعجز والشيخوخة، وستحمي عائلاتهم من العوز وستبقى أية إصابة لعامل ما أو حادثة وفاة لعامل آخر في رقبة الحكومة الحالية ومن سبقها أيضاً، فأية حجة لكل تلك الحكومات هي تضليلية وغير موضوعية، بل إنها لا تعدو أن تكون محاولات مستمرة للتهرب من مسؤولياتها اتجاه عمال يعملون في أفرانها في حين يتوجب عليها أن تصدر قراراً (عاجلاً غير آجل) بتثبيتهم كعاملين لديها، وفق القانون الأساسي للعاملين في الدولة رقم 50، وأن يصبحوا كغيرهم من عمال القطاع العام لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فهؤلاء عمال سوريين وليسوا لحماً رخيصاً يتركون لمصيرهم أو رهائن لضمير مشرف طيب وآخر فاسد، وعلى التنظيم النقابي الاستمرار بالضغط والتصعيد حتى رؤية توقيع القرار بأم أعينهم، فالوعود والتسويف ما (عادت تطعمي خبز) فأنصفوا صناع الخبز.