العمال (الأحداث) والخيارات المحدودة
يدفع الفقر بالبعض منهم لمعمل هنا وورشة هناك, يرغبون بتحسين معيشتهم ومساعدة عائلاتهم، فيقصدون سوق العمل ليحصلوا على أجر ما، يغنيهم عن السؤال والحاجة, البعض الآخر لم تسعفه علاماته بشهادة التعليم الأساسي بإكمال تحصيله الدراسي، فأصبح العمل خياره الوحيد فيدخل معمعة السوق وقوانينه الجائرة، لعله يشق طريقه نحو الأمام.
يشكل العمال الأحداث (الفتية) الذين تتراوح أعمارهم بين 15 -18 عاماً، فئة عمالية لا يستهان بحجمها ولا يقلل من أهميتها، وتختلف العوامل التي أدت بتحول هؤلاء لسوق العمل بدلاً عن المتابعة بالدراسة الثانوية، وأيضاً تختلف هذه العوامل باختلاف الزمن، ويبقى للفقر سطوة الزعامة من مجمل العوامل واختلاف السنين والعقود، فمع كل تراجع حصل للوضع المعيشي للعائلة السورية خلال العقدين الأخيرين، بفعل السياسات الاقتصادية الليبرالية، كان بالمقابل ارتفاع بأعداد العمال الأحداث المنخرطين بسوق العمل، فأجر واحد أو اثنين للعائلة لم يعد كافياً لإعالتها، فدفعت العائلات المعتمدة على الأجر بأولادها لسوق العمل كي تزيد من دخلها وتحافظ على معيشتها وكرامتها.
حقوق على ورق
ينحصر عمل الأحداث بالقطاع الخاص، كون قانون العاملين الأساسي يحدد عمر المتعاقدين مع القطاع العام ما فوق 18 عاماً، في حين يسمح القانون رقم 17، المعني بعمال القطاع الخاص، بتشغيل الأحداث 15 عاماً وما فوق، ووضع الضوابط القانونية له بالفصل الثاني من القانون تحت عنوان تشغيل الأحداث، الذي يضم خمسة مواد: من 113-118، وفيها يذكر القانون شروط تشغيل الأحداث من قبل رب العمل، والحقوق التي يتمتعون بها، وأهمها عدم جواز تشغيل العامل الحدث لأكثر من ستة ساعات يومياً يتخللها فترات للراحة، بحيث لا يعمل لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة، كما لا يجوز تكليفه بساعات عمل إضافية أو تشغيله بالعمل الليلي، كما يحق للعامل الحدث إجازة سنوية لا تقل عن ثلاثين يوماً، وحقه بوجود عقد عمل بحضور ولي أمره وموافقته عليه، ويكلف القانون الوزير المختص بإصدار قوائم المهن والصناعات والأعمال التي يحظر على أرباب العمل تشغيل الأحداث بها، حيث يراعى فيها صحة العامل وضمان سلامته الجسدية والنفسية.
ورغم وجود القانون إلا أن معظم أرباب العمل لا يلتزمون به ولا بمواده، وتكفي جولة واحدة على عدة منشآت صناعية لإثبات ذلك.
وتجدر الإشارة بأن العمال الأحداث يحق لهم الانتساب لنقابات العمال، فقانون التنظيم النقابي أتاح لمن بلغ الخامسة عشرة من العمر الانتساب الطوعي للنقابة التي يتبع لها وفق مهنته.
استغلال مضاعف
يرغب أصحاب العمل بتشغيل العمال الأحداث لما يحققونه من مكاسب عديدة أهمها: أجورهم المتدنية وقلة حيلتهم المهنية والاجتماعية، المصاحبة لطاقتهم الجسدية والذهنية العالية، بالإضافة لسهولة التحكم بهم لجهلهم لحقوقهم وأدوات الدفاع عنها، فيعمل على ابتزازهم واستغلال الطاقة الهائلة التي يتمتعون بها في هذا العمر، بحجة أنه يعلمهم (مصلحة) ويجعل منهم مهنيين وحرفيين وفنيين، ويعلم من له باع في المعامل والمشاغل كيف يلجأ بعض أرباب العمل، بخبث شديد، لتأخير تعليم عمالهم الأحداث قدر المستطاع، كي يستمر نهبهم للقيمة المضافة التي ينتجها هؤلاء لأطول مدة ممكنة، ولا يتمتعون بأية ميزات خاصة أو تسهيلات مفترضة بحكم صغر سنهم، بل على العكس من ذلك فأغلب المعامل والمشاغل في القطاع غير المنظم يكون هؤلاء الأحداث أول من يأتي للعمل وآخر من يغادره.
العمال الطلاب عمال موسميون
هناك قسم من العمال الأحداث ليسوا عمالاً دائمين، بل موسميين يعملون خلال أشهر العطلة الدراسية، كونهم طلاب يتابعون التحصيل الدراسي، ولا يكون السبب الوحيد وراء عملهم الحاجة المادية؛ بل يمكن إضافة رغبة الأهل بتعليم أطفالهم لمهنة ما إلى الأسباب الرئيسية لذلك، وهذا الأمر شائع في البلاد ويمكن اعتباره تقليداً توارثته الأجيال عبر الزمن وأصبح جزء من الوعي الاجتماعي السائد، ولسنا بصدد البحث فيه.
وربما يمكن القول بأن إيجابيات هذا العرف تغلب على سلبياته، رغم الخلل في العرض والطلب على اليد العاملة، وتأثيره المباشر على الأجور، الذي يحصل مع بدء توافد العمال الطلاب بداية العطلة الدراسية، تبقى لإيجابياته التأثير الأكبر، وأهمها إمكانية حصول الطالب الذي يفشل دراسياً خلال المرحلة الثانوية على عمل في مهنة تدرب عليها خلال العطلات، فذلك أفضل من أن يدخل سوق العمل من الصفر.
ثمن التعليم باهظ
تختلف أجور العمال الأحداث وفق المهن التي يشتغلون بها؛ فكلما كانت المهنة أكثر تعقيداً كلما كان الأجر أقل، فمثلاً عامل توصيل الطلبات يحصل وسطياً على 6 ألاف أسبوعياً، في حين يحصل عامل الخراطة الحدث على 2000 ليرة فقط، ومثال آخر يبلغ أجره في محلات بيع الألبسة على 5 آلاف أسبوعياً، وإن عمل في الخياطة فسيحصل على 3 آلاف، وأما إذا رغب أن يعمل بصالون حلاقة فسيعمل بدون أجر، وفي بعض الأحيان سيدفع لرب عمله مقابل تعليمه المهنة، وهذا يضع أمامنا السؤال الذي لا بد من طرحه: أين دور الدولة ولماذا تترك هذه الشريحة الهامة بيد أسياد السوق والمال؟ أليس من واجب الدولة ومن مصلحتها في آن معاً أن تكون هي الراعية لهم والمشرفة على تأهيلهم وتدريبهم والاستفادة من خبراتهم لاحقاً؟! أم أن السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تعمل بها الحكومات السابقة يناسبها هذا الواقع الذي تستغله لآخر نقطة!؟.
أعلى نمو وأوسع عدالة
نسمع دائماً من يتحدث عن أهمية تواجد العمال الأحداث بسوق العمل، وخاصة بالمواقع الإنتاجية، مدعياً بأنهم سيكتسبون الخبرات المهنية والفنية التي ستطورهم، وبالتالي ستطور العملية الإنتاجية الوطنية، متبنياً بهذا الطرح مصلحة أصحاب الأرباح الساعيين لشراء تعبهم وعرقهم بأبخس الأجور.
إن أية دولة معنية بإعداد القوى المنتجة واليد العاملة بما يتناسب مع النهج الاقتصادي المعتمد، والحقيقة تقال بأن الحكومة من خلال تعاطيها مع الطبقة العاملة بشكل عام تبدو منسجمة مع نهجها الاقتصادي الليبرالي المضر بالإنتاج والقوى المنتجة، ومن هنا تبرز قضية التغيير الجذري للنهج الاقتصادي السائد كمهمة أساسية وملحة، وتبني برنامج شامل يحقق أعلى نمو وأوسع عدالة.