المفاوضات الجماعية أم الإضراب.. أو الأثنين معاً؟
يتضمن الحوار الاجتماعي، كما عرفته منظمة العمل الدولية، أشكال تبادل المعلومات والاستشارات والمفاوضات كلها بين ممثلي الحكومة ومنظمات أصحاب العمل ونقابات العمال، على قضايا ذات مصلحة مشتركة متعلقة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية. ويعتبر التفاوض بين طرفي العلاقة الإنتاجية أعلى أشكال الحوار الاجتماعي.
ظهرت فكرة المفاوضات الجماعية بين أطراف العمل الثلاث (العمال, أصحاب العمل, الحكومة) مع الاقتصاد الحر والليبرالية، حيث يروج لها على أنها وسيلة سلمية وحضارية تتميز بالحوار الديمقراطي بين أطراف العمل، وتحقق السلام الاجتماعي والاستقرار, يترتب عليها أن تؤدي إلى تنمية العلاقات الاجتماعية بين أطراف العلاقة الإنتاجية، فتتسم هذه العلاقة بالإنسانية, معتبرينها تطويراً لأساليب النقابات العمالية التي يتهمونها بالعنف، كالإضراب والاعتصامات، زاعمين أن زمن هذه الأساليب قد ولى إلى غير رجعة.
ذرّ للرماد في العيون
هذه الأحلام والوعود كلها التي يسوقها الليبراليون ويدافعون عنها أثبت الواقع العملي فشلها، وأن كلامهم المعسول عن السلام الاجتماعي والحوار والإنسانية ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون، لتضليل العمال وإبعادهم عن سلاحهم الحقيقي «الإضراب».
أنصار المفاوضات الاجتماعية يعتبرون الإضراب عملاً عنفياً ويخل بالسلم الاجتماعي، بينما هو عمل احتجاجي سلمي لرفض الواقع القائم، ودليل على وعي الطبقة العاملة لمصالحها وحقوقها، وهو السلاح الأمثل للعمال في ظل الأنظمة الرأسمالية لمواجهة شراسة أصحاب العمل.
وقد اعترفت منظمة العمل الدولية، أن من أبرز معوقات تطبيق نظام المفاوضات الجماعية هي: عدم احترام المبادئ والحقوق الأساسية في العمل، التي أدت إلى ازدياد معدلات الفقر والبطالة مع غياب الحريات السياسية والعامة وعدم استقلالية المؤسسات النقابية.
لماذا لا يمكن الجمع بين نظام المفاوضات الجماعية وحق الإضراب معاً؟
إذا اعتبرنا أن الاكتفاء بالمفاوضات الجماعية فقط حلاً وحيداً، فليس هناك أحد ضد الحوار، ولكن هل يمكن أن يكون هناك حواراً جدياً من دون وجود مؤيدات أو ضمانات لتنفيذ ما يتفق عليه, فمن غير المعقول اعتبار طرفين مفاوضين أحدهما طرف ضعيف لا حول له ولا قوة ولا وزن وليس بيده أية أداة للضغط، بينما الطرف الآخر يملك مقومات القوة كلها، أنداداً في حوار جدي متكافئ، وخصوصاً في الأنظمة الرأسمالية، حيث ميزان القوى الاقتصادي والسياسي في صالح أصحاب العمل, ففي هذه الحالة يتحول الحوار إلى مجرد مفاوضات استسلام، ونتائجها بمثابة شروط إذعان تفرض على العمال من قبل أصحاب العمل دون أن يكون بيدهم أية وسيلة لرفضها أو الاعتراض عليها ..
ويُحمّل أصحاب نظرية المفاوضات الجماعية فشلها إلى العامل الذاتي للمفاوضين، لا إلى العامل الموضوعي، معتبرين أن عدم الإيمان العاطفي بالمفاوضات وبنجاحها، وعدم بذل جهد كبير لإنجاحها، وعدم تقبل الآخر... وليس إلى ميزان القوى وتضارب المصالح والصراع الطبقي بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيء..
مزيد من الفوارق
الطبقية والأزمات
وبينت تطبيقات نظام المفاوضات الجماعية أنها لم تؤدِ إلى تحديث شروط العمل وتحسين ظروفه، ولم تحقق العدالة الاجتماعية ولم تمنع حدوث الأزمات الاقتصادية، كما وعدنا منظروها، بل على العكس تماماً فقد زاد اضطهاد العمال وازدادت شروط العمل وظروفه سوءاً، وازداد هجوم أصحاب العمل على حقوق الطبقة العاملة ومكتسباتها التي حققتها خلال عشرات السنين، وتمركزت الثروة بيد قلة قليلة على حساب الملايين, ولم تؤدِ إلى علاقات إنسانية بين طرفي الإنتاج (العمال, وأصحاب العمل) بل ازدادت الفوارق الطبقية وارتفعت معها معدلات الاحتقان الشعبي التي أدت إلى انفجارات عدة، كما يحصل في منطقتنا اليوم.
ولم تمنع المفاوضات الجماعية من حدوث توقف في الإنتاج وعدم الوقوع في أزمات، لأن الأزمات الاقتصادية أساساً هي نتيجة للأزمة البنيوية داخل النظام الرأسمالي نفسه، وليست مطالبة العمال بحقوقهم هي السبب... فالغرب عموماً يتبنى نظام المفاوضات الجماعية، وهو اليوم يعاني من أزمات اقتصادية حادة وتوقف ولإفلاس العديد من قطاعاتهم الإنتاجية.
السعي خلف الربح سبب الأزمات
تتضح اليوم حقيقة أن نظام المفاوضات الجماعية هو عبارة عن أسلوب من أساليب سلطة رأس المال لتجريد العمال من سلاحهم الوحيد (الإضراب) وجرهم إلى مناكفات كلامية وإعلامية لا تجني ولا تثمر (كما هي حال البرلمانات في الرأسمالية) بحجة أن الإضراب يوقف الإنتاج ويضر بمصلحة البلاد الاقتصادية, بينما في الواقع إن الاستغلال الذي يمارسه أصحاب العمل تجاه العمال وسعيهم وراء الربح هو الذي سبب الأزمات الاقتصادية، وليس ممارسة العمال لحقهم الطبيعي في رفع الظلم عن أنفسهم .