الخيار الوحيد ...أن تعمل في بيتها
يشتغلن ضمن منازلهن’ لا يشغلن بالهن بطبيعة العمل أو صعوبته, ولا يتجرأن على التململ والاعتراض على الأجر المخزي الذي يحصلن عليه, حاصرتهن الظروف الاجتماعية البائسة, وأنهكتهن الأزمة ففضلن العمل ضمن منازلهن, كي لا يحرمن أولادهن من رغيف خبز وبقايا حياة.
لطالما سعى أرباب الأعمال لتخفيض كلف الإنتاج بأساليب مختلفة ولطالما كان الهدف الأساس عند رب العمل توسيع الربح، فيسعى باستمرار لتخفيض القيمة الفعلية لكتلة الأجور التي يدفعها لعماله لأدنى حد ممكن, مستخدماً طرق عدة مباشرة وغير مباشرة, ولكن ما نحاول طرحه هنا والإضاءة عليه هي واحدة من هذه الطرق ألا وهي الاعتماد على اليد العاملة الأدنى أجراً نسبياً من بين مجمل شرائح العمال, وإن كان من البديهي معرفة أن اليد العاملة الأرخص نسبياً هي اليد العاملة النسائية بشكل عام, فإن العمالة النسائية المنزلية بشكل خاص, هي الأدنى أجراً على الإطلاق, ولهذا التدني أسبابه الكثيرة التي يحرص المستفيدون منها على ديمومتها إلى ما شاء الله, فهي أحد أسباب توسع أرزاقهم, وتراكم أرباحهم.
الحرفيات شيء و العاملات شيء آخر
العمل النسائي في المنزل ينقسم لقسمين أساسيين, فمنهن الحرفيات اللواتي يملكن عملهن الخاص كالخياطة مثلا ومهنة الحلاقة والتجميل, وهؤلاء يتمتعن بدخل جيد بل وبهامش لا بأس به من الربح , أما القسم الآخر فهن ربات بيوت حرصن على المشاركة بتحمل أعباء المعيشة الثقيلة, ومنعتهن ظروفهن الاجتماعية والعائلية من الانخراط في سوق العمل وتحصيل أجر ما، يكون عوناً لهن ولأسرهن الواقعة تحت ضغوط الكارثة المعيشية التي تضرب بالكادحين من كل صوب, فلجأن للعمل بمنازلهن في معادلة فرضت عليهن قسراً, تمكنهن من الجمع بين العمل المأجور والرعاية بشؤون البيت والأولاد, مجنبات لأنفسهن بالوقت ذاته محاولات الاستغلال البشعة المنتشرة في سوق العمل، ليجدن أنفسهن ضمن معادلة استغلال أخرى عنوانها (شغل شبه مجاني).
استغلال آخر بطله (السمسار)
الغالبية العظمى من عاملات المنازل لا يتعرضن لاستغلال صاحب العمل فقط بل يقعن ضحية الوسيط (السمسار) الذي يحصل على نسبة من عمل القطعة الواحدة تفوق أجرتهن عليها، ويبرر أخذه لهذه المبالغ بأنه المسوؤل عن جلب البضاعة وأخذها من وإلى المعمل، وهي تكلفه الكثير من أجور نقل و(خرجية حواجز)، وبأنه معرض للخسارة بشكل مستمر، فصاحب البضاعة لا يعترف على أي من العاملات في حال نقصت البضاعة أو تلف منها شيء، بل هو سيحاسب الوسيط المؤتمن ويجب الاعتراف بأن جزءاً من هذا التبرير صحيح ولكن النسبة التي يقتطعها الوسيط مبالغ بها كثيراً، فهل يعقل أن يأخذ على القطعة خمس ليرات من صاحب البضاعة ويعطيها للعاملة بليرتين فقط وهو الذي يقوم يومياً بتوصيل ألاف القطع للمنازل.
تعددت المهن والأجر واحد
تقدر أجرة ساعة العمل الواحدة للعاملين بالقطاع الخاص بحدود 200 ليرة سورية، في حين تنخفض للنصف (90-100 ليرة) بالنسبة للعاملات النساء, فمتوسط الأجور الأسبوعية للعاملة في القطاع الخاص لا يتجاوز 5 ألاف ليرة بدوام فعلي لا يقل عن تسع ساعات، هذا طبعاً من خلال عملها بمعمل أو مشغل، في حين يقدر متوسط أجر ساعات العمل بالنسبة للعاملات داخل منازلهن بحدود (50-75) ليرة للساعة الواحدة، مما يفسر لجوء الكثيرين من أرباب العمل لهذا النوع من العمالة المتدنية الأجر بشكل كبير, ولا تؤثر نوعية العمل بشكل كبير على الأجور الممنوحة، بل بفوارق بسيطة، فلا يعتبر الدخل الذي تحصله عاملة (الشك) أعلى من أجر العاملة في (العبي) مثلاً أو بالتغليف والتحضير, وتتنوع مجالات العمل كثيراً فمنها الغذائية (لف سكاكر وبسكوت– تعبئة كروسان وبتفور) ومنها المعدنية (تركيب إكسسوارات– مجوهرات تقليدية) وهناك أعمال النسيج والخياطة ( تعريش– تلصيق بريق وسيلان– تركيب كلف ولصق ريش- أعمال السنارة والصوف) وتصنيع الهدايا والعلب و..الخ، وعموماً يتم حساب الأجرة بناء على عدد القطع فلكل قطعة أجرها ولكن بالمحصلة العامة فكيفما تم الحساب لن تتجاوز أجرة الساعة مبلغ 100 ليرة، أي كل ساعتين سندويشة فلافل.
فرصة ذهبية .. بالنسبة لمن ؟
شهدت ظاهرة العمل المنزلي توسعاً واضحاً بالسنين الأخيرة، وكثرت الإعلانات الملصقة على مداخل الأحياء العشوائية ومناطق المخالفات لتمركز العمالة المستهدفة هناك، كما انتشرت ضمن مراكز انطلاق الباصات والمكروباصات، وغالباً ما تكون تلك الإعلانات مختصرة وغير محددة لنوعية العمل أو أجره بل يكتفي المعلن عنها بديباجة تحمل في طياتها روحا دعائية وكأنها فرصة ذهبية ما، مثلا (فرصة للعمل ضمن المنزل بأجر جيد والخبرة غير ضرورية) ويمكن القول أن هذا الإعلان سيجذب العديد من النساء للاستفادة منه ليتحول عملها فيما بعد لفرصة ذهبية دائمة، ولكنها ستكون من نصيب صاحب العمل لا لأحد سواه.
بيت للسكن أم ورشة للعمل
تتحول البيوت التي يتم العمل فيها لورشة صغيرة، ويتحول أفراد الأسرة كبارهم وصغارهم لعمال حقيقيين، فالجميع مطالب بالمشاركة لإنجاز أكبر عدد ممكن من القطع، وبالتالي لأكبر أجر محتمل، وهذا بحد ذاته يزيد من الأعباء ويجهز على الحياة الاجتماعية، فالأم ستكون مضطرة لتقديم العمل ليصبح أولوية تتقدم على رعاية الأطفال والأسرة والبيت، فيما ستتأثر دراسة الأولاد خلال العام الدراسي وسيتبدل شكل السهرات العائلية المعتادة لنوع آخر يخيم عليه التشنج والتعب والضوضاء، ولن تتنفس العائلة الصعداء قبل أن ينتهي (الخسكار) اليومي.
السياسات الحكومية ابتزاز للعمال
حين بدأت الحكومات السابقة بتطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية، ضاربة الصناعات المحلية الصغيرة التي لم تستطع منتجاتها الصمود أمام سيل السلع الأجنبية عموماً والسلع الصينية والتركية خصوصاً، فأغلقت مئات المشاغل والورشات أبوابها، وسرحت عمالها وخبراتها الفنية والمهنية، وارتفعت معدلات البطالة والفقر وانخفضت القيمة الشرائية للأجور، خاصة أن الحكومات تلك بدأت تتخلى عن سياسة الدعم مما أضر بمجمل العاملين بأجر والمنتجين الصغار، في حين توسعت أعمال الرأسماليين المحليين والمستثمرين وكذلك الفاسدين والناهبين الكبار وقويت أدوات سلبهم لقوة عمل الكادحين ومن ضمنهم العاملات، لتكون تلك السياسات المعبر الأساسي للأزمة الوطنية الشاملة والتي بدورها ومع استمرارها رمت بأثقل أحمالها وتداعياتها على الأغلبية الطبقية الكادحة، فاتحة الطريق أمام المستفيدين منها لممارسة ابتزاز معلن لطبقة كاملة من العمال والكادحين، أبوا إلا أن يأكلوا من كدّ يمينهم فتمسكوا بوطنهم وعملهم وبمسؤوليتهم الاجتماعية ورغم ذلك ما زالت الحكومات تمضي بنهجها الاقتصادي المعادي لمصالح العمال، وما زالت العائلات العمالية بكامل أفرادها من نساء وأطفال تعمل لتأكل على أمل أن يكون الخلاص قريباً.